مبتدأ التهافت وخبره!

حجم الخط
0

لم يعد مصطلح التهافت حكرا على ذلك السجال الفلسفي الشهير بين اثنين من أبرز الفلاسفة في تاريخنا، احدهما يمثل العقلانية ويتغذى في مغامرته من الشك، والآخر عاد من منتصف الطريق، بعد ان قطع شوطا في الشك، لهذا فان استخدام عبارة تهافت التهافت عنوانا لاطروحة رشدية مضادة دشن معجما مركبا من مصطلحات على غرار نقد النقد، الذي ارتبط بالحداثة وما بعدها، ورغم انه مورس قديما في تاريخنا الا انه حمل اسماء اخرى .
التهافت الان يهاجر الى عدة سياقات في حياتنا، منها الفكري المعرفي والابداعي والفني ايضا بكل ما يصنف منهجيا تحت عنوان الفنون، وحين يستخدم شاعر عربي معاصر هو فوزي كريم مصطلح تهافت السّتينيين اشارة الى ما يسمى في تحقيب التاريخ الادبي شعراء السّتينات، فالسياق الذي استخدم فيه هذا المصطلح جديد الى حدّ ما وهنا ينبغي التفريق بين مفهومين للتهافت أحدهما اقرب الى الشخصنة وهو تهافت الفلاسفة والثاني من صميم التجريد ومنظومة المفاهيم وهو تهافت التهافت، ولعل هذا التفريق يتناغم تماما مع اتجاهين مثلهما ابن رشد والغزالي في ثقافتنا، لهذا اطلق على ابن رشد اسم المفترى عليه، وقد احرقت كتبه بالفعل، لكن فينيقا آخر حلّق في اجواء اقلّ حرارة من اجوائنا تخلق من رمادها وهذا ما جعل من الرشدية تيارا تنويريا مبشرا بالعقل في فرنسا لفترة من الزمن.
التهافت الان شبه بنيوي لأنه يتفشى في النسيج كله، فهو الصفة الدقيقة التي يمكن اطلاقها على شعرية افتراضية، كلما حاولت التشبه بالشعر ابتعدت عنه بحيث تتحول في النهاية الى نقيضه، ذلك ببساطة لأن النثر ليس نقيضا للشعر فهو نوع ابداعي آخر، لكن الشعر المنظوم المتماهي هو النقيض، فهو يذكّرنا بغياب الأصول رغم محاولته البائسة الحلول مكانها.
وللصحافة ايضا تهافتها بمقياس آخر، بعد أن حلّت الحرفة مكان الموهبة، فلا صحافة بلا هواجس كشف واستقصاء، خصوصا في فترات التحول الحرجة التي قال عنها سارتر ان الصحفي فيها يصبح مؤرخا وهو لا يعلم. ولأن التهافت بدأ يشمل كل الأنشطة من خلال استيلاد صناعي وانبوبي كبدائل للأصول، فقد أفرزت بالضرورة نقدا موازيا لها، وهو تهافت ايضا لأنه يعتاش على عشب صناعي، ولا يمكن لنا في يوم من الايام مهما بلغنا من الحمق ان نتصور بأن دمية من قطن او قش ستنمو وتكبر اذا ارضعت بالحليب او الحبر لا فرق !
* * * * * * *
في جذر مفهوم التهافت ثمة تسارع فيزيائي في السقوط والفارق بين التاريخ والفيزياء هنا هو ان جاذبية التاريخ تعي دورها وما تمارسه بينما يحدث هذا التسارع فيزيائيا وفقا لقوانين لا دخل للعقل البشري فيها، فلكي ندرك ان هناك تهافتا في نشاط ما يجب ان يقاس في ضوء معايير ومنظومات فكرية ترسخت من الخبرات الانسانية المتلاحقة، بحيث لا يشعر كائن ما بأنه اول من غنى او رسم او اول من كتب، وهنا تحضرنا مقولة دانتوس الحكيمة عندما قال سحقا لمن سبقونا فقد قالوا اقوالنا كلّها، وليس معنى ذلك انه لم يعد لدينا ما نقوله كبشر لأن ما تبقى لنا هو كيفية القول وليس تكراره، والثيمات الكبرى في تاريخ الادب كما تحدّث عنها جيته قد لا يتعذّر حصرها بدءا من الحب والموت والألم والخذلان حتى وعي الزمن والتورط بعبثية الوجود، لكن كل جيل يقول آلامه واشواقه وعشقه وكذلك موته بطريقته، فيبدو كما لو انه غير مسبوق، وهذا ما عناه الشاعر د . هـ . اودن عندما قال اذا سمعت من فتى ان لديه ما يقوله شعرا فهو ليس بشاعر، لأن الشعر ينشأ في لحظة الاستغراق بكتابته، ولعلّ هذا هو ما دفع سارتر رغم صرامته في الأدب الملتزم الى استثناء الشعراء، اما افلاطون فقد تطوّع مبكرا ورغما عن نواياه في الاعتراف بفاعلية الشعر، ولم يكن نبذهم من جمهوريته الا خوفا عليها من جمهورية اخرى مضادة، لهذا نجد ان الريبة من الشعر صاحبت كل الايديولوجيات بدءا من صدر الاسلام حتى الماركسية ونظمها، ولا يقبل الشاعر في مثل هذه الحالات الا داجنا في اقفاص الايديولوجيا، وقد تغنينا حكاية حسان بن ثابت عن المزيد، مثلما تغنينا مصائر شعراء من طراز ماياكوفسكي وسيرجي يسنين واخماتوفا عن ذلك ايضا .
* * * * * * * *
اننا نعيش زمنا تهافتيا بعدة امتيازات وفي مقدمة هذا التهافت الادمي ذاته، منذ اصبح مجرد رقم او استمارة، وكان الشاعر الامريكي كمنجز قد احس بذلك مبكرا عندما قرر ان يكتب اسمه بحروف صغيرة، تماما مثلما ألف ولهالم رايش كتابا هو حزمة من الرسائل الى الانسان الصغير الذي حوّلته الرأسمالية في ذروة توحشها الى مسمار او مجرد قطعة غيار قابلة للاستبدال في أي وقت .
ان مهنة الكتابة بمجملها قد اصابها فيروس التهافت ايضا، بفضل وفرة الطباعة وتطور تقنية النشر، ونادرا ما نجد اليوم دور نشر من من طراز فايبر او بنغوين او غاليمار لها قراء متخصصون في تقييم المخطوطات قبل اعدادها للنشر، والمفاهيم ايضا اصابها هذا السرطان بحيث اصبحت مثله تنمو عشوائيا وتتضخم لكن بشكل مضاد للعافية، فما يقال عن الحب وهو غزير بكل المقاييس حرفة وليس ولها او عشقا، وكذلك ما يكتب عن ثورات وشهداء فهو يحوّلهم الى مادة خام للاستثمار الكتابي بحيث يصبح نص عن ثورة اشبه بمديح شاعر جاهلي لقبيلة، لأن فائض ثنائية المديح والهجاءعبر القرون كلّها يحول الثورة الى ممدوح وكذلك الحبيب، لهذا يدرج معظم الشعرالذي تناول الانوثة في عصرنا في خانة الغزل وليس الحب، والفارق بينهما هائل، ولم يحدث ان تهافت الفكر السياسي والنثر الذي يعبر عنه كما هو الان بحيث تبدو مقالة اورويل الشهيرة عن النثر السياسي في زمانه والذي يصفه بمثانة خنزير عادية وغير صادمة للذوق العام، ما دام هذا النثر اضافة الى كونه مشبعا بالوظيفية والذرائعية يفتقد الى البوصلة الاخلاقية، فهو احيانا يبرر الاستبداد والتنكيل وكأن المرسل اليه في هذا النثرهو شخص واحد، وهو الحاكم او السّلطة التي يجسّدها.
هكذا لم يعد التهافت حالة طارئة تتعلق بفيلسوف عاد من منتصف الطريق فرارا من مكابدات الشك وحلما باليقين، بل هو سياق بنيوي لا يسلم منه شيء لكن ما تبقى هو الاطروحة المضادة التي لم تولد بها رغم ان التاريخ حامل بها وهي كشف تهافت هذا التهافت اذا قدر للرشدية ان تكون على موعد مع القيامة بعد ان اوشك الموت ان يٌنهي مهمته.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية