آخر رجال بغداد الأنيقين في ذكراه جبرا ابراهيم جبرا الواقف مثل بشارة ما بين النار والجوهر

حجم الخط
0

آخر رجال بغداد الأنيقين في ذكراه جبرا ابراهيم جبرا الواقف مثل بشارة ما بين النار والجوهر

فاروق يوسفآخر رجال بغداد الأنيقين في ذكراه جبرا ابراهيم جبرا الواقف مثل بشارة ما بين النار والجوهرقبل عشر سنوات، بالضبط في مثل هذه الأيام غاب عن حياتنا جبرا ابراهيم جبرا. وهو رجل لا يعرف كما كتبت في الصفحات الأخيرة من كتابي (أقنعة الرسم) حين قدمت تعريفات موجزة بالأسماء التي وردت في متن ذلك الكتاب. كان جبرا غير الجميع، لا من بين الذين ذكرتهم في كتابي، فحسب بل وأيضا في كل الحياة والثقافة العراقيتين طوال أكثر من نصف قرن. رجل الاختلاف العميق المؤمن بحق الآخر في ان يكون مختلفا وبعمق. أحبه وشغف بنتاجه الأدبي والفني الكثيرون وحاربه وقاطعه، بل وحذر منه الكثيرون (الشيوعيون والبعثيون علي حد سواء)، لكن الكل أجمع علي أهميته الاستثنائية، بل وضرورته في التاريخ الثقافي لهذه الأمة. رجل لا تقيم أهميته في نتاجه الأدبي المباشر وحده، فحسب بل ان ضرورته تتماهي مع اللحظة التاريخية التي استجاب حضوره لعصفها: تلك هي لحظة الحداثة وهو رجلها بامتياز انحيازه الذي لم يشبه يوما ما أي نوع من الحيرة أو التردد أو التراجع أو الشك. يمكنني القول بيقين كامل ان ظهور جبرا علي ساحة الابداع كان بمثابة البوصلة التي عملت علي هداية تيار الحداثة الفنية والشعرية في العراق ومن بعده في الوطن العربي الي الاتجاه الصحيح، لا لأنه سبق الآخرين في التماهي مع التحولات الثقافية في العالم، فحسب بل وأيضا لأنه امتلك ذائقة جمالية نادرة وحسا نقديا، قلما اجتمعا في انسان واحد. كانت الحداثة بشارته في البدء وهي وصيته الي الأجيال القادمة في المنتهي. لم يكن رجل مشروع كما توهم البعض بل كان مشروعا عظيما في رجل. غ2فروائي وكاتب قصة وشاعر ورسام وناقد. كل هذا لا يكفي لاختصار حلمه الكبير في ان يكون رائيا. وهو ما استطاع ان يكونه بالفعل علي امتداد عقود من الزمن. لقد كان عراب حداثة هي في طور التشكل ولا تزال. بدأها مع مجلة شعر التي صدرت نهاية الخمسينات في بيروت والتي كانت حينها التكريس الأمثل لصبوات الخروج من الماضي الي العصر الحديث. لعب في حياتنا دورا متمما لما لعبه طه حسين، غير ان الفرق بين العبقريتين، ان جبرا لم يكتف بالتنوير ضالة بل ذهب الي النتيجة ليحصدها علي شكل نتاج فني وأدبي. حين حضوره الي العراق عام 1948 كانت ثمار الحداثة جاهزة للقطاف في انتظار اليد العبقرية التي تزيح عنها عتمة الأوراق فكان هو تلك اليد المباركة بالعطاء وقلق المبدع. كان في انتظار مقدمه، الذي كان بمثابة قدر العراق الثقافي، بدر شاكر السياب بارتباك خروجه علي الموروث الشعري وجواد سليم بجموحه المزدوج في اتجاه منمنمات الواسطي المستلة من التراث العراقي ورسوم بيكاسو المعاصر. ولأن جبرا هو رجل الفنون كلها، فقد استطاع ان يلعب دورا رياديا في التحريض علي التمسك بالحداثة، في صفتها إكسير خلاص، في الشعر كما في الفن التشكيلي. كان ناقدا، غير ان تلك الصفة لا تكفي، ذلك لانه لم يلعب دور المروج، كما قد يفهم. كان دوره أكبر من ذلك بكثير. لقد وظف الرجل ثقافته من أجل خروج المعاني الحداثوية من منافيها، فابتكر سبلا يتخذ معها التمرد الجمالي طابعه التبشيري في حياة الناس.غ3فولد جبرا ابراهيم جبرا في بيت لحم بفلسطين عام 1920، ودرس في القدس وفي جامعة كيمبريدج في انكلترا حيث حصل علي شهادة الماجستير في الأدب الانكليزي. بعد كارثة 1948 انتقل جبرا الي العراق واستقر في بغداد وحصل علي الجنسية العراقية. نشر عدة كتب في النقد الأدبي تعد من بين أهم ما كتب في النقد العربي المعاصر. منها: (الحرية والطوفان 1960) (النار والجوهر) (الفن في العراق اليوم ـ بالانكليزية) نشر جبرا ثلاث مجموعات شعرية ( تموز في المدينة 1959)، (المدار المغلق 1964)، ( لوعة الشمس 1979) كما نشرت بعد وفاته مجموعته الشعرية الأخيرة (متواليات شعرية 1996)، ونشر مجموعة قصصية واحدة (عرق وقصص أخري 1956) ثم أضاف اليها قصصا أخري ونشرها تحت عنوان (عرق وبدايات من حرف الياء 1983). وله في مجال الرواية العديد من الروايات نذكر منها: (السفينة) و(البحث عن وليد مسعود) و(يوميات سراب عفان) و(صيادون في شارع ضيق) . نشر جبرا أيضا كتابين مميزين ونادرين في السيرة الذاتية: (البئر الأولي 1989) (شارع الأميرات 1994). أما (عالم بلا خرائط) فهي تجربته الروائية المشتركة مع الروائي العربي الراحل عبد الرحمن منيف. وقد ترجم الي العربية التراجيديات الشكسبيرية والعديد من الروايات والكتب الأساسية، التي كان لها أكبر الأثر في تحديث الفكر الابداعي العربي. يكفي ان نشير الي الاثر الذي أحدثته ترجمته لفصل من كتاب جيمس فريزر (الغصن الذهبي) في الشعر العربي الحديث. فمن خلال ذلك النص انتبه الشعراء العرب الطليعيون الي أساطير الخصب، كونها مصدر إلهام، يقيم بخفائه بين أيديهم. أكثر من 57 كتابا، في امكانها ان تشكل مكتبة غنية بتنويعاتها، هي الارث الذي تركه جبرا وراءه وهي وصيته الي الأجيال العربية القادمة، التي لم يتوقف عن النظر اليها حالما.غ4فروي جبرا ابراهيم جبرا عن نفسه فقال: أذكر انني قبل أربعين سنة، قبيل مجيئي الي بغداد، سألت في دمشق رجلا كان قادما منها: هل بغداد مدينة كبيرة؟ أجاب الرجل: نعم بغداد مدينة كبيرة ففيها أربعة عشر ملهي.ويضيف جبرا: بالنسبة اليه، وكان سائق سيارة، ربما كان عدد الملاهي هو مؤشر الكبر والأهمية. أما أنا فالذي أحلم به، في مطلع القرن الحادي والعشرين هو ان يسأل أحدهم رجلا قادما من بغداد: هل بغداد مدينة كبيرة؟ فيجيب: نعم ففيها أربعة عشر مسرحا، وأربع عشرة كلية، وأربع عشرة مكتبة عامة، وأربعة عشر متحفا، بل وأربعون مطبعة كبيرة، وأربعون مستشفي، وأربعون معهدا للبحوث العلمية، وأربعون قاعة للفن.بغداد التي أحبها جبرا ما عادت موجودة، لقد رافقته الي الغياب كما لو أنها لم تكن موجودة أصلا. غ5فحين أتذكر الآن ان جبرا كان صديقي يرتج كل جزء في بدني. ففي كل لحظات الوفاق أو الاختلاف بيننا كان الرجل معلما من طراز خاص. لم تكن القسوة من طبعه فكان لا يكتب الا عما يحب. الأمر الذي دفع الكثيرين الي الظن بانه يجامل علي حساب الحقيقة، في حين كان شعاره في النقد: كن منصفا. لقد اختلفنا ذات مرة علنا أمام الجمهور بشأن قيمة أحد النحاتين، وكنت أري أنني علي حق وشجعني الجمهور علي التمادي في فضح الأخطاء التي ارتكبها جبرا، كما كنت أظن. لم يغضب الرجل بل اكتفي بعقابي لأسبوعين متتاليين مرا من غير ان يكلمني، بعدها عدنا أصدقاء ولم نذكر تلك الواقعة، التي أشعر ازاءها الآن بالندم. في بداية العام الأخير من حياته حملني جبرا أمانة هي عبارة عن رسالة كبيرة، طلب مني تسليمها في عمان الي ماهر الكيالي، مدير المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وهي الدار التي اعتاد جبرا نشر كتبه من خلالها. وضعت الرسالة في حقيبتي، ومنها الي الكيالي من غير ان أعرف محتواها. بعد شهرين التقيت جبرا في بيته فوضع بين يدي نسخة من كتابه الجديد (شارع الأميرات) وهو يقول لي: أشكرك مرتين، الأولي لأنك أوصلت مخطوطة هذا الكتاب والثانية بسبب كلماتك التي زينت غلافه الأخير. يومها كاد ان يغمي علي. فها هو الكاتب الكبير الذي يتسول الكثيرون كلمة منه لتكون بمثابة تزكية لكتبهم، يضع كلمتي عنه علي غلاف واحد من أكثر كتبه اكتظاظا بالعاطفة الشخصية. ذلك الكتاب كان مرثيته الوحيدة لرفيقة عمره (لميعة العسكري) التي رحلت قبل رحيله بسنة واحدة.غ6فكان جبرا علي قدر هائل من التواضع، لكنه تواضع ممزوج بالرفعة، انه تواضع العلماء الذين يجدون في المعرفة جسرا يؤدي بهم الي الناس العاديين، حيث يكون بامكان رسالاتهم ان تصل من غير ان يلوثها هواء العادي والمألوف. لذلك يمكنني القول: ان جبرا كان صديقي ومعلمي في الآن نفسه. جبرا الذي كنت أعرفه كان يعرفه كل الناس الذين يبحثون عن الحقيقة بحب ورفعة. كان داعية حرية وتمرد وظل كذلك الي آخر يوم في حياته. كانت لغته تشبهه من حيث أناقتها، بلاغته هي خلاصة توقه الي الحرية. كان جبرا آخر الرجال الأنيقين في بغداد، الذين كانت أناقتهم تفصح عن شعور عميق بنبل جمالي، هو بمثابة دعوة لولادة أخلاق جديدة. شاعر وناقد من العراق يقيم في السويد0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية