أوبرا ميرامار تستعيد زمن التأليف الموسيقي وفردوس الاصوات

حجم الخط
0

أوبرا ميرامار تستعيد زمن التأليف الموسيقي وفردوس الاصوات

مسرح سيد درويش يتألق بأحفاده: أوبرا ميرامار تستعيد زمن التأليف الموسيقي وفردوس الاصواتالقاهرة ـ القدس العربي ـ من محمود قرني: بارادة مصرية خالصة، يقترب فن الأوبرا ـ الأرستقراطي الرفيع ـ من ذائقة العامة، ليدخل في نسيج التأليف الموسيقي المصري، في محاولة لنقل الوعي النظري بهذا التأليف الي مساحات أكثر عملية، وذلك عبر الأوبرا الرائعة ميرامار التي قدمها الموسيقي شريف محيي الدين وقام علي اخراجها محمد أبو الخير وقام بصياغتها الشعرية الشاعر المعروف سيد حجاب وذلك علي مسرح سيد درويش بمدينة الاسكندرية.انه التأمل المبدئي للمناخات التي أحاطت بهذا العمل المأخوذ عن رواية شهيرة لنجيب محفوظ يحيلنا الي عديد من التساؤلات أولها ما الذي يجعلنا بحاجة الي تمصير مثل هذا الفن الذي أطلقه الاغريق ثم تداولته الثقافة الأوروبية حتي بات لصيقا بايطاليا وباتت الأوبرا الايطالية هي رمز التجديد الأوروبي ورمز كلاسيكيته أيضا. وكذلك يأتي من بين هذه التساؤلات الأهمية المعقودة علي تحول هذا الفن من كونه مغتربا وغريبا الي كونه أصيلا ونابعا من خصوصية تحفظ له بقاءه بل وتوسع من حضوره العام.ولعله من السابق لأوانه الاحتكام الي نتائج قطعية بشأن مثل هذه التجارب المغامرة التي سيدين لها المستقبل أيا كانت النتائج التي سوف تؤول اليها.ولعلنا لن نذهب بعيدا اذا تذكرنا انتشار هذا اللون الفني في العالم حتي باتت له مدارس عدة في فرنسا وألمانيا وروسيا، التي قدمت شكلا قوميا للموسيقي الأوبرالية وكان علي رأس مؤسسي هذا الاتجاه ميخائيل جلينكا (1804 ـ 1887) الذي قدم نماذج أوبرالية ـ لأول مرة ـ عبر الموسيقي الشعبية، وعبر عن نماذج من حياة عامة الروسيين مثل أوبرا روسلان ولودكيلا وأوبرا حياة القيصر وقد ظل باب قومية الموسيقي أحد أهم الطرق التي نقلت الموسيقي من كونها نشاطا أرستقراطيا مغلقا الي أحضان الجماهير الغفيرة في كل مكان.وأظن أن أوبرا ميرامار تأتي في هذا السياق الذي يتتبع خيطا دقيقا لا ينفصل عن واقعه في نفس الوقت يستفيد من كل طاقات الصوت الأوبرالي الصارخ والعميق في الوقت ذاته، يستفيد من غياب الضفاف الايقاعية التي تحاصر الحركة الموسيقية فيما يسميه المشرقيون بـ الربع تون وتظل الأوبرا محتذية نوعا من المزاوجة الأرقي بين الأنواع الابداعية بشكل لا يجرح خصوصية هذه الأنواع.أوبرا سيد درويش ورائحة العبقريةبين جدران هذا المسرح السكندري العتيق، الذي يحمل اسم الموسيقي العظيم سيد درويش تتوالد – بمجرد الدخول اليه – رائحة التاريخ المتواشج الممتد من العمارة السحيقة بطابعها الاغريقي والروماني والبطلمي، الذي يجمع رائحة العصور كلها بين جدرانه، وستواجهنا شرفاته، المطلة علي ساحته بألوانها المذهبة وقطيفتها الحمراء، وأضواؤه الخافتة، معلنة عن عبقرية ثنيات وانحناءات الشرفات الدقيقة، والناعمة في طلتها علي ساحة المسرح، وتتراص هذه الشرفات في طابقين يتصلان ويعلوان القاعة الرئيسية أما القاعة التي تقبع في مواجهة المسرح مباشرة فقد ازدانت مقاعدها بالقطيفة الحمراء وكذلك أرضيتها وازدان سقفها بالجصّات اللينة التي تتمازج في طراوة حول السقف الدائري الذي حمل أسماء أشهر الموسيقيين في العالم مثل : فاجنر، فيردي، موزار، روسيني، جلوك، أما المسرح نفسه فقد جعله الديكور يبدو وكأنه الأكثر اتساعا علي الاطلاق، ساعدت علي ذلك طبعا الاضاءة التي تم توظيفها بجودة وبحرفية عالية.وكما يبدو العرض في تنازعه بين الجسد الروائي نفسه الذي يعود الي تفاصيل دقيقة، وبين الفيلم الذي قدم المعني المباشر للسقوط الذريع لثورة يوليو عقب هزيمة يونيو 1967 يبدو وكأنه اختار لنفسه نموذجا دراميا يعتمد علي الكثير من الاختصار، اعتمادا علي الطبيعة المجردة للموسيقي التي فضحتها بشكل سافر أشعار سيد حجاب رغم فرادتها وتميزها.وقد لعب الديكور الرائع للفندق الذي تدور فيه احداث الرواية دورا مهما في تقريب المسافات الزمنية بين الأحداث، واعتمد المخرج محمد أبو الخير علي حركة واجهة الفندق لأعلي المسرح لتشير الي ما يحدث داخله وهبوطها حال انتقال الأحداث الي خارجه.أما موسيقي شريف محيي الدين فهي تقريبا التي تشكل القوام الرئيسي للعمل المسرحي الأوبرالي ميرامار الذي يبدو أنه يمثل السؤال الأكبر في منجز شريف الموسيقي رغم أنها ليست الأوبرا الأولي في حياته حيث قدم قبل ذلك ثلاث أوبرات في ساعة وهنا تقول الدكتورة عزة مدين.. أن محيي الدين يبدي اهتماما خاصا عبر ميرامار بالحاضر المصري، ويتبدي ذلك عبر بعده التام عن الموضوعات التي شغف بها المؤلفون الموسيقيون المصريون السابقون والمتأثرة بإبداع المستشرقين عامة مثلما حدث مع حسن رشيد وعزيز الشوان، وتضيف مدين أن أوبرا ميرامار تجربة موسيقية هامة في اهتمامها بتطويع واستغلال اللغة العامية للغناء المعبر، الذي يتخطي سذاجة الغناء الشائع، ويتجنب غرابة الغناء الأوبرالي علي الأذن العربية ويبرع في استخراج جماليات موسيقي اللغة المصرية المعبرة. بحيث يصل بسلاسة للمستمع المصري في أسلوب موسيقي واقعي يقرب من السرد اللغوي المتنغم التلقائي .وأمام ما تقوله عزة مدين تتبدي الخصوصية المفرطة لتداخلات تتخلل الأواصر اللحنية الغربية الخالصة القادمة من عصر الباروك، كما تشير الي أجواء شديدة الشجن والتطريب بشرقيتها العالية، ويبدو ذلك جليا في تداخلات حملها صوت المقرئ عبد الباسط عبد الصمد وصوت أم كلثوم الذي يقطع الدراما النصية باحدي حفلاتها الشهرية، كذلك يتبدي في الكثير مما قدمه الصوت العبقري بحق للسوبرانو تحية شمس الدين التي قامت بدور زُهرة أو في اللغة الفلاحية ظُهرة حيث قدمت نموذج البنت الفقيرة البسيطة القادمة من ريف الاسكندرية بعد وفاة أبيها لتستنجد بـ ماريانا الاجريكية صاحبة الفندق حيث كان الأب يورد لها من ريف الاسكندرية الزبد والجبن وغيره.ولم يخل دور تحية شمس الدين من الكثير من السخرية لا سيما في المقاطع التي تصرخ فيها معبرة عن رفضها لمحاولة اعتداء عامر بك عليها، وهو الصحفي الوفدي السابق وأحد نزلاء الفندق.لقد كان صوت تحية شمس الدين أقنوما رائقا وقادرا علي الشقشقة والخروج والتبلور وخلق مساحات للقول تتجاوز المدي الذي يتحرك فيها الدور من الناحية الدرامية، أيضا بدا ذلك في صوت الفنانة الكبيرة والمعلمة ذات الصوت الفاتن نيفين علوبة التي قامت بدور ماريانا السيدة الاجريكية صاحبة الماضي غير المشرف وصاحبة الفندق بعد أن ذبل جمالها لتتحول بفندقها الي رمز من رموز هزيمة عصر وانتصار عصر آخر يبدو فيه سرحان الثوري الانتهازي هو صاحب السلطان الحقيقي، والذي ينتحر في النهاية بعد أن تنكشف جريمة الاستيلاء وسرقة المال العام التي كان يدبرها، وكأن مقتله هو النهاية الحقيقية لعصر ثان وهو عصر يوليو الموصوم طيلة العرض الدرامي وعلي مدار الرواية أيضا، وقد ظل صوت نيفين علوبة طيلة العرض كأنه الطريق المشمس الذي يضيء الي طراوته الأصوات الشاردة لعصافير حديقة ميرامار .ولا يمكننا ـ بحال من الأحوال ـ أن نتجاهل صوت كل من الفنان البارع والباهر رضا الوكيل الذي قام بدور واحد من كبار الأعيان فيما قبل الثورة طلبة بيه وكذلك صوت الفنان الكبير أشرف سويلم الذي قام بدور عامر بك فقد كان العمق الذي يمتلكه صوت رضا الوكيل قادرا علي شد القاعة بأسرها الي أجواء قدسية تحيل الي الأجواء الكنسية في تراتيلها المهيبة، وكذلك كانت القدرة والبراعة التي تميز بها صوت المدرب الفنان أشرف سويلم، وقد شكل هذا الرباعي العمود الفقري الذي قام بانجاز ما أراده شريف محيي الدين، وفيما عدا ذلك فقد تراوحت معظم الأصوات بين الضعف والشحوب والوهن والخروج الي النغمة النشاز أحيانا أخر وربما نستثني من ذلك الفنان مصطفي محمد الذي قام بدور سرحان الانتهازي الثوري.بقي سؤال ربما لا يستطيع هذا المكان الالمام به ويدور حول مدي توفيق المخرج محمد أبو الخير والمؤلف الموسيقي شريف محيي الدين في اختيارهما لأشعار سيد حجاب.والسؤال يدور حول المدي الذي يمكن فيه المزج بين النص الشعري الموقع الذي يضج بوزنيته وتفعيليته وبين النص الموسيقي الذي يعتمد في معظم ثيماته علي غياب الايقاع، ففي حين يسعي الصوت واللحن الأوبراليان الي ازالة الكثير من قيود الايقاع بحثا عن الحرية شبه المطلقة لهذه الأصوات السماوية السابحة، يبدو النص الشعري مستمسكا بالضفاف التي تمثل قيدا اشكاليا لحركة الموسيقي، فقد كنت أستشعر الكثير من ذلك أثناء تراتب دبيب التقفية الشعرية لسيد حجاب، لذلك كنت أتصور أن النص النثري هو الأليق بالموسيقي الأوبرالية، وهو خاطر ربما كان يصدر ـ في جملته ـ من وعي قاصر بالدور الذي لعبته المزاوجة بين النص وموسيقاه. وهو بالطبع أمر لا يمس القيمة الشعرية لشاعر كبير هو سيد حجاب، الذي أنجز في سياق المسرح الغنائي الكثير من الأعمال الدرامية اللافتة والمهمة.أما المؤلف الموسيقي شريف محيي الدين الذي تنهض ميرامار علي زخمه الموسيقي فقد أثبت أنه واحد من هذا الجيل الذي تمتد أصلابه الي أعماق تاريخ التأليف الموسيقي المصري بداية من عزيز الشوان وعلي اسماعيل وعبد الحميد توفيق زكي، وكل من أرادوا الانتقال بالأذن العربية الي مستويات أكثر تركيبا من الاعتماد المطلق علي الموسيقي الشعبية بالانتقال الي مستويات الموسيقات السيمفونية الأوبرالية.بقي القول أن أوبرا ميرامار قدمتها فرقة أوبرا القاهرة وأوركسترا حجرة مكتبة الاسكندرية بالتعاون بين دار الأوبرا الاسكندرية ودار الأوبرا المصرية وتحت الاشراف النهائي لمركز الفنون بمكتبة الاسكندرية الذي يترأسه المايسترو شريف محيي الدين ويرأس وحدة البرامج به الدكتور محمود أبو دومة الذي قام علي تنظيم العرض بشكل يليق بمكتبة الاسكندرية.0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية