أول خطوة في إحياء الماضي تكمن في قتله وتجاوزه!
الدكتور صلاح فضل والنقد الأدبي:أول خطوة في إحياء الماضي تكمن في قتله وتجاوزه!دمشق ـ القدس العربي ـ من أنور بدر: تخرج صلاح فضل من كلية العلوم بجامعة القاهرة عام 1962 وحصل علي الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة مدريد المركزية عام 1972 ودرس فيها ثمّ في جامعة عين شمس منذ عام 1979.يعتبر الدكتور الفضل من أنشط المثقفين المصريين في مجال النقد والكتابة النقدية، حيث يصرّ علي الارتقاء بالدرجة الأكاديمية الي مستوي الفعالية الثقافية، ساهم بالكتابة في العديد من الدوريات العربية ، واشترك في تأسيس مجلة فصول ، كما اشترك في تأسيس الجمعية المصرية للنقد الأدبي وعمل رئيسا مناوبا لها منذ عام 1989، كما ترأس مجلس ادارة الكتب والوثائق القومية المصرية منذ عام 2002.وأعترف أنني كنت أتابع الدكتور صلاح فضل في أغلب ما ينشره في الصحافة أو الصفحات الأدبية، وفي نقده التطبيقي للأدب العربي، وأعتبر كتابيه قراءة الصورة وصورة القراءة وتحولات الشعرية العربية من أهم ما قرأت في هذا المجال،رغم أنني لم ألتق به وأتعرف عليه الا مؤخرا، حيث جمعتنا الرقة في ملتقي العجيلي الأول للرواية العربية، فرغبت في اغتنام هذه الفرصة للحوار معه حول الكثير من علامات الاستفهام حول آرائه النقدية، وواقع النقد العربي عموما. دعنا بداية نتفق علي تعريف النقد، وتصنيف العملية النقدية ما بين حقلي الابداع والعلم؟ أريد تلخيص اجابتي في خمس نقاط:أولا ان النقاد الكبار الحقيقيين في تاريخ الثقافات كلها والثقافة العربية منها قلة محدودة، لكن الهواة الذي يمارسون التعليق العشوائي والانطباعي هؤلاء كثيرون جدا ولا تستطيع عدهم. ثانيا: ان هؤلاء النقاد الكبار يتعين عليهم القيام بمهمة بالغة التعقيد، لأنهم هم الذين يدركون قوانين الأعمال الفنية الداخلية، وهم الذين يمتصون روح العصر الذي يعيشون فيه، وهم الذين يعبرون عن استراتيجية الابداع ، يستطيعون أن يلخصوا ويجسدوا لنا ماذا كان يقصد الشعراء في هذا الاتجاه أو في هذا المنحي، وماذا يقصد الروائيون عندما يكتبون بهذه الطريقة، كيف يحققون أكبر تجل جمالي مبدع في أعمالهم، وهم الذين يرسمون لا المثل العليا الأخلاقية كما كان يتوهم أبو تمام عندما يقول:ولولا خلال سنها الشعر ما دريبناة العلا من أين تؤتي المكارم وكأن الشعر وظيفته الوعظ الأخلاقي وتجسيد المثل، ولكن هم الذين يرسمون المثل الحضارية والجمالية للمبدعين، والعملية بين المبدع والناقد عملية تفاعل وليس عملية اصدار حكم، والناقد الحقيقي هو المستبصر الذي يستكشف أرض المستقبل بالنسبة للمبدع، ويشير من طرف خفي الي طرق الوصول اليها.ثالثا : عندما أقول ان النقد يجمع بين الابداع والعلم، أقصد أن النقد ليس عملا اعتباطيا يتم بالصدفة، ولكنه تراكم خبرة معرفية بالفلسفة وباللغة وبالفن وبطرائق التعبير، والمذاهب النقدية مثل النظريات العلمية في عصر معين، تري نظرية علمية سائدة، وتأتي نظرية علمية أخري تكذّب النظرية السابقة وتغطي قوانين العالم بفكرة أخري جديدة هي الأصح، ثم تأتي نظرية ثالثة وهكذا.. المناهج العلمية بطبيعتها تتناسخ مثل النظريات العلمية، وهي في العصر الحاضر علي وجه التحقيق أصبحت أكثر علمية لأنها ربطت جسد الابداع بجسد اللغة، وكانت قبل ذلك تربط الابداع بحالة المجتمع، أو تشترط أن يعبر عن العواطف ويقول في الموضع، وكانت الموضوعات النبيلة كثيرا ما تبتذل بابداع سخيف لا قيمة ولا أهمية له.هذا هو الجانب العلمي في النقد اذ لا بد أن يكون منهجيا ولا بد أن يكون مستجيبا للتطورات العلمية في منظومة العلوم المجاورة للنقد وهي علم الجمال وعلم اللغة وعلم النفس والانثروبولوجيا المتصلة بالمخيال الجماعي، لا بد للنظرية النقدية الحديثة أن تواكب هذه التطورات العلمية، لكن طريقة التعبير عن هذا التطور نقديا لا يمكن أن تتم بالمعادلات الرياضية، ولا بالأفكار المجردة، ولا باللغة القبيحة، لان وظيفة الناقد أن يسبح في تيار من الجمال ليشرحه، ولا يمكن للقبح أن يشرح الجمال، الناقد الذي لا يعرف كيف يستخدم اللغة الابداعية الدقيقة علميا والمجنحة خياليا والمضمخة بعطر الشعر في نهاية الأمر هو ناقد لن يكسب قراء للابداع، وينفر المتلقين منه، من هنا فتقديري أن علي الناقد أن يكون مبدعا وعالما في الآن ذاته. رابعا: وهو في غاية الأهمية، ويفتقده الكثير من نقادنا ومبدعينا، وأجده شرطا أساسيا لا محيد عنه، اذ عندما ننظر الي تطورات العالم نجد أنه أشبه بالقرية. العالم قرية صغيرة، والمنطقة العربية هي الحارة المظلمة في هذه القرية والتي ما تزال تضاء بالشموع ، بينما دخلت الكهرباء كل الحارات الأخري، أقصد بالكهرباء الديمقراطية وتداول السلطة والحريات بكل أشكالها، والمبدع الذي لا يطفئ شمعة ليدخل تيارا كهربائيا في منطقته وليبشر بالحرية والديمقراطية لا حاجة لنا الي كتاباته، لأنها تجعلنا ندور بنفس المنطقة، من الذي يستبصر ذلك ويشرح للمبدع الطرائق الجمالية غير المباشرة، وكيف يمكن أن تنبثق من نفسه حتي لا تتحول الي التزام جديد أي الي جدانوفية أو مكارثية معاصرة، وانما تصبح قناعة حقيقية بأنّ تقدم هذا الانسان وانعتاقه من القهر والفقر ومن التخلف، كل هذا رهن أن يندرج بهذا السلك الكهربائي العالمي للديمقراطية والحرية وتداول السلطة.خامسا: النقد ليس شارحا للأعمال الأدبية، وليس معلقا عليها، وليس قاضيا يصدر الأحكام حولها، ولكنه نشاط آخر ابداعي مواز يفتح لها أفق المستقبل، ويضيء المحيط الثقافي الذي يعمل في نطاقه. تقول ان هناك غني في النقد المصري.. (يقاطعني) لم أستعمل كلمة نقد مصري أبدا أنا قلت نقد عربي.. فأنا لست اقليميا. ربما قصدت ساحة النقد في مصر؟ لا، لا، ساحة النقد في مصر فقيرة، وأنا اعتز بالساحة العربية بمجملها. هل هناك نقاد سوريون أو مصريون بالمستوي الذي تحدثت عنه؟ دعني أخرج من التحديد الاقليمي المحدود، وأقول مثل هؤلاء النقاد الحقيقيين ـ كما أتمثل مهمتهم ـ لحسن الحظ أنهم يمثلون الجيل الناضج حاليا في المجتمع العربي، ويمتدون علي رقعته من أقصي منطقة المغرب العربي الي الخليج العربي، حيث نجد أسماء مهمة جدا مثل عبد الله الغذامي ومحمد برادة وغيرهم، فالنقد كانت تحتكره مصر والشام في العقود الماضية، لكن لحسن الحظ فك هذا القيد ولم يعد احتكارا، وهو رهين أمرين: درجة التحرر النسبي للمجتمعات وتواصلها العلمي مع التيارات الانسانية الخارجية، وهذا للأسف لم يتحقق كثيرا في سورية، وهذه مشكلة، الا أنني أميز بين نوعين من النقاد: الأكاديميون الذين يقومون بتدريس الأدب والنقد وتاريخه، وهؤلاء متوفرون في كل الجامعات العربية بنسب عالية ومطمئنة، لكن الناقد ليس مجرد دارس أكاديمي أو مؤرخ للفكر، لا بد أن يكون خلاقا له، ولا يستطيع أن يخلق الفكر النقدي دون التفاعل الحي مع الواقع الابداعي، ومن بين مئة أكاديمي لا تجد خمسة نقاد حقيقيين، فيما يشكل الباقون ظاهرة مرضّية، فهم يحفظون النصوص لطلابهم، لكنهم يبثون روح الكراهية، ويطفئون نور الابداع عندما يدرسونه لطلابهم، ربما يتوفر مثل هذا العدد في مصر (خمسة نقاد)، لكنه لا يتوفر في سورية، ومن المحزن أن العقدين الأخيرين لم يجعلاه يتوفر بالقدر الكافي في بلد خصب وغني مثل العراق، لذلك بدلا من الكلام عن الأقطار ألجأ لتحديد أقاليم، وعندها سأجد أن كل اقليم فيه نقاد جيدون، فنجد في بلاد الشام مثلا كمال أبو ديب وهو من رواد النقد الأوائل، اضافة ليمني العيد وسواها، وكان خلدون الشمعة ناقدا واعدا جدا، وأذكر أنه في صيف 1961 أقيم مهرجان لشباب الجامعات وكنت في سنواتي الأولي من الجامعة، حضرت الي دمشق وتعاهدت مع خلدون الشمعة ومع شاب آخر أن نغير وجه النقد العربي ونحدث انقلابا جديدا فيه. أين تكمن أزمة النقد الأكاديمي؟ مع وجود أساتذة لديهم امكانات بالغة الجودة والاتقان، لكن ينقصهم هامش التفتح المنهجي، فكم من هؤلاء الأساتذة مثلا كان دون انتماء حزبي وأتيحت له الفرصة ليدرس المناهج العالمية في الجامعات الغربية؟ سوف تجد القليل جدا، لأن شروط مثل هذه الفرص محدودة بنطاق معين، وهذه قضية جوهرية، لكن ليس معني ذلك أنه لم يتفلت من هذه الشروط ناقد، بداياته كانت واعدة جدا وما زلت أنتظر منه الكثير كعبد الكريم حسن في نقده للشعر مثلا، وهو قد درس في فرنسا، مع أنه لا ينتج بالايقاع الذي نتمناه له. كيف تري وضع الجامعات وقصورها عن متابعة التطور الابداعي العربي والعالمي وعدم تطوير مناهجها بالتوازي مع التطور العلمي والنقدي العالمي؟ هذا جزء من التقصير الفادح في متابعة التطور العلمي في مختلف فروع المعرفة، لنري كيف نتابع التطور العلمي في علوم الفضاء والذرة؟ وكيف نتابع التطور في علوم الطبيعة والطب؟ وفي علوم الزراعة؟ وكلها ساهمت بتغير مصائرالبشرية..لو ألغينا مثلا المنطقة العربية هل سيتغير مسار الحضارة المعاصرة؟ وهل ستفقد وجهتها نتيجة لذلك؟ أم أن هذه المنطقة ما زالت هامشية وعالة ومستهلكة ولا تساهم في الانتاج المعرفي؟ أنا أزعم أن الانتاج الابداعي وما يرتبط به من نقد هو الاضافة الوحيدة التي نشارك بها في المنظومة الحضارية المعاصرة، بالتأكيد سوف تنقص الرواية العالمية الي حد ما لو افتقدت أسماء قمم الفكر الروائي العربي أو لو افتقدت الشعراء العرب، ولكن في مجالات أخري سوف لن تنقص المعرفة لو أغلقت كل جامعاتنا، لأنها ليست علي تواصل مع الحركات العلمية في العالم، والتواصل هو الخطوة الأساسية في الاضافة . وهذا أساس التخلف الأكاديمي المخجل. وحتي في مناهجنا التعليمية العامة نصدم الشاب والفتاة اليافعين الغضين بطريقة دخولنا عليه لتدريس الأدب، حيث يكون أول ما نقرره عليه هو الأدب الجاهلي، أبعد النماذج الأدبية عن عالمه، وهذا ليس له علاقة بالحياة، ، فمنذ اللحظة الأولي تحدث له صدمة واغتراب وشعور بالنفور، ماذا لو جعلنا الأدب الحديث من رواية ومسرح وشعر المدخل الي دراسة الأدب العربي؟ ألا يفتح شهية طلابنا أكثر من دراسة الأدب الجاهلي؟ أو دعونا نبحث عن احداث توازن بين الأمرين، تصور لو أثقلنا ذهن طالب الطب بتاريخ الطب في تاريخ العصور القديمة؟ سوف لن يعرف شيئا، انما نبدأ بالمعرفة المعاصرة، وكذلك بالفن، لا بد عندما ندرّس له الشعر أن نجعله في ارتباط حميم بالدراما التلفزيونية وعصر الصورة والفن التشكيلي والرواية ..لكي يجد الطالب في دراسته مادة مما يعيشه ويحس به ويعشقه، وبهذا يمكن أن نحببه بلغته وثقافته وهويته. هل ينعكس ذلك أو يسبب فقرا علي مستوي التنظيم والتنظير- كما تقول- في مجال السرديات؟ نعم لأن المبدعين يقومون بدورهم بطريقة تدعو للاعجاب الحقيقي، لكن المتابعين من الأساتذة يتجاهلون ذلك، لا يحتضنون ابداعهم. كم من الأعمال الابداعية التي صدرت في السنوات الخمسين الماضية تدخل مناهجنا التعليمية؟ لا شيء. وبالتالي كيف يمكن للمتأمل الفكري الا باستثناء أفراد قلائل هم الذين يطلق عليهم صفة النقاد الحقيقيين، أن يقوموا بعمليات التنظير، وحتي هذا التنظير ـ لو وجد ـ لا يجد من يقرؤه، نحن لا نعدم بعض المواهب النقدية الشابة والجميلة والتي لها اجتراحات وانجازات لافتة، لكنها تموت لأنها لا تصنع دوامة.خذ مثلا خلافات البعض حول أول رواية كتبت هنا أو هناك، ماذا تعني بالنسبة لي أول رواية كتبت؟ تعني أنها ليست مجرد حجر يلقي في بحر ويعم السكون بعد ذلك، أول رواية هي العمل الابداعي الذي شق البحر نصفين، والذي لفت كل الأنظار وتناسلت منه تقاليد روائية، وخلق تيارا حقيقيا متفاعلا ابداعيا، ما حدث قبل ذلك هو مجرد ارهاصات، ومجرد اختراقات فردية وليس عملا جماعيا في الثقافة. ما يحدث لدينا يمكن أن تجد نظرات نقدية في السرد أو في الشعر بالغة القوة والجمال لكنها لا تصنع تيارا، مثلا دعني أزعم أن كثيرا من المفكرين النقديين لهم منجزات لو ترجمت الي لغات أخري سوف تصبح مثل كرة الثلج التي سرعان ما تتضخم وتصبح نظرية عالمية، لكن ولأن لغتهم معزولة عن اللغات الأخري، وليست هناك حركة ترجمة نشيطة، فمن يبدع هذه الأفكار لن يجد من يدرسها من بعده. من يتناول هذه الأفكار بالاستكمال والمراجعة والابراز، لتصبح مناطا لفكر نظري عربي، مأساة النظرية العربية هي في هذا التقاطع بين الأجيال، وانعدام التواصل بين التيارات المختلفة، وعدم خلق بؤر تتجمع فيها نواة معرفية وعلمية هي التي تخلق المدارس والاتجاهات التي لا تكتفي بتغطية المجال المحلي بل يمكن أن ترقي لتصبح عالمية بعد ذلك. ومع ذلك تقول ان الشعر لم يتراجع؟ الرأي السائد يحسب الازدهار الشعري في المرحلة الخطابية التي كان عليها الشاعر منذ الاحياء حتي منتصف القرن العشرين، لكن اذا ألقينا نظرة بانورامية علي الابداع الشعري في النصف الثاني من القرن العشرين سنجد أنه في تقديري يمثل العصر الثاني للشعر العربي بعد الفترة العباسية، لأن فيه منظومة من الأسماء رحل بعضها وبقي بعضها الآخر، تملأ عصورا بأكملها، وتغطي كونا بشعريتها، وتعطي الثقافة شرعيتها وجمالها، لو ذكرنا مثلا أن هذا النصف الثاني من القرن العشرين شهد كلا من نزار قباني وصلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي وأمل دنقل وخليل حاوي وبدوي الجبل وعمر أبو ريشة (من الأموات)، علي الأقل خمسة عشر شاعرا من الدرجة الأولي، هذا لم يتوفر في أي عصر آخر. كيف نقول ان الشعر قد تراجع وكل هذا الانتاج من الأحياء الذين ننعم بعطائهم: أدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف وكوكبة أخري بالغة الأهمية؟ لكن النقطة التي تجعل الناس يتوهمون بأن الشعر قد انحسر: أن الشاعر تنازل عن وظيفته الاعلامية، لم يعد هو صوت الأحداث، أو صوت القبيلة، كنا نقرأ القصيدة التي تسجل الزلزال أدبيا، أما اليوم فالصحافة المقروءة والمسموعة والمنظورة والرقمية حلت محل الشعر وقامت بوظيفته الاعلامية، وبقي للشعر وظيفته الجمالية الخالصة وهذه دائما لا تتلقاها الا النخب والصفوة المثقفة، فالشعر في الشارع العربي لم يعد هو الايقاع الجهير الذي يتردد علي الألسن ترددا أجوف خارجيا، ولكنه ظلّ ـ وبعمق أكثر ـ يحفر مسارات، ويؤدي وظائفه في اللغة وفي اطلاق حرية الخيال وفي انعاش روح النقد العميق في الانسان وفي تنمية حسّ التذوق للحياة، وأكثر من ذلك سنجد أن هذا الشعر فاض علي الفنون الأخري. لدينا شباب كثيرون بدأوا شعراء مثلا ثم أخذوا يكتبون سيناريوهات للتلفزيون والسينما ويرسمون لوحات تشكيلية وبعضهم كتب القصص، هذه الابداعات لم تحجبهم عن الشعر، لان مواهبهم الشعرية تتجلي في هذه الابداعات الفنية الأشمل والأكثر نفاذا الي الحواس الخمس للانسان. صحيح أن اللغة تمثل جماع الممتلكات البشرية ومجال الابداع الواضح، لكن لغات أخري كثيرة موازية للشعر استفادت من طاقة وفورة الشعر البركانية لدي الانسان العربي، ولوّنت روح الحياة بكثير من العناصر الشعرية. عندما أقرأ مقالا يستخدم المجاز والرمز والتحليل أدرك أن هذا الصحافي بدأ شاعرا ثم امتزجت لغته الشعرية بذائقته المهنية في كتابته، لذلك أنا لم أخسره كشاعر، لأن الشعر يعيش تجليات مختلفة وبمسارب خفية بأقوي مما كان عليه في العصور السابقة. هذا ما كنت أقصده. أخيرا كيف يمكن استلهام الماضي لتعميق الوعي؟ كان لنا شيخ جليل اسمه أمين الخولي وقد ألف مدرسة من الشباب الباحثين والأكاديميين قبيل منتصف القرن العشرين يقول: أول خطوة في احياء الماضي تكمن في قتله بحثا، ويقف عند كلمة قتله، ويقصد قتله وتجاوزه بالبحث، الماضي لدينا تسعون بالمئة منه لا بد أن ننعاه ونرثيه وندفنه غير آسفين عليه، لأنه يثقل علينا، وهو الذي يقتل طاقتنا الابداعية ، وهذا جنون أمة وانتحار ثقافة، وهذا التقديس للماضي هو انتحار ثقافي، ونحن غير قادرين علي الاطلاق أن نخطو خطوة باتجاه المستقبل، العالم يمضي نحو مستقبل العلم والمعرفة والانتاج والحرية واطلاق كل الأشياء، ونحن نتعبد بما قال السلف حتي في الأشياء البسيطة اليومية التي لم يكونوا هم أنفسهم مقيدين بما قاله أسلافهم بشأنها، فعبادة الأسلاف يبدو أنها داء عربي لا بد أن نتخلص منه وننسلخ عنه، وكما أن القطيعة مع التراث بصفة كاملة لا بد أن تكون قطيعة معرفية، ومعناها أن نمتص من التراث كل العناصر المعرفية، ثم نهمل كل الخلايا الميتة فيه، لتدخل هذه العناصر الحية بنسيج وعينا المعاصر، لكي نفهمه، فاذا لم يساعدنا الماضي علي فهم الحاضر وتعميق وعينا فيه، وأكثر من ذلك: اذا لم نستمد منه طاقة لبناء مستقبل متجدد مختلف لا يكرر الماضي سنظل ندور في نفس الدوامة، دوامة التخلف والجهل الي الأبد. وأريد أن أقول لك شيئا وهو أن المجددين الحقيقيين ووجهوا تقريبا كلهم بالتكفير والاتهام بالزندقة حتي هذه اللحظة، ولكنهم رغم ذلك هم الذين انتصروا. كان الشيخ محمد عبدة منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هو الذي أحدث أول انقلاب في الفكر الديني عندما حول الفكر الديني الي فكر اصلاحي، فاتخذ منه كل الأزهريين ورجال الدين الآخرين موقفا عدائيا لأنهم سلفيون محافظون جامدون، والآن لم يبق من كتاباتهم سطر واحد فيما بقي الشيخ محمد عبدة منارة للفكر الاصلاحي المتجدد حتي اليوم. كذلك طه حسين في شكه المنهجي وفي ابداعاته الأدبية وفي تخيلاته ومناهجه، هوجم في كتابه (في الشعر الجاهلي)، لكن كل الحملات المضادة له ماتت وبقي ما قاله طه حسين حيا في ثقافتنا.0