الجهل المُمَأسَس والسلطة الخائفة

حجم الخط
2

قالها عبد الرحمن الكواكبي ببساطة في ‘طبائع الاستبداد’ (رغم ما في الكتاب من مغالطات): إن من ‘أقبح’ أنواع الاستبداد هو ‘استبداد الجهل على العلم’.
أوليفير روا كتب في ‘الجهل المقدس’؛ وتابَعه محمد أركون في ‘الجهل الممأسَس’.
ولأن الجهل يُصنع بطريقة ممأسَسة ممنهجة منظمة في الكثير من البلاد العربية ومنها الأردن، خدمة لسلطة أو أكثر ليس من مصلحتها أبداً أن يتعلم الناس في مؤسساتها نظريات المعرفة ومعاني الحقيقة والحرية على اختلافها، أو أن يعيدوا النظر في المقدس الفكري والسياسي والاجتماعي، فهو إذاً من الطبيعي المتوقع تماماً، والحال مخزية هكذا، أن تتردد إحدى مؤسسات السلطة أمام كتاب لا يكون صاحبه قد فكر، وقت الكتابة بشيء، قدر الاقتراب من شيء من الحقيقة، بل قد يسأل عن إمكان كون معظم التصورات عنها محض اختراعات وأوهام، على طريقة نيتشه، بما في ذلك التصورات الواردة في الكتاب نفسه. وحين يخلص الكاتب لنفسه والمعرفة، فهو يختار عمىً مقصوداً عن النتائج المحتملة لهذا الإخلاص، ولا يبادر (خوفاً أو سداً للذرائع) بشطب أي سطر لزِم فيه استخدام المقدس، حقيقة أو مجازاً، ضمن سياق فكري أو أدبي يطرح أفكاراً حول مفاهيم السلطة والحقيقة والحرية. لكن السلطة لا تقف أبداً عند القيمة المعرفية أو الأدبية الممكنة للكتب، فالمعرفة آخر ما قد يعنيها هي والمجتمع الغارق في التخلف والتسلط، بل هي تقف عند الأفكار التي تقلقها وتجعلها تخاف منها على نفسها وعلى المجتمع، بقدر ما تخاف من هذا الأخير إذا ما انتصرت، ولو مرة واحدة، لحرية الفكر، بدل الانحياز لما أصبح الذائقة الفكرية لهذا المجتمع: أعني الأيديولوجيا الدينية بشقها الفقهي الأصولي الذي تتاح له كل المنابر، كتباً ومناهج مدرسية وصحافة وإعلاماً، بطريقة تقض كل يوم مضجع ابن رشد في مثواه. ذلك لأن هذه الأيديولوجيا (على عكس ما قد يبين في الظاهر) تخدم النظام السياسي ولو من بعيد، وهو منذ وجِد جعلَ الخوف على مشاعر مريديها (وهم أغلبية) بنداً في القانون، ناسياً أن للبعض أيضاً، ولو كانوا أقلية، مشاعر ومقدسات إنسانية وفكرية تُهان حين تُخضع لمفاهيم وقواعد آيديولوجية دينية أو سياسية، لا فلسفية أو علمية، وحين تُختزل لأحد مفاهيمها الإقصائية وتُحاكَم على أساسها. ما تنساه السلطة أيضاً حين تقلق فتمنع الكتب أو تجمدها عن التداول، أن القوي الواثق الأقرب إلى الحقيقة لا يخاف أبداً من حفنة كلمات كتبها ضعيف قد لا ينتبه إليها أحد، وأنها إن خافت، فذلك بحد ذاته يشكك في قوة النظام الفكري، الذي تستند إليه في قرار إجازة كتاب أو منعه.
ما هو ممأسَس إذاً هو جهل مقدس؛ نظامٌ فكري ضعيف معرفياً مدنس بالسلطة وشروطها المرحلية في العالم العربي. بسبب وضوح ذلك فإن الآلية المستخدمة لإجازة الكتب أو منعها ليست مستغرَبة: فقد غدا إجراء ‘عادياً’ (رغم إهانته للفكر) أن تحيل السلطة السياسية ممثلة بدائرة المطبوعات والنشر كتباً إلى دار الإفتاء للاستئناس برأيها، لا إلى مختصين بالفلسفة أو بالأدب، فتلك تخصصات حُجمت تماماً في مؤسسات التعليم منذ زمن بعيد، لأنها بالكاد قادرة على إنتاج العبيد. وهكذا قد تصبح ورقة الإفتاء، إن كانت سلبية الرأي، في درج السلطة السياسية، لها أن تحيل بها كاتباً (لأنه قد فكر) إلى المحكمة أو أن تجمد، بداعي الحرص على نفسها وعليه، كتابه عن التداول في بلده بصمت مريب، إلى حين يبين خيط أسود من خيط أسود آخر.
مع ذلك، وبسبب المأسسة، فإن السلطة ليست محصورة في دار أو دائرة أو مسؤول أو موظف يتحمل وحده مسؤولية الجهل وتجلياته. كما إن الأزمة ليست محض أزمة كتاب يمنَع أو يُجاز، بل إن إجازة أي كتاب يحاول تفكيك الأيديولوجيا ونقد السلطة لن تغير شيئاً في أصل المشكلة. باختصار صادق غير مخل مطحون بالوجع، لقد أصبحت قداسة المعرفة آخر القيم البشرية النبيلة التي قد تحتفي بها مجتمعات أصبحت في الدرجة الدنيا من السلم الحضاري، بل لم تعد مؤسسات العلم والتعليم فيها أكثر من مؤسسات تجهيل منظم؛ مصانع تنتج، عبر ماكينات ضخمة قديمة وحديثة، محلية ومستوردة، عناصرَ بشرية تبني مجتمعاً بأكمله على أساس الجهل. بالطبع، فإن شيئاً من هذا ينطبق على مجتمعات أخرى لا تسلم تماماً من استعارة المصنع، لكن الخطأ لا يصبح صواباً بمجرد أن الغالب القوي يرتكبه أيضاً. وطالما أن مؤسسات التعليم في البلاد المغلوبة هي بشكل أو بآخر مصانع للعبيد؛ عبيد للسائد السياسي والفكري والاجتماعي، فهي تبدأ بإفهام التلميذ الصغير أن في الدنيا حقيقة واحدة لا أكثر، تساق لها أدلة ساذجة حد الوقاحة تعلم التلمــــيذ معنى مغالطاً تماماً للدليل والحجة والمنطق، كما ستعلمه مراراً وتكراراً أن حريـــته ‘تنتهي حين تبدأ حرية الآخرين’، مشددة ضمناً على ضرورة أن يكون الآخرون يشبهونه في تبجيل السلطة ذاتها، وإلا استحقوا القمع والاستبداد. وطالما أنها توحي له بأن المنهاج المدرسي مقدس، ولا تقدم له أي مخزون فكري فلسفي آخر، فهو سيفهم، إذا قرر التمرد والتفرد، الحريةَ على أنها محض انحراف عن السائد، فينضم إلى نماذج مشوهة أخرى من العبيد أنتجتها المصانع ذاتها. سيدخل لاحقاً هؤلاء الطلاب الجامعات وبعضهم سيعود للعمل في المصانع ذاتها، وبعضهم سيعمل في مؤسسات الدولة التي لها يد في المطبوعات مطبقاً أو مؤولاً قوانين وأعرافاً، لاعباً دوره في ماكينة الجهل، فيكون قراره عندئذ قراراً مؤسسياً غير فردي على الإطلاق.
إن من أكبر الأزمات أيضاً أن السلطة نجحت في خداع نفسها ورعاياها بأن زرعت في الناس مفاهيم مغلوطة للتطور والتحضر والتحرر والتنور، جميعها مربوطة بشروط الرأسمالية ومظاهرها المادية والتقنية، فتكون بذلك هي أيضاً مستعبَدة لما هو جاهز سائد في العالم وإيقاعه بالغ السرعة، حيث لا وقت ولا صبر على الفكرة، وحيث بالكاد تصمد محاولات حقيقية للتفكير أمام كل الإلهاءات والتداول السريع للأخبار والأقوال والمعلومات. إن مظاهر هذا النوع من الاستبداد والاستعباد تتجلى أيضاً في التعليم: لقد أصبح من الأولى أن يتعلم طالب المدرسة تطبيقات حاسوبية أكثر، وإن استخدمها لتداول الجهل، بينما يقرأ فصلاً سريعاً في حصة اللغة العربية من ‘كليلة ودمنة’، من غير أن يعرف ما في ‘باب برزويه’ في الكتاب عن ‘المصدق المخدوع’: ‘وقد وجدت آراء الناس مختلفة وأهواءهم متباينة وكل على كل عادٍ وله عدو ومغتاب وفيه واقع. فلما رأيت ذلك لم أجد إلى متابعة أحدٍ منهم سبيلاً وعرفت أني إن صدقت أحداً لا علم لي بحاله كنت في ذلك كالمصدق المخدوع…’ مثال آخر: لقد غدا تقليداً طبيعيا أن يستهلك الطالب في زمن الاستهلاك مقولات سريعة عن أن ‘العرب علموا أوروبا العقل والتنوير بينما كانت تغفو في ظلام العصور الوسطى’، من غير أن يعرف شيئاً واحداً عن معنى التنوير بل الأسوأ: أنه يربطه فقط بمعلومات سطحية في مجال العلوم الطبيعية، فيعرف ابن الهيثم والعدسات وابن النفيس والدورة الدموية والرازي والكحول وابن سينا والطب وجابر بن حيان والكيمياء، ذلك من غير أن يطلع على فكرة واحدة في مجال الفلسفة والعلوم الإنسانية مما فكر فيه بعض هؤلاء حول الإلهيات والملل وطرائق المعرفة. لذا النتيجة غالباً هي كائن شوفيني متعصب فارغ معتز بتاريخه الذي لا يعرف عنه شيئاً إلا ما انتقته السلطة لأهدافها، بقدر ما انتقت ما تريد تصويره من العالم الآخر، فكرياً وسياسياً واجتماعياً (هو مثلاً ‘إمبريالي، متحضر لكن منحل أخلاقياً’). وتبقى الفلسفة والعلوم الإنسانية برمتها أخطر على نظام السلطة مما تختار تدريسه من العلوم الحديثة التي لا تسلم من توفيق وانتقاء (كما يحدث عند تدريس التطور ونظريات الفيزياء وأصل الكون)، لأن الانتباه إلى التوفيق الساذج ومحاكمته يتطلب إلى جانب القواعد العلمية، معرفة في فلسفة العلوم ونظريات المعرفة لا تتيحها المؤسسة. وهي في النهاية جزء من نظام عالمي سائد استطاع توجيه أجيال كاملة نحو غاية المال الذي عرفت به النجاح؛ نحو إرادة العمل في وظائف تشترط معرفة تقنية فقط ولا تتطلب مطلقاً فكراً نقدياً أو فلسفياً. باختصار، ربما لو كان التعليم حقاً علمياً علمانياً مخلصاً لاسمه وغير محكوم لمصالح السلطة بمستواها الضيق والواسع، لكان المجتمع آخر ولتغيرت أعرافه وقوانينه ولما برزت قضية كتاب مجاز أو ممنوع أبداً.
هكذا إذاً: حين يتمأسَس الجهل في مؤسسات العلم، لا غرابة في أن يسود الاستبداد ‘القبيح’ على رأي الكواكبي عند كل مواجهة للسلطة مع الحقيقة.
على أن الأقبح بامتياز هو حين يُحارب الجهل بجهل أكبر منه، له هو أيضاً أصنامه ومؤسساته وشعاراته الرنانة، التي تُستَسهل فيها أصعب المفاهيم والأفكار، وتستَغل كوسيلة للدعاية والإعلان، كما يحدث غالباً حين تبرز قضية متعلقة بحرية التعبير. والنتيجة في عالم السرعة والاستهلاك، كوميديا رديئة يكتب فيها الممثلون أدوارهم التراجيدية النبيلة على عَجل، غير متجاوزين استعارة ‘الحرب’ و’المعركة’ البدائية.
طرفٌ يدعي حماية المقدس الديني والسياسي والاجتماعي ويقول كلاماً مبتذلاً كثيراً عن الله والوطن والشرف، وطرفٌ يدعي حماية المعرفة والحرية والإنسان ويقول كلاماً يفوقه ابتذالاً مستعذباً دور الضحية متقمصاً شخص المسيح، ومخترعاً صليباً بعد أن يطمئن من نفاد ذخيرة العدو من المسامير. هي ليست معركة أصلاً بل مسرحية عن معركة: تُفتح فيها جبهات الكلام المرتجل السريع، لا تصيب أحداً سوى قلب الفكرة والمعرفة، بينما يخرج أعداؤها وسدنتها وكل الممثلين سالمين وقد أشبعوا بالمحاكاة والمسرح شيئاً من غريزة القتل وغريزة البقاء. توزع الغنائم المزيفة بعد المشهد الأخير: جرعة إضافية من السلطة هنا وأخرى من الشهرة هناك، أما الجمهور، فقد استمتع لبضعة أيام من العرض ووجد شيئاً يتجادل حوله ويبدي رأيه فيه: هل يمدح بني أمية أم يبكي كربلاء. يخرج في النهاية الجميع من المسرح ولا يتذكر أحد سؤال من وئِدت: بأي ذنب قُتِلَت.
بقدر ما يقدم هذا المقال اعتراضاً على منع تداول كتب في الأردن، فهو يصر على الاعتراض على إدخال الكتب وأصحابها كجزء في أي مسرحية أو معركة تبتذل الأسئلة الكبرى وتلوك عبارات كـ’قوى الظلام’ و’الإرهاب الفكري’ و’تكميم الأفواه’. فالقضية ليست محض قضية كتب تمنَع أو تُجاز، فالكثير من المعارك قد دارت، إعلامياً، حول كتب سقيمة لا قيمة لها مطلقاً، فكرياً أو فنياً، ولم تبرز إلا بسبب خرقها المجاني لاحد المحرمات. وحين تقحَم الحرية كمفهوم وغاية في سبيل الدفاع عما لا يسأل عن قيمته، فإنها تُبتَذَل وتُهان في صميمها وتصبح مستعبدة تماماً لعالم الاستهلاك. ما ينبغي الدفاع عنه حقاً، قبل التعبير الحر، هو حق الفكر الحر من أي مسلمات أو أيديولوجيا، فردياً ومؤسسياً. حق تخريج قارئ من المدارس والجامعات غير مستعبد لا للأيديولوجيا ولا لإغراء ما تكبِتُه تلك فيستغله السوق بأخبث الطرق. حق صناعة أحرار لديهم من المعرفة ما يكفي ليبحثوا في معنى الحرية ويناقشوا مفاهيمها بلا خوف من أن تخاف السلطة على نفسها فتُدفِعهم ثمن الفكرة غالياً. حق العلم بأن يتمأسس ويصبح هو، بدل الجهل، الثابت الراسخ السائد المقدس. ذاك حلم لا يحققه كتاب، بل يبدأ بعلمَنة التعليم، بالمعنى الفكري قبل السياسي، الذي فيه يقدم العقل على أي شيء آخر، وربما من هنا فقط تكون البداية نحو شيء من تغيير الحال بعيداً عن ارتجال أو استغلال أو ابتذال. والحق، وحده، من وراء القصد.

‘ كاتبة اردنية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عامر:

    فلقد تم تحويل المجتمعات العربية الى مجتمعات لا تملك شجاعة طرح الأسئلة ولا الخوض في الطرق المغلقة ولا حتى المتعرجة ، وبذلك فشلنا ( من دون ان نبدأ) في تأسيس ذاتنا ( ديكارت – كانط) وأخترنا الطريق الأسهل وهو آلتخندق خلف مفاهيم ومؤسسات تعيد قراءة ذاتنا بدلا منا من خلال قوالبها الضيقة التي تحكم تفكيرنا منبهة لنا دوما من خطورة تجاوز الخطوط الحمراء . فالحرية ليست خطابا بل ممارسة وتأسيسا قبل ذلك لذلك فقد اخترع كانط استخداما اخر للعقل ( غير المعرفة العلمية التجريبية والتي سيبقى المطلق دوما دونها ) ينكشف فيه المطلق وهي الأخلاق لكن الشرط الوحيد لاستعماله سيكون الحرية اي عندما يجعل الانسان من نفسه ذاتا ومشرعا. ومن دون ذلك ستبقى الحرية خطابا تستهلكه السلطة او اي مؤسسة اخرى. فإذا لم أكن حرا في تأسيس ” من أنا ” ما هي معتقداتي ، آرائي ، أفكاري ، ومن أكون
    وعلى موضعة نفسي – ذاتي في هذا العالم ، ستبقى الحرية خطابا وشعارا ليس اكثر.

  2. يقول طارق - الأردن:

    قد يُتّهمُ رأيي بــ ” الرجعية ” ، لكنني أقتبسُ من المقالِ هذا :

    ” بل قد يسأل عن إمكان كون معظم التصورات عنها محض اختراعات وأوهام، على طريقة نيتشه، بما في ذلك التصورات الواردة في الكتاب نفسه. ”

    أرى أنّه يجبُ ضمانُ حريةِ التفكير والتعبير ، فلا تكونُ قيودٌ ولا منعٌ من النشر . وأرى – في الوقتِ عينِه – أنّ قضايا المجتمعِ حساسةٌ جدّا ، وأنّه يجب التعاملُ معها بحذر ، فلا تُتركُ مسلّماتُه – وإنْ تكنْ خاطئةً في الظنّ – عُرضةً لتقلّباتِ أفكار المفكّرين ، من أقصى اليمنِ إلى أقصى الشّمال .
    الهدمُ وحدَه – فيما يمَسُّ المجتمعَ – لا يكفي ، بل ليسَ بدٌّ من البناء ، فلنْ تُتركَ أخلاقُ المجتمعِ ومعاييرُه – وإنْ كانت خاطئة – بلا ضابط . أقول : لا بدّ من تقديم بديلٍ متكامل – حتى لو كانَ خاطئا – في شتى نواحي المعارف والسلوكيات المجتمعية .
    ليسَ منطقيّا أن يعيش المجتمعُ حالةً انتقاليةً – بكلّ ما تتميّزُ به المراحل الانتقاليةُ من فوضى وعنفٍ – ، ينتقلُ فيها من ” أوهام ” قديمةٍ إلى ” أوهام ” جديدة .

    تحياتي .

إشترك في قائمتنا البريدية