الحداثة وهاجس التّجذير

حجم الخط
0

اوشكت البيانات الشعرية في خمسينات القرن الماضي وستيناته ان تنافس في عددها البيانات العسكرية للحقبة الانقلابية، وحين نراجعها اليوم بعد عدة عقود يستوقفنا امران، اولهما ان عقد التجريب الذي بالغ في اعلان القطيعة مع الماضي كان بحاجة الى ان يسوغ رؤاه وما تصور ابرز رموزه انه اجتراح لآفاق كانت محرّمة.
وغالبا ما تقترن المانيفستوات او البيانات بتحولات شبه جذرية تضع الحداثوي مقابل الاتباعي وبالتالي ترتهن لثنائيات حاسمة لكن ما إن يهدأ التيار حتى يولد البعد الثالث او اللون الرمادي، بحيث لا تكون المعاصرة نقيضا لما يسمى الأصالة، ومن بالغوا في الانقطاع عن الماضي وتصوروا ان البدء من اول السطر ممكن انتهوا الى مصائر مثيرة، ومنهم للمثال بيريلوك معاصر ماياكوفسكي والناطق باسم المستقبلية التي كان رائدها مارنيتي الايطالي، فقد كان يضرب زملاءه من الشعراء على ظهورهم ويقول لهم تقيأوا بوشكين وكل الكلاسيكيين، لكنه انتهى الى تأليف كتب في فن الطبخ بعكس ماياكوفسكي الأقل تطرفا والذي اوغل في القصيدة حتى الموت.
وفي الستينات العربية ظهرت اصوات لا تختلف كثيرا عن بيريلوك، وتطرفت في التجريب حدّ الهلوسة والهذيان، لكنها سرعان ما انطفأت، وقد لا نتذكر منها اليوم سوى القليل الذي يرد في كتب النقد على سبيل التوثيق، فالانقطاع التام عن الماضي ليس ممكنا على الإطلاق، وما من نبت شيطاني في الثقافة، ما دام هناك موروث عابر للقرون لجماليات اللغة وتراكم الخبرات.
كان التجديد الذي يعي من يحاولونه انه صادم للذائقة والحساسية يحتاج الى بيانات تمهد له وتدافع عن ضرورته، لكن العقود الأخيرة خلت من مثل هذه البيانات الا نادرا وكأن التجريب استقر والثقافة استنقعت بحيث لم تعد تغامر شأن كل الأنشطة الذهنية الأخرى التي اصابها السبات.
* * * * * * * * *
الثالوث الرومانسي الانجليزي، كان مثالا مبكرا لاصدار البيانات، لوعي الشعراء شيلي وكيتس وكولردج بضرورة تمهيد الطريق لما يتصورون انه ينتمي الى حساسية مغايرة، وهذا ما فعله السورياليون ايضا، وما قاله اندريه بريتون في بيانه الشهير يوحي لقارئه بأن هناك قطيعة مع الأمس على وشك الانجاز، فالاسلاف اتخمهم الواقع حتى اصيبوا بعسر الهضم، لهذا آن بالنسبة اليه ولجيله أوان ما بعد الواقع او ما وراءه!
وهناك دوافع غالبا ما تكون غير معلنة لاصدار البيانات شبه الانقلابية في الأدب منها هاجس البحث عن شرعية، وتجلى ذلك عربيا في قصيدة النثر التي انهمك بعض منظّريها في البحث عن جذور لها في التراث العربي تماما كما انهمك السورياليون بالبحث عن جذور لهم عند الاغريق بحيث وجدوا في هيراقليطس مثلا احد الاسلاف، ولم يكن الالتفات لما كتبته سوزان برنار عن قصيدة النثر لدى بعض الشعراء او النقاد العرب الا استكمالا لاشباع هاجس البحث عن جذور او شرعية تاريخية. والمفارقة في البيانات الشعرية بالتحديد انها تبدأ من القواسم المشتركة بين عدد من الشعراء الذين سرعان ما يتفرقون ويجترح كل منهم طريقه واسلوبه بمعزل عن الاخرين، حدث هذا في مجلة شعر 69 العراقية وبعد ذلك في مجلة اسفار بحيث تلاشت بمرور الوقت القواسم المشتركة، ومن تبقى كان بقاؤه على قيد الشعر بفضل امكاناته وليس بفضل بيان مشترك.
وهناك تيارات تجريبية، رغم ما انطوت عليه من مفاهيم ورؤى انقلابية لم يشعر روادها بحاجة الى اي تسويغ، منها مثلا الرواية الجديدة او التي اطلق عليها سارتر اسم اللارواية، فلم يصدر ابرز رموزها وهو روب غرييه بيانا بل اكتفى بالقول ان الرواية الجديدة هي كما يكتبها ولا شيء آخر، وقد اتّضح بمرور الوقت ان الابداع الذي يبحث عن مظلة جماعية هو مجرد رد فعل والغلوّ في الحداثوية والتبشير بالقطيعة مع الموروث هو مجرد حماس يصل احيانا حد الأدلجة، فنحن الان لا نقرأ مارنيني او ماياكوفسكي باعتبارهما من المستقبلية، او بريتون باعتباره مجرد فرد في قطيع سوريالي، لأن ما تبقى من هؤلاء هو ما كان جديرا بالبقاء وبمعزل عن اية تسميات او أطر وما تبقى من برتولد بريخت ليس واقعيته او حتى بيانه حول الكاثارسيس المضاد في المسرح، بل اعماله ونصوصه التي لا تحتاج الى وساطة ايديولوجية كي تنتقل من جيل الى آخر، لأن واقعية هذا الشاعر ليست فوتوغرافية، وهي كما يسميها جارودي بلا ضفاف شأن واقعيات سان جون بيرس وأراغون وحتى بيكاسو وكافكا. وحين نقرأ قصيدة بيلارس لبريخت نجد فيها كل ما يمكن تصنيفه بالرمزي والسوريالي اضافة الى الواقعي، لأن فك الاشتباك في الابداع بين العناصر المكونة للنص غير متاح الا لمن يتعاملون مع النصوص كأنها جثث على موائد طلبة كليات الطب، واقرب مثال هو ما سمي النقد الاسطوري، والذي نسب الى ناقد لم تخطر بباله هذه التسمية وقال كل ما في الأمر انه كان يكتب عن قصائد لوليم بليك، وهي التي فرضت عليه منهجا بعينه، وهذا هو الفارق بين النقد البروكوستي الذي يلوي اعناق النصوص كي تلبي منهجه تماما كما كان بروكوست قاطع الطريق يفعل بضحاياه، فيبتر سيقانهم ان فاضت عن مساحة سريره ويمطها حتى التمزق اذا قصرت.
وبين النقد المغامر الذي يندرج في خانة الابداع الموازي والذي يصفه ستانلي هايمن بأنه الجسر بين النص والمتلقي.
* * * * * * *
كانت فضيلة الماغوط اضافة الى منجزه الشعري رفضه التشبث بمقدمات تسويغية يقول انه كان غريقا فأمسك بخشبة كي يطفو وينجو ويصل الى الشاطىء ولم يكن لديه من فائض الرفاهية ما يكفي لأن يسأل الخشبة عن نسبها في الغابة وعما اذا كانت من زيتونة او سروة او سنديانة، لكنها الأرجح كانت من الصّفصاف!

خيري منصور

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية