خطاب نتنياهو في الجمعية العمومية الأسبوع الماضي يرتبط بالواقع الأمني على نحو أكبر مما يظهر، ولا يبشر بالخير. على خلفية إنجازات الجيش الإسرائيلي وأجهزة الاستخبارات في الساحة الدولية، وعلى خلفية معانيها الكبيرة، يبرز غياب رؤية استراتيجية تترجم إلى تغيير إيجابي صارخ في المحيط القريب والبعيد. والأخطر أنه في الوقت الذي كان رئيس الحكومة دقيقاً في عرض الفرص أثناء خطابه، فإنه في سياسته هذه يضمن تفويتها.
كالعادة، استعان نتنياهو بوسائل مساعدة بصرية، ثمة خارطتان أشار فيهما إلى خيارات إسرائيل والمنطقة: الأولى وهي باللون الفاتح، عرضت ما أطلق عليه “خطة النعمة”، التي أساسها التعاون بين الدول العاملة على التقدم والاستقرار، ومن بينها إسرائيل بالطبع. أما الخارطة الثانية، وهي باللون القاتم، فعرضت إيران ووكلاءها، وجميع الذين يسعون إلى الشر من حولنا. هم يشكلون “خطة اللعنة”. عرض الواقع صحيح، لكن الاستنتاج غير صحيح. خارطة الشرق الأوسط وبحق تعكس جاهزية معسكرين متعاديين، لكن نتنياهو في سياسته فضل، بشكل متعمد، الابتعاد عن الاندماج في معسكر “النعمة”، والحكم علينا بمواجهة مستمرة مع الذين “يلعنون”.
المعسكر الأول برئاسة إيران يعمل بطرق عنيفة لتقويض الاستقرار واستغلال عدم الاستقرار لتوسيع دائرة نفوذ نظام آية الله الظلامي. المعسكر الآخر الذي يشمل الدول التي وقعت على اتفاقات سلام مع إسرائيل، مصر والأردن، والدول التي وقعت على اتفاقات إبراهيم، والسعودية ودول أخرى في الخليج، هو معسكر موحد، سواء من الخوف من تهديد إيران أو التزامه بالاستقرار الإقليمي الذي يعتبر أمراً حيوياً لحلم النمو الاقتصادي بروحية برنامج “رؤية 2030” لصاحبها ولي العهد السعودي وبعض جيرانه.
منذ سنوات ومعسكر “النعمة” يطلب من إسرائيل الانضمام إلى صفوفه، سواء في إطار تحالف إقليمي يهدف إلى صد إيران ووكلائها، أو لدمج القدرات الاقتصادية والتكنولوجية وغيرها، من أجل رفاه الجميع. هذا الاندماج يشمل أيضاً تطبيع العلاقات مع السعودية ودول عربية وإسلامية أخرى تنتظر قرارها.
خمس من دول التحالف الإقليمي، مصر والأردن والإمارات والمغرب والسعودية، تعادي حماس وحركة الإخوان المسلمين-الأم. هذه الدول استجابت لدعوة واشنطن الانضمام إلى ما يسمى “مبادرة بايدن”، التي يتم في إطارها تنسيق النشاطات أمام إيران، كما تجسد ليلة هجوم إيران في نيسان الماضي، لكنها ستتحمل أيضاً المسؤولية عن إدارة قطاع غزة، بما في ذلك وضع قوات برية.
لتحقق هذه النوايا، تحتاج دول “خطة النعمة” إلى إجراء ثلاثة تغييرات على الصعيد الفلسطيني: الأول، وقف القتال في الجنوب الذي سيمكن هذه الدول من نشر قواتها بالتنسيق مع القوات الإسرائيلية التي ستنسحب. والثاني، كي لا تظهر كقوة احتلال، فإنه يمكنها التدخل فقط كرد على دعوة الجهة المعترف بها في العالم كممثلة للشعب الفلسطيني، أي السلطة الفلسطينية. عندها يمكن الدخول إلى القطاع بتنسيق كامل مع السلطة الفلسطينية وكرد مؤقت، حتى لو كان لفترة طويلة، على عدم قدرتها على القيام بمهمة إدارة القطاع بقوتها الذاتية. أما التغيير الثالث فإن المطلوب من أجل تقليص خطر احتراق الاستثمارات بالمليارات في القطاع بواسطة جولة عنف أخرى، هو التزام إسرائيل بإعطاء أفق سياسي حقيقي للفلسطينيين، حتى لو احتاج تطبيقه إلى سنوات كثيرة. حسب ادعاءاتها، سيكون هذا الأفق بديلاً يحمل الأمل لأيديولوجيا اليأس والدمار والخراب لحماس، وكابحاً أمام تجند الجيل الفلسطيني الشاب في صفوف التنظيمات الإرهابية.
إذا كانت هناك حاجة لإثبات آخر للمكانة الرئيسية للقضية الفلسطينية في نظر هذه الدول، فقد حصلنا عليه في موازاة خطاب نتنياهو، عندما أعلن وزير خارجية السعودية فيصل بن فرحان، في الأمم المتحدة عن إقامة “تحالف دولي للدفع قدماً بحل الدولتين”. وحسب قوله، فإن “تطبيق حل الدولتين هو الطريقة الأفضل لتحطيم دائرة الصراع والمعاناة، وخلق واقع جديد تحظى فيه كل المنطقة، بما في ذلك إسرائيل، بالأمن والتعايش.
إذا عملت حكومة إسرائيل على إقناع الدول العربية المعتدلة (والجمهور في إسرائيل) بأنه لا صلة بين إقامة علاقات مع هذه الدول وبين القضية الفلسطينية، فإن الذين طبعوا العلاقات مع إسرائيل توصلوا إلى الاستنتاج المعاكس. ودليل ذلك تجميد مشاريع مشتركة مع الإمارات وتقليص الاتصالات بين الحكومتين، والمبادرة السعودية الجديدة. يتبين أن صدمة 7 تشرين الأول والحرب المستمرة أثبتتا وأظهرتا لدول كثيرة في المنطقة وخارجها الضرر الذي يتسبب به النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين وعدم الاستقرار الذي يتسبب به لمصالحها الحيوية. ورغم أن الحديث يدور عن صراع أصيل لدينا، وأن إقامة حدود بيننا وبين الفلسطينيين أمر حيوي لمستقبلنا كدولة يهودية وديمقراطية، لم نتخذ بعدُ القرار، في حين أن الالتزام بحل الدولتين نقلناه من مجرد أقوال إلى موجه للسياسة. أو كما وصف ذلك بوضوح ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان: “لن نقيم علاقات مع إسرائيل قبل التقدم في إقامة الدولة الفلسطينية”.
إن رفض رئيس الحكومة الاستجابة لهذه التوقعات يحرم إسرائيل فرصة تاريخية للاندماج في تحالف إقليمي وتطبيع العلاقات مع السعودية ودول أخرى، ويمنع إمكانية تحقيق الهدف السامي: إعادة المخطوفين إلى بيوتهم، والخروج من القطاع وإحباط استئناف تهديد حماس، إضافة إلى ذلك رفض تنفيذ ما هو مطلوب للاندماج في “خطة النعمة” يحكم على إسرائيل مواجهة محور “اللعنة” بشروط أقسى. وإن احتلال القطاع المتواصل النازف وتدهور الضفة إلى وضع غزة واستجابة دول السلام، القريبة والبعيدة، للضغوط الداخلية والخارجية للابتعاد عن إسرائيل وزيادة عزلتها الدولية، وفرض العقوبات من قبل مؤسسات دولية، بما في ذلك محاكم لاهاي، ولا يقل عن ذلك خطورة هو إمكانية العزلة في المواجهة مع إيران ووكلائها.
سواء كان رفض نتنياهو نابعاً من الاعتماد على الشركاء المسيحيين في الائتلاف أم يعكس رؤية تفضل مخاطر عدم الاستقرار في إدارة النزاع الذي تسبب به 7 تشرين الأول على تحدي التقدم بحذر نحو حله، فإن سياسته تشير إلى خطة خطيرة. هذا في الوقت الذي قدم له جهاز الأمن، بإنجازاته، شروطاً مثالية لتغيير الاتجاه وإبداء مبادرة وتجند المنطقة معنا.
الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن الأخرى نهضت من إخفاقات 7 تشرين الأول، وتثبت ذلك يومياً. لقد حان الوقت لاستيقاظ المستوى السياسي وترك الاستراتيجية التي أنزلت علينا أسوأ كارثة منذ قيام الدولة، وتبني نظرية أمنية تقوم على الدمج بين القوة الأمنية والتسويات السياسية، محلية وإقليمية.
تمير بردو ونمرود نوفيك
هآرتس 1/10/2024