فيلم وثائقي لمخرجة فرنسية: من شتات أهل بابل إلى إجتماع أطفالها

حجم الخط
1

باريس ـ «القدس العربي» ـ من صادق ابوحامد: منذ أن بلبلت السماء ألسنة الناس وشتتت شملهم في برج بابل، كما تقول الأسطورة السومرية، تفرق الناس شعوباً ولغات، فتعددت أقدارهم، وراحوا يسعون في الأرض بحثاً عن الرزق وطيب العيش.
سعي مازالت تلح ضرورته بعد آلاف السنين، لتصبح الهجرة أحد المصائر الثابتة في يومنا هذا، ولتتضاعف أعداد المهاجرين في السنوات الأربعين الأخيرة فقط ثلاث مرات. بين صفحات سفر الهجرة هذا، ومن اسم الأسطورة القديمة، يستعير الفيلم الوثائقي «فناء بابل» La Cour de Babel اسم مغامرته، ليرصد لحظة اللقاء والتعارف بين أطفال من جنسيات ولغات مختلفة في المهجر الإجباري.
طوال سنة دراسية اختارت المخرجة الفرنسية جولي بيرتوسيلي Julie Bertuccelli أن تصوّر صفاً دراسياً يستقبل المهاجرين الجدد من الأطفال، ليكون مدخلهم إلى اللغة ومناهج التعليم الفرنسية. الصف الذي تعيش جدرانه الأربعة صدمة اللقاء الأول مع الآخر المهاجر، والآخر المضيف، وتحمل أيامه تلعثم الكلمات الأولى وتعثر أولى الخطوات.

من كل بستان حكاية

الأطفال القادمون على جناح الهجرة من أربع جهات الأرض، تحط بهم الرحال في هذا الصفّ المدرسي في باريس. أربع وعشرون جنسية تلتقي هنا من روسيا وبلاروسيا وصربيا ورومانيا والصين وتونس والسنغال وتشيلي وفنزويلا… تصب جداول طفولتهم بألوانها المختلفة، ونكهاتها الخاصة، في كأس المهجر، فتصنع مزيجاً يبدو متنافراً في البداية قبل أن تحوله أيام وتجارب الصف إلى ماء زلال.
يُدخلنا فيلم «فناء بابل» إلى عالم هؤلاء الأطفال بمفارقات يتناوب فيها الفرح والحزن. مفارقات تفرضها كبوات اندماج الأطفال مع بعضهم البعض، ومع المدرّسة بريجيت سيرفوني Brigitte Cervoni التي توزّع مهاراتها التعليمية على أطباق من الحنان والاستيعاب والمسؤولية، لتعيد لهم شهية التعارف والتعلم. تسألهم وتحاورهم ثم تترك للسانهم المتردد والخجول أن يكسر رهبة اللغة، أن يطلق الأسئلة الكثيرة التي تدور في مخيلاتهم، حول فرنسا وبلادهم الأصلية، والعالم والوجود والدين: «لماذا توجد أديان كثيرة؟»، «لماذا لا يعطي الأغنياء النقود للفقراء؟» «هل جهنم موجودة؟»، «لماذا لا يتحدث جميع البشر لغة واحدة؟»…
تقترب الكاميرا من تفاصيل الوجوه الحائرة ما بين الطفولة والمراهقة. وجوه تنطلق ضحكاتها، كما دموعها، سهلة وبلا مقدمات. المشاعر وتعابير الوجه وحركات الجسد تمثل لغة قائمة بذاتها بين أطفال لا تجمعهم لغة اللسان، ويسكنون اللغة الغريبة. لكنها لغة ناقصة لا تكفي لقول كل ما لديهم، بينما لا يسعفهم التعبير باللغة الجديدة في وصف حياتهم التي عاشوها قبل الهجرة، وتلك التي يعيشونها في معركة التأقلم مع الآخر. تخذلهم اللغة في شرح تبدلات أحاسيسهم، وتعقيدات وجودهم الطارئ، فيعيشون الاختناق مضاعفاً.
كثيرة هي الأشياء التي تفرق بين هؤلاء التلاميذ، اللغة والثقافة والجغرافيا والظروف التي قادت إلى الهجرة، لكنهم سرعان ما تآلفوا حول همومهم، حول رجفة الطفولة المكسورة، والانتقال المجنون بين ضفتين، والتحديات المشتركة لامتلاك اللغة الفرنسية، والاندماج في المجتمع. وكأن اختلافهم ذاته كان عامل تقاربهم. جمعٌ من الغرباء يشد إحساس الغربة بينهم، والمحنة المشتركة. فرغم صغر سن أهل بابل الجديدة، إلا أن حكاياتهم كبيرة وشائكة. حكايات الكبار الذين تعثرت بهم تصاريف الحياة، فسقطوا في هجرة عاجلة. همومهم الكبيرة لا تقتصر على مشاكلهم الخاصة، بل تتعداها إلى مشاكل أهاليهم. يوظفون كل كلمة جديدة يتعلمونها، وتعبير جديد يتقنونه، لمساعدة أهلهم في تدبير شؤون الحياة. ذلك أن الأهل الغرباء بدورهم عن اللغة، يدخلون في طفولة متأخرة، طفولة تحتاج من يعبر عنها، ويساعدها، فتوضع مهمة ترجمة لغة الآباء، وتسهيل دخولهم إلى المجتمع المختلف، على عاتق الأبناء، لتصبح المعاملات الإدارية والوثائق واللقاءات الرسمية مسؤولية ثابتة لأطفال الهجرة.

قلوب هائمة بين الوداع واللقاء

يُحسن الفيلم صنعاً بأن يخفي تفاصيل الحياة السابقة للأطفال في بداياته، ليتركنا نتعرف عليهم عبر اللقاءات الخاصة بين المدرّسة والطفل وولي(ة) أمره، ثم لنعرف عنهم أكثر فأكثر مع بوح الأطفال أمام كاميرا تحضيراً لفيلم وثائقي سيكون له أن يفوز في مسابقة وطنية. تتعدد الحكايات وتتعدد المآسي المتوارية خلف الوجوه الطفولية: طفلة حرمتها عائلة أبيها في السنغال من الدراسة، قبل أن تتمكن والدتها من إحضارها إلى فرنسا. وطفل مراهق صربي تهرب عائلته من صربيا للتمييز الذي تعانيه كونها يهودية، وطفل لم يتح له وداع حتى أعز أصدقائه لأن السفر كان عاجلاً وسرياً، وطفلة صينية حرمت من أمها لأكثر من عشر سنوات، بقيت خلالها في رعاية جدتها، إلى أن كان لها الالتحاق بأمها في فرنسا، ليكون الثمن حرمانها من جدتها…
لحظات اللقاء والفراق تبدو عنواناً جامعاً لقصص المهاجرين الصغار، وللفيلم نفسه. فراقهم لأرضهم الأم، لعائلاتهم، وأصدقائهم، ومجتمعاتهم، الذي مثّل لهم فطاماً صعباً لن يتعالجوا من آثاره بسهولة، ثم لقاؤهم ببقية عائلاتهم المهاجرة، وبأصدقاء جدد، وبمدرسة جديدة، ثم يعود الفراق من جديد نهاية السنة الدراسية في مشهد وداع يتشارك الجميع في بكائه بمن فيهم المدرّسة، فكلّ سيمضي في اتجاه، وظروف حياتهم وإقاماتهم الهشة تفرض على كل عائلة أن تبدّل سكنها حسب ما تتيحه الظروف ومؤسسات الدعم الاجتماعي.
حوار ثقافات على إيقاع الطفولة
لا تحتاج سجية الطفولة للكثير كي تسرق عين ومشاعر المشاهد، فكيف إذا كانت طفولة مشحونة بالتحدي والهموم. عبر مواقف شيقة وعفوية يقدم فيلم «فناء بابل» مغامرة الطفولة المراهقة في دخول ثقافة جديدة. مغامرة المهاجر الصغير في استيعاب هجرة لم يخترها، هارباً من صعوبات لم يدركها، ومستقراً في بلاد لا يعرف عنها شيئاً. اختيار الفيلم الذكي للموضوع بزمانه ومكانه، وفّر له طاقة تأثير هائلة. لكن فكرة مشحونة كهذه لم يكن لها أن تمر بسلاسة لولا الابتعاد عن التنظير الأكاديمي، والمقولات السياسية، والخضوع لإرادة خارجية قد يفرضها السيناريو أو الإخراج.
متحررة من المسارات الجاهزة، وملتزمة بالمشهد المدرسي طوال الفيلم، استطاعت المخرجة أن تنتصر لإرادة هؤلاء الأطفال بأن يكونوا أنفسهم، تاركة لوجوههم المتسائلة أن تملأ الشاشة لتحكي بإيماءاتها أكثر مما يمكن للسان العاجز أن يقوله.
التجربة المميزة التي يقدمها الفيلم لصف استقبال الأطفال المهاجرين، يعود نجاحها أساساً إلى نظام تعليمي علماني متوازن، وإلى شخصية المدرّسة المربية التي تمارس عملها بالتزام أخلاقي وثقافي بل وعاطفي يجعلها تتعامل بصبر استثنائي مع تقلبات مزاج الأطفال وتأرجح مشاعرهم ما بين القلق والتردد والحماس. ولعل ما يميز التجربة، ويضمن لها نتائج مشجعة، هو تخففها من جميع المقولات المريضة لليمين المتطرف، وللكثير من شخصيات اليمين الفرنسي، التي لم تستطع حتى الآن التخلص من فكرة ضرورة جعل الآخر مطابقاً للأنا، وجعل الاندماج في المجتمع الفرنسي ناقصاً إذا لم يتضمن قتل الاختلاف في سبيل النموذج الواحد. نموذج يبدو أشبه بالشخصيات الخيالية، فالجميع يعرفه ويتحدث عنه، بينما لا يتفق اثنان على رسمه وتحديد مواصفاته! لا مكان لهذه الترهات في صفّ بابل، فجميع الأطفال يقبلون على اللغة الفرنسية، وعلى الدخول في المجتمع الفرنسي، دون أن ينتقص ذلك من تعلقهم وحبهم للغة والمجتمع الأصليين.
«فناء بابل» لا يجعل بحث أسباب الهجرة ومآلاتها قضيته، لكن كل مهاجر، صغيراً كان أم كبيراً، يحمل في حكايته الشخصية صورة معبرة عن مصاعب المهاجرين، وعما آلت إليه الظروف في بلدانهم من تفاقم في الفقر والبطالة والفساد، وتزايد في الضغط السياسي والاجتماعي، وانفراط للدولة المؤسسة لصالح الدولة الشركة العائلية، إن لم تكن الدولة العصابة! ظروف تضيق خيارات الناس معها، فتعود المجتمعات إلى حضن روابطها البدائية، ويبحث المحرومون من الحرية والكرامة والعدالة عن ضفة في مرابع الشمال، بعيداً عن البلاد التي تخنق الشعارات فيها أبسط القوانين، ليبدأ صراع جديد هناك عنوانه الاختلاف اللغوي والثقافي، ولتظهر حدود أخرى، وضرورة هجرات أخرى بين الأنا والآخر! في سياق هذه الدوامة البشرية يبدو فيلم «فناء بابل» أشبه بصرخة تحدّ، أو بوثيقة لنموذج اجتماع ممكن وحقيقي بين الثقافات، ليس تحدياً للسماء هذه المرة، وإنما للأفكار المسبقة، والظروف القاهرة، وللحدود المرسومة دائماً على مقاس مصالح المتنفذين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول زيد جميل - المانيا:

    ظهرت الحضارة السومرية قبل الحضارة البابلية و لذلك فلا توجد اسطورة سومرية عن برج بابل، بل ان الأسطورة المذكورة في المقال كانت قد اتت من مصادر غير عراقية و سومر و بابل كانا في العراق.

إشترك في قائمتنا البريدية