الإنفلات الأمني وتحديات بناء أمة فلسطينية

حجم الخط
0

الإنفلات الأمني وتحديات بناء أمة فلسطينية

د. طارق مخيمرالإنفلات الأمني وتحديات بناء أمة فلسطينية يعتبر ماكس فيبر ـ مفكر علم الإجتماع الألماني ـ أن التحول من المجتمع التقليدي إلي مجتمع الحداثة، يتطلب تأسيس سلطة عقلانية مركزية تحتكر مصادر العنف القسري، وتمتلك القدرة علي إصدار القوانين الملزمة لكافة المواطنين القاطنين في الإقليم الذي يفترض أن تمارس فيه تلك السلطة سيادتها. فالحداثة ـ وفقاً لماكس فيبر ـ تتطلب إحتكار السلطة المركزية لمصادر العنف القسري كوسيلة لتعزيز قدرتها علي إلزام المواطنين بالقوانين التي تصدرها، والتي يفترض (أي تلك القوانين) أن تكون في حالة تناغم مع مصالح المجتمع بأكمله. هذا هو الشرط الوحيد لضمان إعادة تشكيل وصياغة الولاءات الضيقة (كالولاءات العائلية، العشائرية، القبلية، والحزبية) أو صياغة الولاءات لنسق أيديولوجي يتجاوز حدود الدولة القومية (كأيديولوجية الدولة الإسلامية supra ـ state ideology) لصالح الولاء للأمة، وبالتالي ـ كما يؤكد جول مقدال (Joel Migdal)، أحـــــد أهم مفكري علم الســــياسة في القرن العشـــرين ـ بناء الأمة (Nation Building) بهذا المفهوم، فإن غياب سلطة مركزية، وتعدد مراكز الإحتكار لمصادر العنف القسري، لا يهدد فقط أمن وسلامة المجتمع، وإنما يمتد إلي أبعد من ذلك ليشمل زعزعة شعور المواطن بالإنتماء لأمة متماسكة، وبالتالي تحفيز إنتشار الولاءات الضيقة (كالمشار إليها أعلاه)، أو الولاءات التي تتجازو حدود الدولية القومية (كالولاء لأيديولوجية الدولة الإسلامية)، بين المواطنين. إن ظاهرة إنتشار الولاءات الضيقة، والولاءات لأيديولوجيات تتجازو حدود الدولة القومية، كانت السمة الأساسية للمجتمع الفلسطيني، والتي يمكن القول أنها تعززت منذ توقيع إتفاقيات السلام في العام 1993. وكان لفشل السلطة الوطنية ـ لأسباب كانت في بعض الأوقات خارجة عن إرادتها، وفي أحيان اخري تحت سيطرتها ـ في ترسيخ مبدأ سيادة القانون، وفصل السلطات ـ الأثر البالغ في تعزيز هذه الظاهرة التي ترسخت بشكل غير مسبوق خلال إنتفاضة الأقصي، وأصبحت تهدد ليس فقط أمن المجتمع الفلسطيني، ولكن قدرته علي مواصلة معركته من أجل إنجاز مشروعه الوطني المتمثل بإقامة الدولة المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس. فقد شهدت إنتفاضة الأقصي إجراءات إسرائيلية غير مسبوقة بحق المدنيين الفلسطينيين وممتلكاتهم. فعدا عن أعمال القتل اليومية، دمرت ونسفت قوات الإحتلال الآلاف من المنازل السكنية، وجرفت الآلاف من الدونمات الزراعية. علاوة علي ذلك، مارست قوات الإحتلال ـ في ظل مباركة رسمية من الحكومة الإسرائيلية ـ إرهاب الدولة بأبشع صوره متمثلاً في أعمال الإغتيالات بحق النشطاء الفلسطينيين. وكانت النتيجة الطبيعية لجرائم الحرب الإسرائيلية تكاثر المجموعات المسلحة المنتمية إلي الفصائل الفلسطينية المختلفة كفتح، حماس، الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، من أجل الثأر من تلك الجرائم، وتحقيق الحقوق الوطنية المشروعة في الدولة المستقلة. والأهم من هذا كله، أن تلك الجرائم قلصت من شرعية اي إجراءات قد تتخدها مؤسسة الدولة الرسمية الفلسطينية (السلطة الوطنية) للحد من تكاثر المجموعات الفلسطينية المسلحة.وفي ظل هذا الإنسحاب لمؤسسة الدولة الرسمية، وغياب الوعي المجتمعي لأبعاد وخطورة عسكرة الإنتفاضة، بات من السهل علي المواطن الفلسطيني الحصول علي السلاح وإستخدامه في أغراض تتنافي ـ في أغلب الأحيان ـ مع المصالح الوطنية العليا للمجتمع الفلسطيني. هذا الأمر أفرز ظاهرة تعدد السلطات (Multiplication of authorities)، بدلاً من فصل السلطات (Separation of authorities) كظاهرة أساسية من مظاهر المجتمع الفلسطيني خلال إنتفاضة الأقصي. بكلمات أخري، أصبح المجتمع الفلسطيني يتميز بتعدد مراكز الإحتكار لمصادر العنف القسري، وبالتالي برز العنف كسمة أساسية من سمات هذا المجتمع، وأصبح إستخدام السلاح اللغة المسيطرة لفض النزاعات العشائرية، القبلية، العائلية، والحزبية. وتدهورت الأوضاع الأمنية الداخلية في مناطق السلطة الوطنية من السيئ للأسوأ خلال العامين المنصرمين (2003 ـ 2005)، عندما إنتشرت ظواهر أخري ـ إلي جانب ظاهرة النزاعات القبلية والعشائرية المسلحة ـ مثل إغتيال لمسؤولي أجهزة أمنية فلسطينية، إختطاف مواطنين فلسطينيين وأجانب علي أيدي مسلحين فلسطينيين، مهاجمة مقرات حكومية ودولية ومؤسسات أكاديمية من قبل مسلحين فلسطينيين، إلي جانب تصاعد ظاهرة إستعراض القوة من قبل الفصائل الفلسطينية، مما أدي في إحدي الحوادث إلي مقتل العشرات من المدنيين الأبرياء. وفي ظل إنتشار تلك الولاءات الضيقة، وتلك التي تتجاوز حدود الدولة القومية، يصبح من الصعب إحداث تحولات ديمقراطية جذرية في اي مجتمع. فمسألة التحول الديمقراطي في أي مجتمع لا تتعلق بتحول مؤسساتي، أي بصياغة قاتون إنتخابي عصري، وتوفير كافة الشروط المادية التي تتطلبها الإنتخابات النزيهة والشفافة، بل تتعلق اولا بإحداث تحولات قيمية وفكرية تضع المواطن ككيان قائم بذاته، منفصل عن سياقه العشائري والقبلي، كقيمة عليا، لها الحق في التمتع بعلاقة تعاقدية ذات بعد قانوني وحقوقي مع السلطة المركزية. هذا لا يعني، ولا بأي حال من الأحوال، أن توافر قانون إنتخابي عصري، وتوافر الشروط المادية التي تتطلبها الإنتخابات النزيهة والشفافة، ليست ضرورة. بالتأكيد أن تلك الشروط ضرورة، ولكنها تصبح منقوصة إذا لم يسبقها سياق قيمي وأخلاقي يضع المواطن ـ ككيان قائم بذاته ـ علي سلم أولوياته. فأوروبا لم تكن لتتمتع بالترتيبات الديمقراطية الليبرالية التي تتمتع بها الآن إن لم يكن يسبق ذلك إرث فكري، أبرز الفرد كقيمة عليا، وليس كموضوع (subject) لسياسات السلطة القائمة كما كان الحال في أوروبا الإقطاعية عندما كان العبيد موضوع سياسة السلطة القائمة، وحرموا من كافة الإمتيازات السياسية والإقتصادية التي كان يتمتع بها النبلاء. ففي أوروبا الإقطاعية إرتبط تمتع الفرد بحقوقه المدنية والسياسية بمدي ملكيته لوسائل الإنتاج. هذا الأمر أدي إلي إستثناء قسم كبير من المجتمعات الأوروبية من دائرة الفعل السياسي التي إقتصرت علي شريحة النبلاء ورجال الدين، في ظل علاقة تعاقدية مع السلطة المركزية (الملك). هذه البنية السياسية الإقصائية أعيد النظر فيها إبتداءً من القرن التاسع عشر، علي أيدي مفكرين عظام أمثال كارل ماركس (1818 ـ 1883)، فريدرش أنجلز (1820 ـ 1895)، أميل دوركهايم (1858 ـ 1917)، ماكس فيبر (1864 ـ 1920)، وآخرون. جميع هؤلاء إتفقوا علي ضرورة تجاوز البنية السياسية الإقصائية التي ميزت أوروبا الإقطاعية، وتأسيس بنية سياسية إستيعابية ، تكفل تمتع كافة المواطنين بحقوقهم السياسية والمدنية، كشرط ضروري للإنتقال للمدنية. من هنا جاءت الترتيبات الديمقراطية، ولاحقاً الترتيبات الليبرالية، التي إستكملت النقص الذي عانته الترتيبات الديمقراطية عندما لم تكفل عدم إضطهاد الأغلبية الحاكمة للأقلية المحكومة. فالليبرالية تعني أولا وأخيرا بالحقوق المدنية والسياسية استناداً إلي ترتيبات إقتصادية تقوم أساساً علي فلسفة مفكر علم الإقتصاد الابرز والأهم آدم سميت، وهي فلسفة سياسة اليد الخفية (Laie Fair)، التي تفرض علي الدولة تقليص حجم تدخلها في الإقتصاد إلي اقصي درجة ممكنة، وترك المجال لقوي السوق لتحديد مسار عجلة التطور الإقتصادي، والتوزيع العادل للدخل. فالحديث عن تحول ديمقراطي ليبرالي إذاً لا يقتصر علي الحديث علي إنتخابات دورية تجري بشكل منتظم وفق قانون إنتخابي عصري، إنما ـ وهذا الأهم في إعتقادنا ـ يتعلق بالحديث عن ترتيبات إجتماعية، قيمية، وإقتصادية، ضرورية لجعل هذا التحول تحولاً مستديماً. السؤال الأهم الآن هو: إلي أي مدي عملت السلطة الوطنية منذ نشأتها علي توفير الشروط الإجتماعية والإقتصادية لضمان إحداث تحول ديمقراطي ليبرالي في المجتمع الفلسطيني. من خلال قراءتنا لواقع العقد الأول (1994 ـ 2004) من عمر السلطة الوطنية، نجد أن السلطة الوطنية ممثلة بالحزب المسيطر فتح، ومدعومة بإتفاقيات سياسية لا تحظي بالإجماع الوطني، عملت علي ترسيخ وتثبيت ثقافة الإقصاء في أغلب مؤسسات الحكم التي ولدت بموجب الإتفاقيات المذكورة. فحركة فتح، استطاعت ـ مستفيدة من خطأ تاريخي إرتكبته كافة الأحزاب والقوي السياسية المعارضة لعملية السلام بمقاطعة مؤسسات الحكم التي ولدت بموجب إتفاقيات أوسلو ـ من الهيمنة والسيطرة علي كافة مؤسسات الحكم، سواء مؤسسات المستوي الوطني National/Central ـ Level State Institutions))، مثل المجلس التشريعي والمجلس الوزاري، أو المستوي المحلي (Local ـ Level State Institutions) مثل المجالس البلدية والقروية. إختراق حركة فتح لهذه المؤسسات رافقه تثبيت لسياسة تهميش الآخر . والآخر هنا هو كل ما هو خارج المنظومة المؤسساتية والقيمية للحزب الحاكم (فتح). وكنتيجة، حرم جزء كبير من فلسطيني الضفة والقطاع من التمتع بالإمتيازات التي يكفلها حق المواطنة، واصبح هذا الحق مقتصراً علي تلك الشريحة من الحزب الحاكم التي قبلت أو تسامحت مع القواعد التي تحكم عمل تلك المنظومة. بكلمات أخري، هُمش جزء كبير من فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة من دائرة الفعل السياسي (Demobilized).تهميش جزء كبير من فلسطينيي الضفة والقطاع من دائرة الفعل السياسي رافقه تدهور ملحوظ في الظروف المعيشية لهؤلاء الفلسطينيين، في مقابل رفاهية إقتصادية غير معقولة لكل من هم داخل المنظومة المؤسساتية والقيمية للحزب الحاكم (اي داخل دائرة الفعل السياسي)، بشكل يتنافي ويتناقض مع واقع الإقتصاد الفلسطيني الهش، والمعتمد كلياً علي الإقتصاد الإسرائيلي ومساعدات الدول المانحة. بمعني آخر، أصبحت ممارسة السياسة وسيلة للثراء والرفاه الإقتصادي، وأصبحت العلاقات السياسية ـ وليس علاقات السوق ـ هي التي تتحكم وتحدد كيفية توزيع المصادر الإقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة. في ظل تدهور علاقات السوق والمنافسة الحرة، مُهدت الطريق أمام الشركات الإحتكارية ـ التي عملت في ظل مباركة ـ إن لم يكن مشاركة بعض النخب السياسية الحاكمة ـ للتحكم في توزيع السلع والمواد الأساسية للجزء المهمش سياسياً من الشعب الفلسطيني. ونتيجة، خضع هؤلاء الفلسطينيون للإبتزاز، وتدهورت أوضاعهم المعيشية، خصوصاً في ظل الدخل المتدني للغالبية منهم. وبهذا إستكمل التهميش الإقتصادي عملية التهميش السياسي لهؤلاء الفلسطينيين، وبدا هؤلاء الفلسطينيون في حالة إغتراب عن واقعهم السياسي والإقتصادي، وبرزت حالة من الطلاق بينهم وبين مؤسسة الدولة الرسمية. وفي ظل حالة الطلاق هذه، برزت الحاجة بين هؤلاء الفلسطينيين لأطر إنتماء بعيدة عن إطار الدولة الرسمي. من هنا أعيد إنتاج الأطر العشائرية والقبلية والأطر الأيديولوجية التي تتجاوز حدود الدولة القومية ـ بقوة ـ كوسيلة تعزيز لهوية المواطن. ومع إندلاع إنتفاضة الأقصي في سبتمبر 2000، وما رافقها من عسكرة للمجتمع الفلسطيني، عززت تلك الأطر نفسها بوسائل العنف القسري (السلاح)، وأصبحت تشكل ـ بحد ذاتها ـ سلطة مستقلة منفصلة عن إطار الدولة الرسمي (السلطة الوطنية). هذا التطور أفرز ما يسمي بتعدد السلطات بدلاً من فصل السلطات. وبلا شك أن تعدد السلطات ينطوي علي عواقب كارثية ستعني في نهاية الأمر تدهور شرعية السلطة الوطنية علي المستوي الدولي، وإنسحاب الرأسمال العربي والدولي من مناطق ولايتها، وبالتالي استمرار تدهور الأوضاع الإقتصادية هناك. الأهم من هذا كله، أن إستمرار ظاهرة تعدد السلطات بالشكل المشار إليه اعلاه سيعزز ظاهرة الولاءات الضيقة (كالولاء العشائري والعائلي)، ويعيق مشروع بناء الأمة الفلسطينية ـ وهو التحدي الأهم والأصعب الذي يتوجب علي السلطة الوطنية مواجهته من أجل الرقي بالمجتمع الفلسطيني. وعليه، فإن مهمة تثبيث مركزية السلطة الوطنيـــــة من خلال إعادة النظر في بنيتها السياسية الإقصائية، هي الخطوة الأولي نحو وقف التدهور الأمني، وجمع السلاح غير القانوني. وهي بلا شك مهمة قومية، لا تنفصل ـ ولا تقل أهمية ـ عن مهمة النضال السياسي الذي تمارسه السلطة الوطنية من أجل إنجاز المشروع الوطني الفلسطيني. ہ باحث في قضايا بناء الدولة8

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية