الأردن بين المعارضة والمعارضة الصامتة والولائيين المخلَّقين

حجم الخط
0

ابتداءً، يعني مفهوم المعارضة في الاستعمال التداولي العمومي أن جماعة من المواطنين يختلفون مع الحكومة في جملة ممارساتها السياسية أو الاقتصادية أو مجمل السياسات العامة في الحقول المختلفة، وإذا كانت في المفهوم السياسي مقصورة على الأحزاب السياسية، فإنها في العالم الثالث تتجاوز المسألة الحزبية إلى مستويات متقدمة من الشرائح المجتمعية، وفي حالة كالأردن، تبدو المعارضة صورة من صور التعبير الحر عن الرأي تجاه موقف أو حالة، والذين يختصرون المعارضة بأنها حزب أو جماعة يبدو أنهم أوقفوا تعريفهم على المفهوم السياسي وحسب، في حين أن النقابات المهنية المختلفة عملت منذ بواكيرها على أن تكون فاعلة في إطار المعارضة، ليست بوصف بعضها إسلامية من حيث وجود أو سيطرة الإسلاميين على مجالس إداراتها، وإنما بوصفها هيئة مدنية اعتبارية، لها رؤيتها في الدفاع عن قضايا منتسبيها، في ما يتصل بهم من برامج ذات طبيعة خاصة وأنشطة عمومية أيضا.
ولن نذهب بعيدا، بدا المجتمع الاردني بكل أطيافه ينضوي تحت لافتة المعارضة خلال السنتين الماضيتين، في ظل تنامي الحراك الشعبي المطالب بالإصلاح، الأمر الذي جعل من المعارضة ليس مجرد عبارة لغوية تدلّ على جماعة أو حزب منقطع بنفسه عن إطاره المجتمعي، لقد حولت السياسة الأردنية المجتمع كله إلى معارضة، مع اختلاف الصيغ والأدوات، حتى أن القارئ للمجتمع الأردني يستطيع أن يتبين نوعا جديدا من المعارضة المحمول على معنى ( المعارضة الصامتة )، وهي تتقاطع بعمق مع الأغلبية الصامتة.
تحولت (الدكاكين) الشعبية إلى شبه صالونات سياسية من النوع البسيط والمتواضع، ذلك الذي لا يأبه بربطات العنق وقوة رائحة العطر، وشكل الجلسة وما يقدم من عصائر وحلوى كتلك التي تقدم في بيوت السياسيين، إنها صالونات لديها قدرة فائقة على قياس نبض البلد ودرجة حرارة الشارع، وارتفاع وانخفاض الضغط بطريقة غير قابلة للتكذيب، كنت أختبر قدرتها في إجازاتي السنوية في القرية التي انتمي لها، كبار السن الذين يتوكأون على عصا خشنة وما تبقى لهم من أيام يعيشونها بسلام، تراهم لا يلقون بالاً لأحاديث السياسة والفساد، لكن أعينهم تفضحهم وهي تصغي لأحاديث الشباب والرجال يشكون تردي الاوضاع وضياع مقدرات الوطن، ونهب المال العام واللصوصية التي أصبحت تختبئ خلف الإصلاح، أحدهم يقول (من وين بده الملك يجيب رجال يحكموا البلد ويكونوا نظيفين ومخلصين، إللي بالقدر بتطلعه المغرافة)، يقصد أن هؤلاء هم رجالات الدولة، والملك إن عجم عيدانه وأراد ان يختار سيختار هؤلاء الذين يملأون الفضاء حوله.
آخر يقول، هذه هي المشكلة، في أن يختار الملك ممن حوله وهم بين فاسد أو متورط في فساد أو على ذمة قضية منظورة لأجل غير مسمى، أو على الأقل لديه الاستعداد أو النية للفساد، سواء أكان هذا الفساد عن سبق إصرار وترصد أو عن جهل وعدم قدرة وسوء تقدير.
ترتفع وتيرة المجادلات الشعبية السياسية أمام الدكاكين وفي السهرات، يختلفون في الخطوط الحمراء ويتفقون في أنهم معارضون لكل ما يحدث من تعد على الدولة ومقدراتها والمال العام والولاية العامة، التي أصبحت مثل الخرقة البالية المربوطة بعصا قصيرة يلوح بها لصاحبها، وما ادراك ما صاحبها.. لا يستطيع الناس ان يحصوا عدد المؤسسات المسروقة والمباعة والخاسرة، وعدد الصفقات التي حيكت في الغفلة، وعدد الخيانات للقسم الذي يؤديه الوزير، أن يكون مخلصا للوطن والملك وأن يخدم الناس.. وعدد الثروات الوطنية المسكوت عنها والمتروكة للمستقبل المجهول، والمعلن عنها التي لا يعلم من أمرها إلا اسمها.
هكذا تحول المجتمع الأردني إلى معارضة مهما اختلفت أدواتهم وتباينت سقوفهم وخطوطهم الحمراء والخضراء، والذين يتم شحنهم وطنيا للخروج في مظاهرات الولاء والانتماء أمام الحراكات والمسيرات السلمية، ليسوا سوى حجة وورقة ضغط للتعريض بالحراكات وإلغائها وتشويه صورتها، ومع الاحترام لهؤلاء، ليست المسألة متعلقة بالولاء والانتماء، بقدر ما هي متعلقة بالإصلاح الهش والكاذب، والمصلحون المزعومون، الذين أنتجوا سابقا كل هذا الكم الهائل من الفساد، ولست أدري، هل يعقل أن يصلح الأمور والأحوال والميزانيات من ساهم في خرابها وفسادها.. ربما هم أناس خارقون، يتكيفون مع كل الظروف والأحوال، في الإصلاح هم مصلحون وفي الفساد هم سارقون محترفون، وكذلك تفعل المصالح الخاصة، بإمكانهم أن يكونوا أعداء وأصدقاء في آن معا، فالسياسات الداخلية كالسياسات الخارجية ليس ثمة أعداء دائمون أو أصدقاء دائمون، إنهم متحولون بين هذين الحدَّين، لا يفنون ولا يستحدثون، وإنما يتحولون من شكل إلى آخر، وكما قال المسرحي والروائي الألماني ماكس فريش (الزمن لا يغيرهم.. بل يكشفهم)، ومع هذا الكشف، يبقون يحتفظون بقدراتهم الخارقة على الاستمرارية والتحول.
لكل هذا تحول المجتمع الأردني إلى معارضة صامتة أو متحركة، والفرق بين هذه المعارضة وبين الولاءات المتحركة بكبسة زر امام المعارضة، أن هذه الأخيرة وطنية بامتياز في منهجيتها وأفكارها المعارضة ورؤيتها المختلفة للإصلاح، وأيضا في لحظات الحسم وعند المنعطفات الحادة تخلع ثوب المعارضة لتكون قادرة على إنجاز استجابة كبيرة بحجم التحدي، كما هو الحال فيما ورد في خطاب الأسد الأخير، حين دعاها بطريقة غير مباشرة لكي تتحرك ضد دولتها، متصورا بخياله المريض أن المعارضة الأردنية يمكن أن تكون مرتزقة، كيف إذن تستطيع مسيرات الولاء المخلَّقة آنياً أن تكون وطنية في رفضها للفساد ومحاربة المفسدين، وأن تكون ولائية في مواقف الولاء الحقيقية ومعارضة في مواقف المعارضة الحقيقية..؟

‘ كاتب اردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية