الأخوة الأعداء في تونس

حجم الخط
0

مَن حضر، أو سمع أو تابع عبر الشاشات ما حدث يوم الاحتفال بعيد الشغل في شارع ‘الحبيب بورقيبة’ بالعاصمة التونسيّة، لا يمكن إلا أن يزداد تشاؤما، ويتملّكه الخوف من المستقبل، وهو يرى فريقا مما يسمّى عبثا النخبة السياسية يعتدي على أبسط قواعد التعايش السلمي، ويدكّ أسسَ التنوّع السياسيّ الخلاق، بما تملكه الحنجرة من قدرة على الصراخ في الشوارع، يتبعها إيقاع أكفّ الأنصار وهي تصفق بحرارة. فقد انحدر الخطابُ السياسي في تونس إلى مستوى من الإسفاف والسباب، يعزز الشك في استحالة قيام توافق سياسي على المستوى القريب أو البعيد، وينذر بتوتر قادم سيزيد البلاد شقاء جديدا على بلاء قديم.
وإذا ما قبل العاقل، من دون تبرير، بعض التجاوزات التي تصدر عن العامة المحكومة أبدا بالعاطفة والتعصب الأعمى، فإنه لا يمكنه أن يبرر، أو أن يجد الأعذار لمن تصدّى للعامة يوجّهها ويؤطّرها فإذا به ينزل إلى مستواها في الاستفزاز، والحث على العنف اللفظي الذي غالبا ما تترجمه السواعد المفتولة على الأرض.
ماذا يعني أن ينسى مَن زكّاه الرئيس المنصف المرزوقي على رأس معهد الدراسات الإستراتيجية، لأسباب لم تقنع الأكاديميين الراسخين في العلم، أنه مدعو إلى التحفظ ،والترفع عن المهاترات السياسية، احتراما للمنصب المهم الذي يشغلــــه؟ وما فائــدة أن ينخرط من قُدِّم للناس على أنّه أكاديميّ ينشر مقالاته في موقع الجزيرة.نت، في خطاب حزبي تعبوي يتناقض مع الأهداف التي من أجلها تكوّن معهد الدراسات الإستراتيجية؟
إلى هذه الدرجة لم يعد صدر السياسي المتلهف على السلطة، والمتشبث بها يتسع لقبول المختلِف والمتنوّع؟ فهل وقعت تزكية السيّد مدير مركز الدراسات الإستراتيجية ليكون ناطقا رسميّا باسم حزب أو تيار بعينه كما عاش رئيسه أَشْهُرَ حكمه رئيسا لبعض التونسيين بامتياز؟ أين نامت الحكمة السياسية؟ وأين اختفت صفات القائد السياسي الذي يتجاوز الاختلاف ويستوعب التنوّع خدمة للصالح العام؟
لقد كان حريّا بهذا المناضل الذي قاوم بن علي بشراسة عبر الجريدة التونسية اليوميّة التي كان يكتب فيها، وأفقده لذة النوم طيلة سنوات حكمه، أن يوجه اهتمامه إلى ما يجري اليوم في جبل الشعانبي الذي يشهد معارك شرسة تخوضها وحدات من الجيش التونسي والحرس الوطني ضد إرهابيين تحصّنوا بالجبل استعدادا للقيام بعمليات نوعية تستهدف المدنيين، وتوزع الموت على من اعترض سبيلهم بالصدفة، أليس من مهام هذا المعهد الذي يعيش بالتمويل العمومي إنجاز الدراسات التي تبحث في السبل الكفيلة بمحاربة الإرهاب إقليميا ودوليا؟
وإذا ما طُبِّقَتْ على هذا المناضل نظرية السيّد لطفي زيتون (أين كنت قبل 14 كانون الثاني/يناير؟) فإن باب جهنم سيفتح على مصراعيه في وجه هذا الشاب الذي توهم أن الذاكرة معطبة وأن ‘الزهايمر’ قد أصابها بداء لا يرجى منه شفاء.
ومن الشعارات التي لا يمكن أن يوجد لها تبرير في تونس الجديدة ‘موتوا بغيظكم’. إذ ليس من شِيَمِ الإسلام أن يدعو فريق على آخر بالموت. ولا يجب أن ينتهي الصراع السياسيّ مهما ارتفعت حدّته، بموت فريق غيظا أو فيضا، ونجاة آخر بل بانتصار رؤية سياسية، ومقاربة اقتصادية اجتماعية، على أخرى لأنّها وجدت الصّدى والحظوة عند الجماهير. والمنتصر في المعركة السياسية الشريفة لا ينظر إلى خصومه على أنهم جثث يتوجب التخلص من روائحها النتنة بسرعة بل يذهب، عن حكمة ووعي، إلى خصومه يدّك عروشهم بالنفاذ إلى أنصارهم، وإقناعهم بأفكاره حرصا على السلم الأهليّ. وعلى هذا النحو، فإنّ شعار ‘موتوا بغيظكم’ لا يصدر إلا عن نفس مريضة، ترى الموتَ لأعدائها، وتمنع الحياة عن غيرها.
ويقتضي الإنصافُ الإشارةَ إلى نأي كثير من نخبة الحزب الحاكم بنفسها عن السفاسف السفسطائية، واختيارها مراقبة المشهد عن بعد من دون التورّط بالسّباحة في أوحاله. فالناظر إلى خطاب سمير ديلو أو العجمي الوريمي يتبيّن أنّهما لم يفقدا البوصلة السياسية رغم المطبات، والمشاحنات التي لا ينجو من تجاذباتها أيّ سياسيّ.
بات أكيدا أنّ وَرَما قد لا يرجى منه شفاء، أصاب الممارسة السياسية في تونس فغابت الحكمة حين تأكّد حضورها في هذا الزمن الصعب.

‘ كاتب تونسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية