مؤيد الراوي: الشاعر بوصفه رائيا ..

حجم الخط
0

شاعر يوقظ الذاكرة، يستعيد البوح، يستفز القراءة لكي تستعيد ركنا قصيا من الوقت، الوقت اللص، الوقت الخيول، والوقت الارانب كما يسميه اودن، اذ تبدو القصيدة وكأنها قصيدة للوقت، او قصيدة تدوّن سيرة اوقاته، سيرة هجراته الفادحة، سيرة الرؤيا المسكونة بهاجس المغامرة ووجع الالم ووحشة النفى، والمندفعة لكي تلاحق الوجود والكائن والمكان والتفاصيل اليومية..
الشاعر مؤيد الراوي يتشهى كتابة هذه القصيدة، لانه يستعيد معها الذاكرة والركن والتفاصيل، يتلصص من ثقب وقته النافر على هذه القصيدة، وهي تتعرى لتمارس معه طقس الغواية، غواية المريد، غواية الاباحي، غواية الجسد، غواية المعنى والمنفى، او ربما غواية الاستعادة، اذ تختلط فيها سيمياء الفكرة، بخيمياء الكلام، صورة المكان الطفلي مع راس البلاد الشائخ، فكرة القصيدة ذاتها، الماكثة منذ اربعين عاما، مع فكرة الصديق الذي تركه حارسا للمدينة، لكن المدينة تركته، ليظل عند عتباتها وذاكرتها – بلا مكوث- حارسا للهواء والكلام والساعات، فكرة المنفى القلق مع شفرة الذئب الذي يستعيده مع سركون بولص..
حين كتب الشاعر مؤيد الراوي كتابة الشعري الثاني (الممالك) ادرك ان هذه الكتابة تعني ان يحاول ان يمسك الوقت، ليتأمله، ليشاطره فكرة الغائب والحاضر، فكرة الوجود والمحو، مثلما تعني ان يكون الشاعر داخل حقل من المرايا، اذ تدون تلك الكتابة الجسد شيخوخته وفي تحولاته ويومياته، والمكان في انكساراته، مثلما تدوّن عري الشاعر قدّام الوقت، اذ لامرثاة للجسد المرآوي الاّ الكتابة، لانها شهادته، ولحظات تلصصه الشخصية، لحظات انغماره وتعاليه وسموه وانكساره. هذا الاحساس الغامر وجد في العنوان (الممالك) دلالة ضدية لسيمياء الفقدان، ونزوعا لاستملاك تعويضي للوقت، ولاعادة رؤية الجسد والكلام عبر ذلك الحقل من المرايا، فالجسد الشائخ يضج بوجوده الاستعادي عبر صباوة اللغة، وعبر حدسها وشهوتها وافراطها الاستعاري في ترميم فكرة الاستعادة..
في قصيدة (شخصان) تتحول الوظيفة الشعرية الى وظيفة رائية، اذ هي ترسم سينوغرافيا لمسرحة كائنه الشعري الذي يمنح اليومي توهجه، يستعيره لمسرحة رؤياه للعالم والوجود والحياة والموت، اذ يضع المرآة بوصفها اطارا توليديا، للاطلال على هذا العالم والتوغل فيه، استكناها، وكشفا، حيث تتشكل من خلاله الوحدات الصغيرة- النفسية، الصورية، الدرامية- لتجسد صورته الاستعادية، وصورة القرين/العجوز الذي يشبهه تماما ويشاطره فعل الاستعادة..
قصيدة مؤيد الراوي قصيدة رؤى، قصيدة كشوفات، اذ تتلبس البنية المشهدية للقصيدة هواجس الاستعادة، حيث مشهد المقهى الحميم، هو صورة مقابلة للمشهد الشخصي الذي يستعيده، والذي تتبدى فيه رؤيا الشاعر وهي تساكنه بمعنى الوجود الغائب، ليستعيد من خلالها المعنى الرمزي لرتابة وجوده اليومي، هذا المعنى الذي تتشكل له صورة اخرى في المرايا، فهو يتمرأى بصورة العجوز الذي يقرأ أحداث الامس، العجوز الذي يجالسه في الركن القصيّ، والذي يلتذ بحضوره كمرآته العكرة..
عن أحداثِ أمس
يقرأ العجوزُ في المقهى ـ
وأنا، الجالسُ في الركنِ القصيِّ، مرآتهُ العكرة،
أدخلُ دخانَ رأسهِ؛ كغيمةٍ
فوقَ أكواخ القريةِ، من نار الحطب.
لا أعنيهِ ولا تعنيهِ اليقظةُ في الظهيرة،
هذا التماهي هو جوهر نص الاستعادة، اذ يبدو الشاعر هو الرائي، والعجوز/القناع/القرين هو من يجسد جوهر الرؤيا. والاشتباك هنا بين الرائي والرؤيا يفضي الى سلسلة من الكشوفات والاستعادات، تلك التي تجرّ الزمن الى لحظة المقهى، والسنوات الى مكنسة الزمن، والقرية الى سماء مزدحمة بالصور..
الشاعر في هذه القصيدة الاستعادية يكتب نصا للتلمس، تلمس الحاضر بشهوة الغائب، نصا يساكنه عبر فيوض الرؤيا، وعبر ما تبيحه من كشوفات وتلذذات، تلك التي تتحول ما يشبه الشفرة الهيدغرية، حيث اللغة بيت الكائن، وحيث الرؤيا هي المجس الاستعادي..حتى تبدو القصيدة وكانها تمنح التذكر، نوعا من شهوة التملك التعويضي، تملك الوقت الواقف في المقهى وعند اخبار الامس.
في قصيدة (تماثل الصورة) يترسم الشاعر حركة الفعل الشعري من خلال حركة الصورة في المشهد/ السيناريو/ التمسرح، اذ يعمد الى تقطيعه ليجسد ما تراه عينه، بوصفها عين الكاميرا، العين الراصدة، الكاشفة، العين التعبيرية التي تلتقط صورة اخرى لقرين اخر، حيث القاتل الخبيء وهو يرصد الظلال المبهمة، التي هي ظلال الشاعر..القاتل الذي يتمثل كصديق قديم هو قناع للوقت، اذ لا يعبأ به، لانه رصيده، ولانه يحمل (وجه حمل، ومخلب صقر) مما يعني وضع هذه المحمولات بصفتها الدلالية، اي انها محمولات تعكس ازمة الشاعر الوجودية، محنته في المكان والوقت، محنته ازاء الموت والمنفى العميق.
وجه حملٍ مُهَدَد بسكين،
ومخلب صقرٍ مضموم.
قاتلٌ يتخفّى، ثمّ يتململُ داخلَ سياج الحديقة،
لا يعبأ بالوقتِ المؤجّلِ، لأنّ الوقتَ رصيدهُ.
يراقبُ الضحيَّةَ،
يداعبها بالتخفّي،
يناجيها،
ويُخوِّفها
في الغسق الذي تعكّرُ صفوهُ الطيور.
يجثو أحياناً كضبعٍ مجروحٍ، وفي مراتٍ يتحفَّز.
يعرفُ مَن يراقبهُ في الغرفةِ سيبللُ العَرَقُ خوفاً عانته.
يراهُ مِن خلف الستارةِ طيفاً حرجاً
فيستمرئ اللعبةَ ويقلّبُ الأهواءَ،
يستذكرُ التجاربَ فيها ويعرفُ خفايا التوجسْ .
وجههٌ مشبوهٌ كحضنِ شجرةٍ مقصوفةٍ..
دراما التخفي والمراقبة، تضخّم من صراع الشاعر ذاته مع الوقت والموت/القاتل، مثلما تقوم ايضا على وجود بنية مركبة داخلية، بنية صوتية، وبنية صورية يزاوج فيها الشاعر بين اصواته التي تعوي داخله، بما فيها صوت ذئب سركون بولص، مع لحظة وجوده المضطرب في المكان، بين رؤيته للفقد، وللتماهي مع استحضاره للعبة القاتل، اذ تجسد هذه الثنائيات الايهام النفسي للشاعر، ورعبه من الخارج، لذا هو يستعين بلعبة التماثل الصوري، تلك اللعبة الموحية بالتعويض، والمحشو بالايهام الاستعادي بوصفه ايهاما بالاعتراف، والسيطرة على فعل المراقبة.
هذه البنية المركبة للقصيدة القائمة على وجود مشهد وسينوغرافيا، وعلى حركة شخصيات خاضعة للرقابة، واخرى مسكونة بعصاب الضحية.. هذا التماثل بين القاتل والضحية، هو ذاته التماثل بين الشاعر والموت، كلاهما يمارسات الاخضاع والرقابة…
ويعمّق الشاعر وظيفة الرؤيا في قصيدة (جليل القيسي..حارس المدينة) اذ تقوم هذه الرؤيا على استعادة القرين/ الصديق القاص الراحل جليل القيسي، بوصفه يملك سر المدينة، سر رؤيتها، سر مواقيتها، وهذا الامتلاك هو صورة مضادة للموت، واستعادة له بوصفه الرائي الذي يملك عينين من عقيق..
يضعنا الشاعر في هذه القصيدة المقطعية، امام استهلال يتكرر عند عتبات كل مقاطع القصيدة، وكانه يوحي لنا بان القيسي الماكث والحارس هو الكلكامشي الوحيد الذي ادرك سر الرؤيا، عبر امتلاك المكان والوقت وظل مشدودا الى روح الحارس الاسطوري الذي يكتفي بحراسة ارانجا القديمة، ويملك حدوس الرائي وصانع الصلصال، والشاخص والمدون..
رَأيتَ،
ما لم نرَ:
(في مِحْجَريكَ عينان من عقيق)
أبصَرتنا، نَرحَلُ بريح خفيفةٍ تضربُ قلوعنا .
آملينَ الدَهْشةَ، نَحمِلُ جمرَ ما سيأتي،
وأنتَ بنَفْس الحريق الذي شَبَّ،
مَكَثْتَ
لِسَفينَة
تُبحِرُ
مِنَ
الماضي
تنتظرُ لها ماء الطوَفان .
شاخِصاً في الزمان، تُرَتّبُ تاريخهُ
تضعُ هذا الشخصَ هنا
وذاكَ الشخصَ هناك
لا لِمَوَدّةٍ، و إنّما الأرواحُ هكذا،
تَتَخاصَمُ
وتتصالحُ
بَعدَ كلّ غمْر، فتأتي السفينةُ جانحة
تبدأ برَتقِ قعرها
مثلما تُهَذّبُ بالكلماتِ طفلاً يتعلمُ الكلام،
ثمّ تنحَتُ من الصلصال سِفْراً
للبقاءِ، وسِفراً للرحيل
لأنّكَ
وَهّمتَ
وَ رأيتَ
ها نَحنُ هنا
أمامنا أقفاصٌ طافِحَة بالوَهمِ..
في هذه القصيدة يتجوهر النص الاستعادي بوصفه نصا اشباعيا، نصا لاستكناه محمولات الوجود، والسيرة، والمنفى، اذ تفضي رؤيا الشاعر للكشف عن اسفار الرحيل، اسفار المتاهة الباعثة على الوهم، وهم الكلام والمعنى، والوقت الذي عبره الشاعر دون ان يبصره، او دون ان يمسكه..
قصيدة (حارس المدينة) هي المضادة لرهاب الوقت الهروبي الذي يحاصره بالنفي العميق والشيخوخة، اذ يستعيده عبر رؤيا الحارس جليل القيسي بوصفه وقتا للماكث عند عتبة الرؤيا، او بوصفه للكائن الذي يهذب الكلمات وينحت سفر الصلصال، المضاد لسفر الرحيل والوقت…
هذه الاستعادة هي استعادة الشاعر لذاته القديمة، عبر صورة مادونه صاحب السفر القديم للحارس الذي تركه الجميع، لكنه ظل الارانجي الحالم والعالق بالمكان، والواقف عند سيرة الوقت الهارب، الوقت الذي يمسكه مؤيد الراوي او سركون بولص او صلاح فائق او يوسف سعيد او جان دمو او حتى فاضل العزاوي…
لغة الراوي الشفيفة، الرصينة، الخارجة من صنادق وعي مسكون بالدهشة دائما، تمنح القصيدة توهجا شعريا داخليا، توهج الصورة، والمشهد اليومي، والجملة الشعرية، حتى تبدو قصيدته الاقرب الى البنية السردية التي يتصاعد فيها فائض المعنى كما يسميه بول ريكور، اذ يتحول هذا الفائض الى التخيّل الشعري، بوصفه تخيلا استعاديا، تأويليا، عبر الاستعانة بكل استعارات الشعر ليسبغ على الجملة النثرية كثافة صورية، فيها اليومي والسحري والمجازي البسيط، ليجعلها قصيدة في المزاج، وقصيدة في الرؤيا، قصيدة تصطنع وجوها وتناميها وحتى طولها من خلال تحولها الى ان تكون قصيدة مرآة، قصيدة مكاشفة، تتلبس فيها القصيدة بنية الدراما، او بنية السيناريو، بنية التمسرح والسينوغرافيا، او حتى بنية الاعتراف العيادي، او ربما الاستفادة من ما ترصده عين الكامير، او عين التخيل السردي لاكساب القصيدة سحر ما يتساقط من النثر المتدفق الى كيس الشاعر المثقوب، لكنه الحالم باستعادة العالم والوجود والذات..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية