اشكالية التفاوض والاعتراف باسرائيل كأنموذجين: الديني والسياسي في فكر حماس
أسامة أبو ارشيداشكالية التفاوض والاعتراف باسرائيل كأنموذجين: الديني والسياسي في فكر حماس بعد حجم النفوذ الذي اتضح أن حماس تتمتع به شعبيا من خلال صناديق الاقتراع، حان الأوان للاجابة علي بعض الأسئلة الصعبة، ان لم تكن المحرجة والبنيوية، من قبل حركة حماس، خصوصا منها ما يتعلق بمسألتي التفاوض والاعتراف باسرائيل، وهما المطلبان اللذان يجري الضغط بهما عليها الآن، فلسطينيا، وعربيا، واسلاميا، ودوليا. هذه الورقة تسعي الي مناقشة بعض اسقاطات الديني والسياسي لدي حركة حماس، خصوصا وأنها تعيش حاليا مخاضات التحول ـ ان كتب لمسيرة هذا التحول أن تستمر ـ من موقع المعارضة الناقدة الي موقع المسؤولية بجسامتها، حتي وان لم تتسلمها فعليا، ولكنها ستحاسب علي أساس منها. جدلية الديني والسياسيلعله من نافلة الكلام، القول ان حماس حركة اسلامية، وبأنها امتداد فكري وتنظيمي لمدرسة الاخوان المسلمين، وهي المدرسة التي لا تري فواصل في تفكيرها بين الديني والسياسي. فالاسلام بالنسبة للاخوان المسلمين، ولحركة حماس كذلك، يؤطر كل مناحي الحياة بكل تفاصيلها.وحسب الامام حسن البنا، مؤسس جماعة الاخوان المسلمين، التنظيم الأم لحماس، فان الاسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا؛ فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون، أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغني، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء . وفي هذا السياق نجد أن حماس تستعير ذات الفهم. ففي المادة الأولي من ميثاقها، تؤكد حماس علي مفهوم شمولية الاسلام، حيث أن الاسلام منهجها، منه تستمد أفكارها ومفاهيمها وتصوراتها عن الكون والحياة والانسان، واليه تحتكم في كل تصرفاتها، ومنه تستلهم ترشيد خطاها . ولما كان اطار تفكير الحركة ومضامينه ومقارباته دينيا، فان ذلك انعكس أول ما انعكس علي مقاربتها للقضية الفلسطينية. ففي المادة الحادية عشرة من ميثاقها، تري الحركة بـ أن أرض فلسطين أرض وقف اسلامي علي أجيال المسلمين الي يوم القيامة، لا يصح التفريط بها أو بجزء منها أو التنازل عنها أو عن جزء منها.. . وبناء علي ذلك، وحسب المادة الثالثة عشرة من ذات الميثاق تؤكد حماس علي تعارض: المبادرات، وما يسمي بالحلول السلمية والمؤتمرات الدولية لحل القضية الفلسطينية مع عقيدة حركة المقاومة الاسلامية، فالتفريط في أي جزء من فلسطين تفريط في جزء من الدين . ومن ثمَ وتأسيسا علي ذلك فانه، وحسب ذات المادة: لا حل للقضية الفلسطينية الا بالجهاد، أما المبادرات والطروحات والمؤتمرات الدولية، فمضيعة للوقت، وعبث من العبث، والشعب الفلسطيني أكرم من أن يعبث بمستقبله، وحقه ومصيره . هذا كان طرح حماس وهي في صفوف الادانة لمن كان يتولي مقاليد الأمور، وهي هنا فتح تحديدا، تحت غطاء منظمة التحرير الفلسطينية، فماذا عن طرح حماس بعد أن أصبحت اعلاميا وشعبيا، وربما عمليا في موقع المسؤولية؟في الحقيقة فان ثمة بونا شاسعا ما بين النص المطلق شرعا، وما بين اسقاطاته النسبية. كما أن ثمة فارقا بين ما ينبغي أن يكون عليه الحال، وما هو كائن عليه فعلا. وهاتان قضيتان ينبغي أن تعيد حماس النظر في مقاربتهما ـ علي أساس أن مرجعيتها اسلامية ـ بعد تغير وضعها القانوني والسياسي من معارضة الي مسؤولة. ولكن كيف تتم اعادة النظر فيما يحسب أنه نص شرعي اسلامي؟هنا مرة أخري لا بد من العودة الي المعطي الأول الذي قدمنا به في هذا السياق وهو أن النص الشرعي مطلق فعلا، ولكن اسقاطه ليس مطلقا ولا هو معصوم، بل هو نسبي، ويتكيف مع الواقع وتحدياته. ولذلك، فقد يكون صحيحا من ناحية شرعية أن فلسطين أرض وقف اسلامي، وبأنه يحرم التنازل عن أي شبر منها اسلاميا، ولكن آلية اسقاط هاتين القاعدتين في فضاء الواقع القائم، قضية أخري تحتاج الي مرونة وتفهم لتحدياته. وقبل أن نستطرد في هذا السياق، فان ثمة ملاحظة هامة ينبغي التنبيه عليها هنا، ألا وهي أن واحدا من أكبر الأخطاء المنهجية التي ارتكبها الاسلاميون في الماضي هو هذا الخلط غير الدقيق ما بين اطلاقية ومعصومية النص، واطلاقية ومعصومية اسقاطه، وهي القضية محل الخلاف، والتي قادت الي تقييد وتكبيل مرونة الحركات الاسلامية في كثير من الحالات، بحيث أضحت مراجعة أي حركة اسلامية لفهمها في سياق آليات الاسقاط من النص علي الواقع، أمرا مستهجنا، من كلا أنصارها ومناوئيها، علي أساس أنها تخلت عن مبدأ اعتقادي عندها، علي الرغم من أنه في حقيقته مسألة اجتهادية في آليات وطرائق الاسقاط. ولذلك فعادة ما تجد الحركة الاسلامية نفسها في مثل هذه الحالات في وضع لا تحسد عليه، خصوصا أمام قواعدها وأنصارها، وذلك لأنها ربتهم في الأصل علي الاقتناع بقدسية اسقاط النص وفهمه، كما كانت تراه يوما، كدرجة اقتناعهم بقدسية النص نفسه. بمعني آخر فهي قد رسخت في أذهانهم تماهي الاثنين، وها هي اليوم عند أول اصطدام بجدار الواقع تنقلب علي هذا القيد الذي كبلت به نفسها، وهي الآن أمام خيارين أحلاهما مر: فاما التضحية بقواعدها وأنصارها، واما الاصرار علي استكمال طريق ثبت لديها أنه بلا نهاية، ولكنها لا تستطيع التصريح بذلك. وحماس اليوم تجد نفسها علي مفترق الأزمة هذا. فهي قد رسخت في أذهان قواعدها ومناصريها، حرمة الاعتراف بوجود اسرائيل القطعية، وحرمة التفاوض معها. ولكنها لم تلبث بعد حين أن بدأت تدرك حجم تعقيدات الواقع أمام جمود اسقاطاتها. فكان أن بدأ الحديث الموارب منذ منتصف عقد التسعينيات من القرن الماضي، عن امكانية قبول هدنة زمنية مؤقتة مع اسرائيل، علي أساس الانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو ما يعني الاعتراف ضمنيا بوجود اسرائيل علي الأراضي المحتلة عام 1948، لفترة من الزمن تحددها الهدنة، عادة ما تطرح علي أنها عشر سنوات قابلة للتجديد، استلهاما للتجربة النبوية الشريفة في صلح الحديبية. وحتي عندما طرح الدكتور موسي أبو مرزوق في (19/4/1994)، ما سمي بالمبادرة السياسية لحركة حماس، وحينها كان رئيس المكتب السياسي للحركة، والتي قامت علي أسس أربعة يستحيل أن تعترف بها اسرائيل، تشترط الانسحاب الكامل من الضفة الغربية من قطاع غزة والضفة الغربية والقدس دون قيد أو شرط؛ وتفكيك وازالة المستوطنات وترحيل المستوطنين من الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس؛ وتعويض الشعب الفلسطيني عن الخسائر والضحايا الناجمة عن الاحتلال؛ واجراء انتخابات تشريعية حرة ونزيهة للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج لانتخاب قيادته وممثليه الحقيقيين المناط بهم تحديد الوجهة المستقبلية للقضية… عندما طرحت هذه المبادرة والتي رفضتها اسرائيل ثارت الدنيا ولم تقعد، واضطرت حماس الي اصدار بيان توضيحي بعد يومين فقط من المبادرة (21/4/2005) تؤكد فيه علي مواصلة الجهاد والعمليات العسكرية ضد العدو المحتل.. حتي تحرير كامل أرضنا الفلسطينية المغتصبة من البحر الي النهر ، من دون أن تشير الي قرارات الشرعية الدولية، التي تعتبر الضفة الغربية وقطاع غزة وشرقي القدس أراضي محتلة، وهي التي ألمح لها أبو مرزوق في مبادرته الأولي. وبدل ذلك شدد بيان حماس التوضيحي: لم تتضمن التصريحات والبيانات المذكورة ما حاول البعض الترويج له، من أن في ذلك اعترافا من حركة حماس، بالكيان الصهيوني الغاصب، أو الموافقة علي قرار مجلس الأمن رقم 242، أو التنازل عن برنامج حركة حماس وثوابتها الاسلامية الأصيلة، باعتبار فلسطين أرضا اسلامية، لا يجوز التنازل عنها أو التفريط بها أو المساومة عليها . لا شك أن أنصار حماس ومحبيها وقواعدها هي من اضطرت الحركة الي اعادة تغيير مفردات خطابها السياسي الواقعي، فهي ربتهم أصلا علي ذلك. وعلي الرغم من أن المبادرة لقيت بعض الترحيب المتحفظ من وزير الخارجية الأمريكي حينئذ، وارن كريستوفر، وبعض المسؤولين الاسرائيليين، الا أن هذه المبادرة دفنت، في لحظة كانت فيها حماس حديث العالم لحجم الألم الذي أحدثته لاسرائيل ردا علي مذبحة الحرم الابراهيمي، عبر عمليات ردها العنيفة عليها. أي أنها كانت في موقع قوي لعقد صفقة سياسية، ربما كانت ممكنة، دون أن يعني ذلك الجزم بهكذا أمر. صحيح أن آلية الهدنة تبلورت بشكل أوضح في خطاب الحركة بعد ذلك، وذلك بعد دخول الشيخ أحمد ياسين برمزيته ومصداقيته علي هذا الخط، خصوصا تصريحه المشهور في (9/1/2004) الذي قال فيه ان حركته تقبل اقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وفق حدود 1967، مقابل هدنة مع اسرائيل، دون أن يوضح الي متي قد تستمر هذه الهدنة. وكذلك تصريحات الدكتور عبد العزيز الرنتيسي لوكالة رويترز للأنباء في (25/1/2004) أن حماس توصلت الي نتيجة مفادها أنه من الصعب تحرير كل الأراضي الفلسطينية في هذه المرحلة؛ ولذلك فهي تقبل تحريرا تدريجيا . موضحا أن حماس تقترح هدنة تستمر 10 سنوات مقابل انسحاب اسرائيل، واقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية بما في ذلك القدس وقطاع غزة… ان الهدنة يمكن أن تستمر 10 سنوات، ولكنها لن تزيد عن 10 سنوات . لكن الرنتيسي قال: ان أي اقتراح جديد من هذا القبيل لا يعني أن حماس اعترفت باسرائيل أو نهاية الصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني . وفعلا، فقد قدمت حماس هدنتين والتزمت بهما، واحدة خلال رئاسة أبو مازن لرئاسة الوزراء في (29/6/2003) وتحللت منها بعد أقل من شهرين، وتحديدا في (21/8/2003)، وذلك بسبب اغتيال اسرائيل للقيادي البارز في حماس، المهندس اسماعيل أبو شنب. والثانية التي لا زالت تلتزم بها منذ أواخر عام 2004، علي الرغم من أن مدتها الزمنية قد انتهت مع نهاية العام الماضي، وعلي الرغم من أن اسرائيل لم تدع طريقة الا وجربتها لاستفزاز حماس وجرها الي رد فعل، بما في ذلك من اغتيالات واعتقالات، الا أن الحركة وبصبر يحسب لها، فوتت علي اسرائيل كل هذه الفرص والمحاولات. فحماس كانت تنظر الي حصد الشرعية السياسية بعد الشرعية النضالية التي حققتها عبر بندقيتها وعملياتها، والشرعية الشعبية التي عمدتها بدماء قادتها وتضحياتها والانتخابات البلدية، وأخيرا الشرعية السياسية، التي صدمت بها الجميع من خلال صناديق اقتراع المجلس التشريعي. فكان أن حازت حماس العز من كل أطرافه، نتيجة الحكمة والمرونة اللتين تتمتع بهما قيادتها. اذن، حماس مرنة أكثر مما يظن خصومها، ولكن أرضية تعزيز هذه المرونة بحاجة الي اعادة نظر من قبل حماس، وذلك في أفق اعطائها دفقا جديدا، ومزيدا من المرونة. بمعني أن مرونة حماس نابعة من صبرها لنيل أهداف أعلي وأسمي من مجرد عملية انتقامية أو الانجرار الي رد فعل آني، ولكن تأسيس المرونة علي أرضية دينية، علي أساس أنها حركة اسلامية، سيكون أجدي وأمضي أثرا للحركة، وذلك حتي لا تبقي أسيرة أفهام خاطئة واسقاطات جامدة ليس لها من القدسية غير التلقين الخاطئ، علي الأقل كما يري صاحب هذه السطور.في هذا السياق، تبرز قضية التفاوض مع اسرائيل، والتي يعتبرها ميثاق الحركة خطا أحمر، الا أن تصريحات قيادات الحركة الآن تبدو أكثر مرونة، الي الحد الذي يعلن فيه الدكتور محمود الزهار أحد أرفع قياديي حماس وفي مؤتمر صحفي عقده بغزة يوم الاثنين (23/1/2006) ان: المفاوضات ليست حراما.. ولكن الجريمة السياسية هي عندما نجلس مع الاسرائيليين ونخرج بابتسامات عريضة، ونقول للفلسطينيين ان هناك تقدما، والحقيقة غير ذلك . مضيفا: المفاوضات هي وسيلة.. اذا كان لدي اسرائيل ما يمكن أن تقدمه في موضوع وقف الاعتداءات.. في موضوع الانسحاب.. في موضوع اطلاق سراح المعتقلين.. فهنا يمكن ايجاد ألف وسيلة . أما الشيخ محمد أبو طير النائب الناجح عن حماس في القدس، وفي تصريحات نشرتها صحيفة هآرتس الاسرائيلية في منتصف الشهر الماضي، فيعلن استعداد الحركة للتفاوض مع اسرائيل، وتحقيق نتائج أفضل في التفاوض من غيرها. ويذهب رئيس المكتب السياسي للحركة، السيد خالد مشعل في ذات الاتجاه في مقابلة مع قناة العربية في (25/1/2006)، عبر مساءلة الفائدة المرجوة من المفاوضات لو جرت، والتي لا يري لها أفقا أو فائدة. ولكننا لم نسمع من قيادي بارز لحماس في موقع المسؤولية رفضا لمنطق التفاوض علي أساس حرمة الأمر شرعا، وهذا بحد ذاته تقدم ينبغي أن يلتقط ويسجل في سياق قراءة فكر ومسلكية حماس السياسية. ولكن مرة أخري، وعودة الي المربع الأول، لماذا لا تؤسس حماس لهذه المرونة علي أرضية دينية بما أنها حركة اسلامية؟ ولماذا لا تبدأ من الآن في تغيير آليات ومفردات تفكير قواعدها ومناصريها في قضية النص واطلاقيته والاسقاط ونسبيته؟ فهذا سيعطي للحركة مرونة أكبر في التعاطي مع التحديات القائمة. المطروح هنا ليس التخلي عن الشعارات، والتشكيك في النص، ولكن اعادة تكييف فهمه واسقاطه علي واقع صعب ومعقد، وشروطه لا تسير في مصلحة الحركة، ولا حتي القضية الفلسطينية في المرحلة الراهنة. الخبرة النبوية والتاريخية الاسلاميةان الخبرة النبوية والتاريخية الاسلامية تقدم لحماس مثل هذا المخرج، ومثل هذه الأرضية الشرعية. فخبرة صلح الحديبية فيها الكثير من الدروس والعبر. لقد سار رسول الله صلي الله عليه وسلم بحوالي ألف وأربعمائة من أصحابه في السنة السادسة هجرية، بنية العمرة، ومنعتهم قريش من الوصول الي الكعبة وتأدية العمرة وكاد يقع قتال كبير، كان من المحتمل أن ينهزم المسلمون فيه، أو تنهزم قريش. فموازين القوي لم تكن بالضرورة مائلة للمسلمين، ولكنها أيضا لم تكن مائلة بشكل صارخ لقريش في ذلك الوقت. ومع ذلك رضي رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يوقع مع قريش صلح الحديبية، علي ما فيه من أمور رأي فيها الصحابة من تنازلات كبيرة، من مثل عودتهم عن البيت في ذلك العام والعمرة في العام التالي، ورد المسلمين من يأتيهم من قريش مسلما، في حين لا ترد قريش من يأتيها من المسلمين مرتدا. ولفهم حجم الصدمة وأثرها علي الصحابة، فلنتدبر في هذه التساؤلات التي يطرحها عمر رضي الله عنه، ونقاشه مع الرسول صلي الله عليه وسلم، والصحابي الجليل أبو بكر رضي الله عنه، حسبما جاء في صحيح الامام البخاري: قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَابِ، فَأَتَيْتُ نَبِيَ اللَهِ صَلَي اللَهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ، فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَ اللَهِ حَقا؟ قَالَ: بَلَي. قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَي الْحَقِ وَعَدُوُنَا عَلَي الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَي. قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِ الدَنِيَةَ فِي دِينِنَا اِذا؟. قَالَ: اِنِي رَسُولُ اللَهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي. قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِثُنَا أَنَا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَي. فَأَخْبَرْتُكَ أَنَا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قَالَ: قُلْتُ لا. قَالَ فَاِنَكَ آتِيهِ وَمُطَوِفٌ بِهِ. قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَ اللَهِ حَقا؟ قَالَ: بَلَي. قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَي الْحَقِ وَعَدُوُنَا عَلَي الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَي. قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِ الدَنِيَةَ فِي دِينِنَا اِذا؟ ـ قَالَ: أَيُهَا الرَجُلُ اِنَهُ لَرَسُولُ اللَهِ صَلَي اللَهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ.. فَوَاللَهِ اِنَهُ عَلَي الْحَقِ. قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِثُنَا أَنَا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَي. أَفَأَخْبَرَكَ أَنَكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ فَاِنَكَ آتِيهِ وَمُطَوِفٌ بِهِ.. . قَالَ الزُهْرِيُ: قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالا.. وفي رواية: وكان عمر يقول ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به ). قد يقول البعض هنا، بأن رسول الله مأمور من الله عز وجل ومسدد بعلمه، وهذا أمر لا يجادل فيه مسلم مؤمن بهذا الدين، وقد يقول بعض آخر بأنه قد كان ثمة توازن للقوي لا اختلال صارخا في موازينه، وهذا أيضا صحيح، بمعني أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يفاوض من موقع ضعف. ولكن هذا لا ينفي أبدا أن رسول الله صلي الله عليه وسلم، تصرف أيضا كقائد سياسي راعي مصالح رسالته وأمته، ونحن أمرنا بأن نتخذ الرسول قدوة لا مبلغا فقط. واذا كان في الحديبية توازن للقوي، فان غزوة الخندق لم يكن فيها ذلك التوازن. حيث كانت الغلبة العددية والمادية لقريش وحلفائها من الأحزاب. مرة أخري، أنا لا أتحدث هنا عن ميزان القوي عندما تتدخل الارادة الالهية، وذلك حتي لا يسيء البعض الفهم، وانما أتحدث عن ميزان القوي المادية بين الطرفين. والدليل علي ذلك أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لما طال الحصار علي المسلمين في الخندق، رأي أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف ـ رئيسي غطفان ـ علي ثلث ثمار المدينة وينصرفا بقومهما. وجرت المفاوضة علي ذلك. واستشار رسول الله صلي الله عليه وسلم السعدين: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، رضي الله عنهما، فقالا: ان كان الله أمرك: فسمعا وطاعة. وان كان شيئا تحب أن تصنعه صنعناه. وان كان شيئا تصنعه لنا، فلا. لقد كنا نحن وهؤلاء القوم علي الشرك وعبادة الأوثان وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة الا قري أو بيعا. أفحين أكرمنا الله بالاسلام وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم الا السيف. فصوب رأيهما . وقال انما هو شيء أصنعه لكم، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة . فالشاهد هنا، أنه لم يكن أمرا من الله، ولكنها السياسة والتفاوض والكياسة، حتي وان تضمن الأمر خسارة آنية لمصلحة أكبر. فالرسول كما كان مبلغا ورسولا، كان قائدا سياسيا واماما، واللتان هما جزء من الديني، اسلاميا، بحد ذاتهما. وفي هذه الواقعة العبرة الأكبر. وفي التجربة التاريخية الاسلامية، يبرز صلح الرملة الذي وقعه صلاح الدين الأيوبي مع ملك انكلترا وزعيم الحملة الصليبية الثانية ريتشارد (قلب الأسد). فصحيح أن صلاح الدين قد هزم الصليبيين في معركة قاصمة في حطين مهدت له الطريق لتحرير القدس، الا أن ذلك لم يعن نهاية الصليبيين، الذين جاءهم المدد من أوروبا عبر المدن الساحلية الفلسطينية، أين كانت ثمة بقايا وحصون لهم.خلاصات واقتراحاتان ما تسعي هذه السطور الي الخلوص اليه يتمثل بثلاث نقاط رئيسية:أولا: ان ما تقترحه هذه السطور ليس الغاء الشعارات ولكن اعادة تكييفها في ضوء الواقع، وذلك عبر نزع القدسية عن التفسير والاسقاط والتي هي من نصيب النص الشرعي فحسب. فلا يمكن لحماس أبدا أن تجزم بحرمة التفاوض شرعا مع اسرائيل في ظل شروط معينة وبناء علي مدة زمنية محددة. ويبدو أن حماس قد وصلت هذه المرحلة من النضج، كما أوضحنا سابقا، ولكنها لم تحسم تأسيس هذه الرؤية علي أرضية شرعية من السهل استلهامها من التجربة النبوية والاسلامية التاريخية. ثانيا: في قضية الاعتراف باسرائيل، والتي تعتبرها حماس خطا أحمر، ينبغي اعادة النظر فيها علي أسس شرعية وسياسية مصلحية. فثمة تجربة صلح الرملة والذي اعترف فيه صلاح الدين بحكم الصليبيين للساحل الفلسطيني لمدة محددة. حماس تطرح اليوم هدنة محددة زمنيا، ولكن في عالم اليوم، توجد اتفاقيات ومعاهدات، وحماس ترفض أي صيغة للعلاقة مع اسرائيل أبعد من الهدنة. طبعا تخوف حماس مرده الي أن ذلك سيقود الي قضية الاعتراف بوجود اسرائيل. ولكن حماس تملك ورقة قانونية قوية تخرجها من الحرج، وهي أن تعترف باسرائيل كأمر واقع، وهو الاعتراف بالوجود، وهو الاعتراف المتعارف عليه دوليا وتتبادله الدول في العادة، ويمكن سحبه والغاؤه وتعديله، في حين أن الاعتراف بحق الوجود، والذي تطالب به اسرائيل والولايات المتحدة، لا يمكن الغاؤه وسحبه ولا حتي تعديله، أي أنه أبدي. ان هذا سيعطي لحماس ورقة لتفاوض عليها، كما سيعطي للولايات المتحدة واسرائيل ورقة لتبني عليها آمالا بامكانية ترويض حماس، أو التهدئة معها لحين، والأمر حينها للعبة المفاوضات، ومهارة كل طرف وطبيعة الأوراق التفاوضية التي يستطيع أن يضعها علي طاولة المفاوضات. والأمر الذي ينبغي أن يكون واضحا هنا، هو أن لعبة السياسة لا تخضع للحق والعدل وانما لشيء واحد هو: ميزان القوي. بل أبعد من ذلك ان العدل في لعبة الأمم لا يُعَرَفُ الا بالقوة. وعلي الرغم مما في هذه المقاربة من وحشية، الا أنها للأسف حقيقة قائمة. ومن ثمَ فان قبول حماس بقرارات الشرعية الدولية، أو علي الأقل الاحالة لها مواربة، كما فعلت كثيرا من قبل، والتي تنص (أي هذه القرارات)، علي الاعتراف باسرائيل، لا بحق وجودها، سيمثل احراجا لاسرائيل والغرب، خصوصا أوروبا في هذا السياق. فحماس تطالب بتطبيق الشرعية الدولية التي يتباكي عليها الجميع دون أن يلتزموا بها. وقرارات الشرعية الدولية هنا، تنص علي دولة فلسطينية في كامل الضفة الغربية وقطاع غزة، بما في ذلك شرقي القدس، وتفكيك وترحيل المستوطنين من كل الأراضي المحتلة عام 1967، وتعويض اللاجئين وعودتهم، وهو ما قبلته حماس في تصريحات كثيرة، ويبقي بعد ذلك قضية الاعتراف باسرائيل، والتي يمكن لحماس، مرة أخري، عبر لغة مواربة، تجاوزها ضمنا. فهي قد قبلت ضمنيا بقرارات الشرعية الدولية، فبذلك هي فعليا اعترفت باسرائيل، وفي ذات الوقت لا تجاهر بذلك وتبقي أمل التحرير لدي أنصارها دون خرق التهدئة ولا التصعيد العسكري، وبذلك تهدئ من روع قواعدها. أي أن حماس عبر صيغة ابداعية قادرة علي أن تتعاطي مع طرفي النقيض في هذا السياق، وهي عمليا تفعل ذلك، من خلال تصريحات ومبادرات الهدنة السابقة، ولكنها تنكمش أمام الغرب عندما يصل الأمر الي مسألة الاعتراف أو التفاوض مباشرة مع اسرائيل. وقد تخشي حماس هنا توجيه الاتهام لها بأنها قبلت بما كانت تعيبه علي فتح وياسر عرفات، وما قبلوا به في اتفاقات أوسلو، ولكن حماس تملك فعليا ردا علي ذلك لو أرادت. فمنظمة التحرير قبلت بحق اسرائيل في الوجود، وليس بوجودها فقط، كما يظهر ذلك جليا في رسائل الاعتراف المتبادلة بين المنظمة وحكومة اسرائيل في (9/9/1993)، وجاء في رسالة المنظمة تعترف م. ت. ف بحق دولة اسرائيل بالوجود بسلام وأمن ، وهي الصيغة القانونية الأعلي في الاعتراف المتبادل بين الدول، ويندر التعامل به، هذا ان وجد أصلا، لأنه يرتب التزامات تاريخية ودينية مستقبلية، تؤكد في السياق الفلسطيني المزاعم التاريخية والدينية لليهود في فلسطين، وهذا أمر يرفضه المسلمون. في حين أن الصيغة المطروحة أو المطلوبة من حماس هو اعتراف بالأمر الواقع، كما تنص علي ذلك قرارات الشرعية الدولية. وهو الأمر الذي لا يرتب التزامات دينية وتاريخية ومستقبلية. ثالثا: صحيح أن حماس اكتسحت الانتخابات لبعدها عن الفساد وعدم تخليها عن روحية المشروع الوطني الفلسطيني وآماله، الا أن ذلك لا يعني أن غالبية الفلسطينيين لا تريد من حماس أن تفاوض اسرائيل، بل هم لا يريدون ذلك المستوي من التفاوض الذي سلكته فتح. ولذلك فان ما قاله قيادي حماس في القدس أبو طير، بأنهم أقدر علي التفاوض مع اسرائيل، قد يكون أمرا يريده الكثير من الفلسطينيين ويتوقعونه من حماس، وذلك عبر توظيف أوراق القوة التي يملكها الشعب الفلسطيني علي طاولة المفاوضات، لا نزعها جملة واحدة، كما فعل طاقم منظمة التحرير المفاوض. وذلك بذات القدر الذي يتوقعون منها (أي حماس) مستوي ادارة أفضل وتحسين لأوضاعهم المعيشية والأمنية والاقتصادية… الخ.ان هذه الورقة لا تهدف أبدا الي اقناع حماس علي أن تسلك طريق المفاوضات والصلح، بقدر ما تهدف الي اعادة تحرير المسائل واخراج العمل السياسي الاجتهادي من دائرة التقديس والتحصين. انها تهدف الي لفت نظر الاسلاميين، وخصوصا حماس، بأنهم عادة ما يبنون الأسوار حول أنفسهم بحجة القداسة والطهارة، ثم ما يلبثوا أن يجدوا أنفسهم محاصرين داخل تلك الأسوار، فلا هم يقدرون علي البقاء داخلها حتي لا تعزلهم عن عالم أفسح خارجها وأعقد، ولا هم يقدرون علي نقبها، حتي لا يعيروا بذلك وينتقص منهم. انها مجرد اقتراح أن تعيد حماس النظر في هذه القضايا وتخرج من دائرة المطلق الي دائرة النسبية، مع ابقاء حلم التحرير والاعداد من أجله، هذا ما فعله الرسول صلي الله عليه وسلم، وهذا فعله صلاح الدين. حماس نفسها تقول ان هذه معركة أجيال فلماذا تصر علي حسمها الآن، وهي تعلم أن شروط ذلك غير متحققة!؟اذا كانت حماس تريد أن تحقق مكسبا للقضية آنيا ومرحليا، فلعل التوجه نحو توجيه دفة الأمور سياسيا قد يكون طريقا الي ذلك. ان لم تفاوض حماس فان حركة فتح ستفاوض، والذي ستتشدد فيه حماس ستتساهل فيه فتح. ان حماس أمام خيارين: خيار الطهارة السياسية.. وخيار القيادة السياسية. فان اختارت الأولي، فان غيرها سيتولي تنجيس يديه في أمر سيكون له تداعياته علي الجميع بما في ذلك حماس، وان اختارت الثانية فانها اللعبة السياسية ومهارة التفاوض وتحقيق أفضل الشروط في ظل واقع صعب. ولن يحدث ذلك كله، قبل تحقق أمرين، وهما: أن تحرر حماس المسألة شرعيا، وأن تتجاوز تعييرات الشامتين، الذين لم ولن يكون أداؤهم أفضل. انها دعوة للثقة بالنفس… ودعوة للتفكر في الأمر.. وفحصه… مع ضرورة التأكيد علي عدم تقديم أي تنازلات مجانية. والمعيار ينبغي أن يكون محصورا في التساؤل التالي: أفي ذلك مصلحة للقضية أم لا؟ لا في محاولات اثبات حرمة هذا التوجه من عدمه، الا اذا كان في ذلك نص شرعي قاطع وصريح لا يحتمل التأويل. ان تصريحات قادة حماس اليوم تجاوزت قضية تقديس الاسقاط والتفسير ومماهاتهما بالنص.. أليس هذا ما نفهمه من الدكتور الزهار نفسه من أن التفاوض بحد ذاته ليس حراما.. ولكن الجريمة هي الجلوس مع الاسرائيليين والخروج بابتسامات عريضة، وللقول للفلسطينيين ان هناك تقدما، والحقيقة غير ذلك!؟ . ان ما يعطي لحماس ميزة ومصداقية خاصة، فيما لو قررت السير في هذا الطريق، أنها حركة اسلامية تستند في مرجعيتها للقرآن والسنة، وهي ذات مصداقية عالية، لا يشك فيها، ومن ثم فان تنازلها عن ثوابتها ولونها أمر مستبعد، لأنها أول من يعلم أنها ان فعلت ذلك فان حماسا أخري سترثها.ہ كاتب ومحلل سياسي مقيم في واشنطن8