أمريكا تخوض أهم انتخابات منذ الحرب الأهلية والتغيير آت بصرف النظر عمن يفوز

محمد العزير
حجم الخط
0

يتوج الناخبون الأمريكيون بعد ساعات قليلة من نشر هذا التقرير، الاستحقاق السياسي الأكبر في تاريخ الدولة المنفردة بقيادة العالم منذ عقود، وسيكون على صندوق الاقتراع الإجابة على السؤال المؤرق للعالم أجمع؛ أي أمريكا ستخرج بعد الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر 2024؟ هل هي استمرار للسياق الروتيني الرتيب الذي أعاده الرئيس جوزيف بايدن منذ أربع سنوات إذا نجحت نائبته كامالا هاريس في مسعاها، أم سيكون قفزة جديدة نحو الاستبداد والطغيان إذا عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض على ظهر موجة مستجدة من الشوفينية والعنصرية والتي تجد الكثير من التسامح في أوساط المحافظين واليمين الديني، الذي يسوّق لما ساد في أوروبا قبل قرن كامل من الزمن، وابتلى العالم كله بالفاشية التي قادت العالم إلى حرب عالمية ثانية مدمرة.
ينطوي تناول الانتخابات الأمريكية بالنسبة لأي صحافي محايد هذا العام، على علة مبدئية واضحة وهي شبهة التحامل على ترامب، الذي نقل المشهد السياسي منذ دخوله المعترك العام عام 2015 إلى إطار لم تشهده الولايات المتحدة منذ انفصالها عن التاج البريطاني عام 1776. لم يسبق لأي مرشح للرئاسة أن أضاف إلى السياق الانتخابي بعدًا جديدًا، خصوصًا وأن هذا البعد ليس مجرد تنويع أو تعديل على الروتين بل يمثّل خروجًا بيّنًا عن مبادئ قيام الاتحاد الفدرالي نفسه. قامت التجربة الأمريكية في القرن الثامن عشر على فكرة ثورية رائدة، في حينه، مفادها أنه لا يمكن لأي إنسان أن يتحكم بمصائر الناس لأسباب بيولوجية أو جينية أو وراثية، لأن للبشر حقوق وإرادات غير قابلة للطعن أو التجاوز، أو هكذا كانت الرواية التاريخية التي آلت إلى نشوء أعظم قوة في الكون. لكن صعود نجم ترامب ووصوله إلى البيت الأبيض عام 2016 تحدى ذلك المبدأ وعصف بالحياة السياسية وفرض لغة جديدة وسلوكيات كانت تبدو غريبة على المزاج الأمريكي.
بصرف النظر عن المرويات التاريخية، أو الأصح بضرورة النظر إليها، تتجه الأنظار هذا الأسبوع لمعرفة من الفائز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لأن بين المرشحين، أو بالأصح بين المرشح، وبين المرشحة، في سباق شديد التقارب لا يبدو أنه سينتهي مع انتهاء التصويت، ولن تقتصر مفاعيله على معرفة خليفة الرئيس جوزيف بايدن في البيت الأبيض، فهناك الكثير الذي سيترتب على هذا الموسم السياسي المختلف والمشبّع بظواهر لم تكن مألوفة على الأقل منذ نهاية الحرب الأهلية قبل 160 سنة.

تصويت 2024

مساء يوم الثلاثاء في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر، تسدل الستارة على الفصل الأخير من مسلسل الانتخابات الطويل جدًا، والذي يستغرق قرابة سنة كاملة بين أول تصويت حزبي في الانتخابات التمهيدية، وبين الاقتراع المباشر في حوالي أقل من 100 ألف مركز انتخابي في الولايات الأمريكية الخمسين والعاصمة واشنطن والأقاليم التابعة للسيادة الأمريكية في المحيطين الأطلسي والهادئ. والملفت أن عدد مراكز الاقتراع انخفض حوالي النصف منذ العام 2018 حين كان العدد يتجاوز الـ 200 ألف، وذلك في انعكاس واضح لأكثر التحولات الجذرية في السلوك الميداني للمحافظين الذين دأبوا منذ انتخاب باراك أوباما كأول رئيس غير أبيض ومن أصل غير أوروبي عام 2008 على محاولة الحد من مشاركة الملونين والأقليات والمهاجرين المجنسين في التصويت لأن الغالبية العظمى منهم تؤيد الليبراليين، ولذلك عمدت الولايات التي يحكمها الجمهوريون إلى زيادة متطلبات التسجيل للانتخابات والتصويت، خصوصًا تكساس وفلوريدا وولاية الجنوب، ومن ذلك ابراز وثائق تثبت الجنسية ومكان الإقامة بطريقة تستهدف فئات معينة من الناخبين. على سبيل المثال يمكن لمن يدلي بصوته أن يستخدم رخصة حمل سلاح فردي كوثيقة لكن لا يمكن لطالب أن يستخدم بطاقته الجامعية! أما الأبرز فكان تخفيض مراكز الاقتراع في المدن الكبيرة وفي الأحياء ذات الكثافات الملونة والمهاجرة، وهو ما تضاعف بشدة بعد خسارة ترامب في انتخابات 2020.
يُقدر عدد الذين سيشاركون في الانتخابات الراهنة بأكثر من 160 مليون شخص، أي ما يعادل 70 في المئة من مجموع البالغين والذي يقارب الـ 255 مليونًا. يشير هذا الرقم بحد ذاته إلى استثنائية اللحظة التاريخية التي تعيشها أمريكا التي لم تكن نسبة المشاركين في انتخاباتها تتجاوز الـ 50 في المئة الّا في حالات نادرة جدًا. حتى إعداد هذا التقرير، أدلى 63.320 مليون أمريكي بأصواتهم عبر التصويت المبكر أو بالبريد وهو رقم قابل لتجاوز نصف عدد الناخبين الإجمالي. وتزيد التقارير الأولية من عدم اليقين في النتيجة المرتقبة، ففي حين تشير الاستطلاعات إلى تقارب إلى ما دون الواحد في المئة بين هاريس وترامب، خصوصًا في الولايات السبع المتأرجحة الولاء، لا تبتعد نسب الأصوات المبكرة عن ذلك، فهي على المستوى الوطني حتى الآن 41 في المئة ديمقراطيون، 40 في المئة جمهوريون، و19 في المئة مستقلون وآخرون. أما في الولايات المتأرجحة فيتأرجحون؛ ففي نيفادا واريزونا وجورجيا وكارولينا الشمالية يتقدم الجمهوريون بما يتراوح بين نقطة واحدة وعشر نقاط، أما في بنسلفانيا وميشيغن فيتقدم الديمقراطيون بأكثر من عشر نقاط، فيما يحتل المستقلون المركز الأول في ولاية ويسكنسون.
مقارنة بالانتخابات الرئاسية السابقة تبدو هذه الأرقام مشجعة لترامب، لكن معاينة بسيطة تبدد هذه المقارنة. ففي انتخابات 2020 وحين كانت استطلاعات الرأي تشير إلى احتمال خسارة ترامب بفارق كبير يصل إلى أكثر من سبع نقاط مئوية، شن الرئيس السابق هجومًا غير مسبوق على النظام الانتخابي وخصوصًا التصويت المبكر، سواء مباشرة أو عبر البريد. استثمر ترامب وحملته في المشهدية أكثر من الحقيقة. تم الإيعاز إلى أنصاره بالتصويت بوم الانتخابات فقط، وفي المناخ الذي كان وباء «كورونا» يحتله، وكانت وراء تلك الحيلة الإعلامية «قطبة» مخفية ابتدعها أقرب مستشاري ترامب وأكثرهم كاريكتورية روجر ستون، المصّر على اعتمار القبعة الفيكتورية حتى اليوم، وترتكز على مشهدية تقوم على تقديم أعداد الذين يدلون بأصواتهم يوم الانتخاب على الأصوات المبكرة التي يتم احتسابها فورًا، لأن ذلك يخلق فارقًا يمكن التلاعب بالمشاعر فيه والإيحاء بأن شيئًا من تلاعب ما، تم في مكان ما، للوصول إلى نتيجة ما، وتلك أبجديات نظرية المؤامرة. لكن فشل ترامب في الانقلاب على نتائج انتخابات 2020 دفعت حملته هذه السنة إلى تغيير الخطة وحث مناصريها إلى التصويت المبكر.

قضايا 2024

منذ نهاية الحرب العالمية الأولى 1918 والتي كرست أمريكا كدولة عظمى، كانت الانتخابات فيها تقوم على ثلاثة محاور هي؛ أولًا: الخبز والزبدة، أي الواقع المعيشي للناس، وثانيًا: الحرب والسلام، أي من هو أكفأ للدفاع عن المصالح الإستراتيجية، وثالثًا: الأبيض والأسود، أي العلاقات الأمريكية الداخلية بين مكونات المجتمع الجديد. لم تتغير الصورة كثيرًا بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) التي حوّلت أمريكا إلى الدولة الأعظم، لكن أحد الأقانيم الثلاثة تغير بحكم الواقع. لم يعد الأبيض والأسود بندًا ملحًا على النقاش الوطني، بعد إقرار حزمة التعديلات القانونية في الستينيات من القرن الماضي. إلّا أن أوساط النخب البيضاء الأوروبية الأصل التي أوصلت إلى البيت الأبيض أمثال الرئيس وودرو ولسون الذي كاد أن يهنئ جون وايكس بوث لاغتياله الرئيس ابراهام لينكولن عام 1865 لم ترق لها المواكبة القانونية للتعديلات الدستورية ولا قوانين الحقوق الدستورية والمدنية التي أقرت في ستينيات القرن الماضي، فحولت بند العنصرية إلى بند حرب ثقافية لا تزال تستثمر فيها تحت عناوين مختلفة أبرزها عنوان معاداة «ثقافة الإلغاء» (Cancel Culture). من أبرز تلك العناوين التصدي للجندرية، حيث يدعي المحافظون أن المدارس الرسمية تقوم بعمليات تحويل جنسي لتلامذتها من دون موافقة أهلهمّ، أو منع تدريس تاريخ أمريكا من إبادة السكان الأصليين إلى الفصل العنصري وما بينهما من عبودية واسترقاق وتمييز، أو أي ما يتسبب بإزعاج خاطر المواطن الأمريكي كما عبر عنه قانون حديث في فلوريدا.
لن تكون انتخابات هذه السنة شبيهة بما سبقها. فقبل الاقتراع بثلاث سنوات، أعلن ترامب أن النتيجة مزورة سلفًا. بالمناسبة، عندما حاز على تزكية الحزب الجمهوري عام 2016 ولم يكن واثقًا من الفوز، عمد عبر أزلامه وقنواته إلى تعميم الشك بالنظام الانتخابي عبر إعلانه مقولة «أوقفوا السرقة» (Stop the Steal) لكنه بعد وصوله إلى البيت الأبيض، استساغ أكاذيبه وأعطاها زخمًا رسميًا، وعمم ولا يزال رفضه للنتائج التي لا يعترف بها إن لم تكن لصالحه. واستبق انتهاء الاقتراع قبل أن يبدأ بأسابيع بإعلان حالات تزوير هائلة لم يقدم أي دليل جدي على أي واحد منها.
في هذه الانتخابات تحتل قضيتان كبريان موقع الصدارة. في الجانب الجمهوري لا تتقدم أية مسألة على الهجرة غير النظامية. هذه قضية خلافية باهرة، تتقاطع فيها مصالح ومشاعر الشريحة الأكثر ميولًا للمحافظين. ففي حين توفر الهجرة غير النظامية معظم الأيدي العاملة الرخيصة، والتي لا تتطلب تأمينات ولا ضمانات من المزارع والمصانع الكبيرة التي يتبرع أصحابها بالملايين للجمهوريين، يتبنى الجمهوريون سياسة لفظية قوامها رفض المهاجرين غير المسجلين حرصًا على فرص عمل لا يريدها الأمريكيون! هي لعبة ألسنية تتبادلها النخب اليمينية عبر الأطلسي لأنها تعرف جيدًا أن بلادها تحتاج إلى اليد العاملة الأجنبية، وفي هذه الحال العالم ثالثية، لتقوم بأعمال لا يريدها بيض أوروبا، لكنها لا تريد الاعتراف بهم حتى لا تعترف بحقوقهم كبشر في دخل كافٍ، ولا تقاعد ولا أي حقوق.
في المقابل، يقدم الليبراليون مسألة مستقبل الديمقراطية في أمريكا على ما عداها. هم يرون أن ترامب الذي جاء إلى السياسة من عالم آخر لا يمت إلى السياسة أو الشأن العام بصلة، ليس سوى شخصية كاريكاتورية تنتمي إلى أوروبا في أوائل القرن العشرين، وتحاول أن تنعش في نفوس الأمريكيين البيض ذوي الأصول الأوروبية تلك الروح التي اجتاحت أوروبا قبل قرن كامل من الزمن، دون الإتيان على ذكر أن تلك الإيديولوجيا أودت بأوروبا والعالم إلى التهلكة، ليس مرة واحدة بل مرتين. والحال أن لدى الليبراليين الكثير مما يقولونه في هذا المضمار. أمريكا أمة من المهاجرين، هذا كلام صحيح لكل أمريكي إن لم يكن من السكان الأصليين (الذين يطلق عليهم زورًا اسم الهنود الحمر). استهل ترامب حملته الانتخابية عام 2015 بالتصدي للمهاجرين من المكسيك. وصفهم بصراحة بأنهم مجرمون وسفاحون ومغتصبون، وقال إن دولتهم ترسلهم إلى أمريكا عمدًا لتفسدها، بدون أن يذكر أن أكثر من ثلث أمريكا الحالية كان جزءًا من المكسيك.
ثم أن ترامب أساء في حملته الانتخابية الأولى ولا يزال إلى من كل هو غير أوروبي وغير أبيض. كان أول قراراته التنفيذية منع سفر مواطني سبع دول إسلامية، ست منها عربية إلى أمريكا، وبعدها وصف الدول التي يريد مواطنوها الهجرة إلى أمريكا بأقذع الأوصاف وتساءل علنًا عن سبب عدم رغبة شباب اسكندينافيا بذلك. وفي المنقول عمن تعاملوا معه من مساعدين ومقربين أنه أقرب إلى الفاشية الموسولينية (التي يثملها في حركاته وإيماءاته) وإلى النازية الهتلرية، كما في مشروع (2025) (ProJet 2025) الذي أعده عشرات من مساعديه والذين عملوا معه لسنوات. يمثل ترامب بالنسبة للديمقراطيين أسوأ تحدٍ لهم منذ الاستقلال عن بريطانيا. هو يريد أن يكون ملكًا في دولة عافت الملكية في عزّها، وهو يريد أن يكون الفوهرر (الأب القائد) في بلاد لا تؤمن بالأوصياء، لكن شرائح وازنة منها تعتقد بأنه الوصي.

الأرقام الملتبسة

التصويت في النهاية مسألة أرقام. وفي السياق الديمقراطي الأمريكي، كانت الأرقام حتى انتخابات العام 2020 مسألة أعداد، لكن خسارة ترامب لانتخابات الرئاسة بأصوات قليلة نسبيًا، وفي ولايات شديدة التقارب فعليًا، سمحت للمرشح الجمهوري الذي يحتل منصب الرئاسة في حينه، ترامب، بالإدعاء أنه كان الضحية. ضحية تزوير انتخابي لا دليل عليه، لكنه دليل حاسم، لا لشيء إلا لأن ترامب أراد ذلك. كانت كل الأرقام تشير إلى أن جوزيف بايدن مرشح الحزب الديمقراطي فاز في الانتخابات على الرئيس ترامب. كانت أسباب الفوز كثيرة، لكن ترامب لم يقبل الهزيمة ولا يعترف بها حتى اليوم. وهكذا قُدر لحملة «أوقفوا السرقة» (Stop the Steal) أن تستأنف حملتها، أو بالأحرى أن تكملها، من حث بدأت عام 2016 لكنها في ذلك لا تستند إلى حقائق وأرقام بل تراهن على جمهور موالٍ لا يضيره لي عنق الحقيقة لإثبات وجهة نظره.
تشير الأرقام المتوفرة حتى إعداد هذا التقرير إلى أن الأرقام المتقاربة في استطلاعات الرأي هي أكثر تقاربًا في الولايات السبع المتأرجحة الولاء. والولايات المتأرجحة هي في الغرب الأوسط بنسلفانيا، ميشيغن وويسكونسن، والتي تتقدم فيها هاريس على ترامب بما يتراوح بين خمس وخمس عشرة نقطة، وفي جورجيا ونورث كارولينا حيث يتقدم ترامب بنقطتين على الأكثر، وهي النتيجة نفسها في ولايتي نيفادا وأريزونا اللتين أعطتا أصواتهما للديمقراطيين في آخر انتخابات رئاسية.

التنبوء الأول

مهما يكن من أمر، من الممكن التنبوء ببساطة بما ستؤول إليه الأمور، إذا فازت هاريس بالرئاسة. سيعمد ترامب وفريقه إلى إعادة لعبة 2020 حينما خسر وهو رئيس ولم يعترف بهزيمته حتى الآن، وهي اللعبة التي أعدها لها صديقه روجر ستون عندما لم لم يكن واثقًا من أنه سيفوز في انتخابات 2016. سيكون هناك الكثير من التباكي على أمريكا المسيحية البيضاء، وعلى الإرث الأوروبي المتواري على منوال آل لوبان في فرنسا وآل «نيو نازي» و«نيو فاشي» في أوروبا وخصوصًا في الدول الاسكندنافية التي تريد عمالة رخيصة وبلا حقوق، لكنها لا تريد مهاجرين. وفق إحصاءات مراكز البحث الأمريكية الرصينة، تحتاج الولايات المتحدة إلى ما يزيد عن مليون ونصف مليون مهاجر جديد كل سنة لتلبية حاجة الاقتصاد الذي ينمو بإثنين في المئة سنويًا كحد أدنى، وهذا الرقم مطلوب فوق ما هو متوفر في السوق الوطنية، وهذه النسبة موازية لما تتطلبه الأسواق الأوروبية الغربية…وحتى اليابان، وما تختبره الصين حاليًا.
في حين تستدعي معظم الولايات قانونيًا إجراء إعادة احتساب الأصوات مرة ثانية تلقائيًا إن كان الفارق بين المرشحين أقل من واحد في المئة، وبصرف النظر عن المبدأ الراسخ ديمقراطيًا والذي يؤكد أن صوتًا واحدًا يكفي لحسم أية انتخابات، سيحاول ترامب وفريقه استنزاف السياق القانوني كما فعلا في الانتخابات الأخيرة، وسيحاولان لعب دور الضحية السامية أمام البرابرة. لكن الاختلاف في هذه المرة أن ترامب ليس في السلطة وليس في امكانه محاولة التأثير على النتائج كما حاول قبل أربع سنوات، ولن يكون بمقدوره التأثير على موقع رئاسة مجلس الشيوخ التي سيكون عليها التصديق النهائي على نتائج الانتخابات، فنائبة الرئيس هي المرشحة المنافسة له كامالا هاريس، ولن يكون بمقدوره دعوة أنصاره لشنقها كما فعل مع نائبه مايك بنس قبل أربع سنوات.
هذا في العاجل، أما في المدى المنظور فمهما تكون نتائج الانتخابات، سيكون على كلا الحزبين الكبيرين أن يبدآ في إعادة نظر شاملة في بينتهما وأدائهما. إذا خسر ترامب سيكون على الجمهوريين الذين دعوا في عام 2012 بعهد هزيمتهم أمام أوباما، إلى إجراء تشريح كامل للحزب، أن يعيدوا تلك الدعوة لمعرفة كيفية تمكن شخصية نرجسية لم تكن يومًا في الحزب ولم تكلف نفسها عناء الدفاع عن مبادئه أبدًا من التحكم بالحزب جملة وتفصيلًا والهيمنة عليه في سرعة خيالية. وإذا خسرت هاريس سيكون على مؤسسة الحزب الديمقراطي العريقة أن تواجه أسئلة التيار الليبرالي فيه عن صوابية سياستها. فالتيار الشبابي في الحزب الديمقراطي لم يعد رهينة القوى الصهيونية المؤيدة لإسرائيل بالمطلق، وهو ما تبين خلال سنة ونيف من حرب الإبادة على غزة (بصرف النظر عن مواقف ومشاعر الناخبين العرب الأمريكيين) وهذا التيار لم يعد قادرًا على استيعاب التهافت أمام أصحاب الملايين والشركات الكبرى الذين يشترون مصالحهم على حساب المستهلكين وذوي الدخل المحدود والبيئة من خلال تبرعات انتخابية تافهة. ليس من المبالغة القول بأن هذه الانتخابات هي الأهم منذ الحرب الأهلية، فهي كذلك، لأن ما بعدها أكبر وأبعد بكثير مما قبلها، وبمقياس اليوم ما يجري في أمريكا يؤثر على الكون كله.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية