مهند يعقوب: التجديد سمة رئيسة للحياة العراقية تنعكس على أنماط التعبير

حجم الخط
0

بغداد ـ «القدس العربي»- من صفاء ذياب: يقدم الشاعر العراقي مهند يعقوب تجربة متفردة في مجموعته الشعرية «سائل أزرق في محارة»، فقدم نصوصاً مختلفة بناءً ولغة، لكنه مع هذا لم يقدّم مشروعه الشعري في كتاب إلا قبل أيام بعد أن أصدر مجموعته الأولى (سائل أزرق في محارة)، التي جمع فيها تجاربه الأخيرة، لكنها قدمته كشاعر جاد له أدواته وأساليبه المختلفة عن مجايليه.
فضلاً عن ذلك يكتب يعقوب القصة القصيرة والنقد، لكنه يصرُّ على كونه شاعرا أولاً، في حين تبقى الأجناس الأدبية الأخرى هامشية في مشروعه الإبداعي.
يعقوب، الذي يعيش في بلجيكا من أكثر من ثماني سنوات، جعل من اللغة وتشكيلها عالمه الأثير، فأنجز أكثر من كتاب خلال السنوات السابقة لسفره من بغداد، لكنها ضاعت في زحمة المطارات والأماكن التي تنقل منها وإليها، فخسر نتاجاً أخذ منه أكثر من عقد، إلا أنه يحاول من جديد أن يلملم نفسه، ويعيد كتابة ما ضاع وما مُزِّق، ليخرج بتجربة أكثر نضجاً وإتقاناً.
عن الشعر وقصيدة النثر وتحولات الفكر العربي والعراقي مع النص الجديد، كان لنا معه هذا الحوار:
* على الرغم من اشتغالك الشعري منذ سنوات طويلة، إلا أنك لم تصدر كتاباً شعرياً سابقاً، لماذا هذا التأخر في الإصدار؟ وما الذي جعلك تقرر أن تجمع نصوصك الأخيرة؟

* كانت هناك تجربة سابقة على هذه المجموعة، بداياتها عام 1997، لكني فقدت هذه المجموعة كاملة بين الحدود العراقية التركية في أثناء عبوري إلى أوروبا، ولم أتمكن من استعادتها أو حفظ أي شيء منها إلى الآن. أما عن «سائل أزرق في محارة» فنستطيع وسم تلك المجموعة بالمتأخرة، وهي فعلاً كذلك. لكن سبب ذلك التأخير يعود إلى المناسبة التي من أجلها نكتب الشعر، وأعني بالمناسبة طاقة الكتابة نفسها، وهي طاقة غير متوفرة على الدوام، إذ لا يمكنني أن أكون شاعراً باستمرار، بل ما تفرضه علي لحظة الكتابة نفسها كلحظة «إبلاغية» كما يعبر سمير أبو حمدون. وهو شعور إنساني بسيط لا يمكنني أن أتجاوزه أو أستدعيه متى ما أشاء. وعلى العموم فإن كثرة المطبوعات الشعرية حتى لدى شعراء مهمين غالباً ما تكون أشبه بالتمرين أو البروفا لقول كتاب شعري واحد بحق، أو قصيدة جيدة واحدة. وليست كل المطبوعات يمكن اشتمالها على صفة النادر الشعري والمتصاعد. أما حول قرار إصدار المجموعة فالفكرة جاءت كشعور مني بالمسؤولية تجاه ما أكتب، طالما الأمر أخذ طابعه الرسمي كنشر في الصحف والمواقع والدوريات.

* ما الذي تريد قوله من خلال عنوان الكتاب، ولماذا أخذت جملة من قصيدة لتكون عنواناً، بدل أن يكون هناك عنوان شامل للنصوص؟

* مفارقة العنوان للنصوص أو مطابقته مع بعضها كتضمين لا يُعدُّ مؤشراً على شعرية الكتاب من عدمه، بالقدر الذي يكون ذلك العنوان مشتملاً على روح وطريقة كتابة النصوص نفسها كقصائد نثر، يفترض أن تبتعد قدر الإمكان من العنونة ذات الإيقاع المباشر كالمضاف والمضاف إليه مثلاً. والعنوان إجمالاً جاء بعد محاولات شاقة كثيرة لم أستطع خلالها إيجاد ما هو شامل ومناسب يغطي فضاء المجموعة ككل. ربما يعود السبب للتنوع الذي جاءت عليه النصوص، رغم وجود ثيمات وموضوعات مشتركة داخل الكتاب، لكن يمكن عدَّه رغبة لتأكيد فكرة الإضافة والولادة من خلال سياق النص المتضمن لعنصري البنت والأب، وهي رغبة منسجة مع فكرة ولادة الكتاب نفسه بعد تأخر طويل.

* اشتغلت على اليومي في معظم نصوص الكتاب، ومن ثم الحب والموت وغيرها من الثيمات. ما الثيمات الرئيسة التي كانت موضوعاً للنصوص؟

* إلى جانب ما أشار اليه السؤال من موضوعات كالحب والموت، جاءت ثيمة الفقد كموضوع رئيس أيضاً في الكتاب وكذلك الشك، وهي ثيمة تعني التراجع عن القيم الذهنية والمجردة لموضوع كالحب على سبيل المثال، والارتداد فيه من فضاء الوجد كمفهوم باطني وصوفي عميق إلى ممارسة واقعية يومية تشوبها الكثير من الصفات الإنسانية المرتبكة كعدم الانسجام والتوتر. وما يميز هذه الموضوعات هو طريقة القول فيها، وهي عموماً موضوعات عفوية غير مفكر فيها مسبقاً، وإنما انعكاس لسيرة إنسانية حاولت الانتقال بها من فضاء شخصي إلى جو إنساني عام.

* 30 نصاً من قصيدة النثر ضمها غلافا الكتاب، كيف نفهم البنى الأسلوبية الخاصة بالمجموعة، وخصوصية كل نص فيها؟

* لما جاءت النصوص بفترات زمنية متفاوتة كان لذلك أثره في الطريقة التي نقول فيها النص. إذ اختلفت إلى حد ما أساليب وبناء النصوص بين فترة وأخرى تبعا للمرحلة التي تتصاعد فيها تلك النصوص لأن تكون شعراً، وتبعاً للظروف النفسية والغريزية التي نقول فيها. والشعر كما يعرف أغلب المهتمين، هو أن تحرر غريزتك الشعرية المدربة فحسب، دون الانتباه لما يصطلح عليه بالقواعد والخصوصيات في أثناء الكتابة. فتجد؛ مثلاً، هناك نصوص هي أقرب إلى السرد من قصيدة النثر، بل جاءت على شكل كوابيس حقيقية، كالنص المهدى إلى القاص العراقي حسن بلاسم، وكذلك نص «الساقية» فهذه النصوص جاءت محملة بأسلوبها المباشر والفانتازي، ولم أستطع إلحاقها بالأسلوب المماثل لمعظم النصوص المتبقية التي يغلب عليه طابع الرمز، والتوهج، والاقتصاد، والسخرية. وكذلك النصوص التي تحتوي على الجانب الرؤيوي التي حاولت الاعتماد فيها على تقنية الترابط ومؤدى النص المكتمل، كما لو كان جملة أو كلمة. وهو ما عليه أغلب نصوص المجموعة تقريباً، إذ يصبح التركيز على النص كمعنى وتركيب وعمق أكثر من الشكل.

* منذ أكثر من ثماني سنوات وأنت تعيش في بلجيكا، ما أضافته لك هذه السنوات؟ وكيف يمكن تلمُّس ذلك في نصك الشعري؟

* هناك مجموعات نوعية عراقية وعربية أقامت خارج محيطها الأم وتمكَّنت من الاستفادة من الفضاء الجديد وتطوير اشتغالاتها وأدواتها الفنية الجمالية، للحد الذي نتابعه ونهتم له بين الفنانين والشعراء والروائيين والمثقفين عموماً. ويعود ذلك كحد بسيط إلى سقف الحريات والتنوع والغنى الإجتماعي والثقافي والانعزال كذلك، مما يمنح فرصة للتفكير على نحو مجرد وشامل، وهو ما أستطيع أن أقول إنه جاء منسجماً مع البدايات كقراءة وتجريب بالنسبة لي، ولم تكن هناك إضافات جوهرية يمكن عدّها كمؤثرات مباشرة تنعكس على الطريقة التي نكتب فيها النصوص. وكذلك الحال بالنسبة لتلك المجموعات النوعية، فهي ابتداءً كانت حاضرة في فضائها المحلي، ثم استكملت مشوارها كما تقتضيه الظروف الجديدة؛ ومن ثمَّ، فإن أي مناخ إنساني وثقافي مهما كان مختلفاً، يحمل مناسباته الكافيه للتجريب إلى جانبه أو ضده بالكتابة، خاصة عندما يكون ذلك المكان مستكملاً لكل شروط فشله السياسية والإجتماعية والثقافية، كما هو الحال في بلداننا هناك.

* انقسم الكتاب العراقيون الذين عاشوا في الغرب بين فئتين، إما كانت الغربة لهم دافعاً للتفرغ للكتابة والإتيان بجديد، بسبب الاختلاط بشعوب أخرى ودخولهم عالم لغة جديدة. وفئة أخرى كانت العزلة سبباً في عزلتهم النفسية أيضاً، ما تسبب بالتوقف عن الكتابة والابتعاد عن العالم.. كيف نفهم هذه الطبيعة وسبب التحولات في شخصية الكاتب بعد تغير المكان والمكين؟
* لا شك أن للمكان تأثيراته المتباينة بما يحمل من اتصالات وانفصالات للمكونات المرتبطة به وأبرزها الانسان. لكن تبقى طاقة الاستمرار أمر تحدده طبيعة الشخصية الفاعلة والمنتجة للابداع والكتابة ذاتها. فعندما نجد مجموعة من الأسماء العراقية البارزة في الخارج ككتاب ومبدعين وهم ما زالوا على ذات الطاقة في التجريب والإنتاج، فذلك لأنهم استطاعوا أن يتغلبوا على مبدأ سايكولوجي جوهري يتعرض له أي مغترب، ألا وهو الفتور وفقدان الصلات مع النفس، وعدم الفاعلية. والكتابة عموماً قائمة على هذا المبدأ، أي مبدأ الجدية والحضور الذي يتحق وفق تلك الصلات.
واذا أردنا أن ننظر للكتابة كاعتراف ولحظة جادة، فهي تحتاج إلى هذه الصلات العميقة والخاصة. تحتاج إلى العفوية التي تجعل الذات المبدعة ظاهرة وغير مخفية في فعل الكتابة، واشتمالها على خصائصها العالية. من هنا، فإن للمكان ذلك التأثير العميق على عمل المبدع سلباً أو إيجاباً، وبالقدر الذي يعي فيه الكاتب ذاته ودوره ودرجة السماح لنفسه بالانفتاح أو الانغلاق، ودرجة تغلبه على الصعوبات التي تفرضها الظروف الجديدة وخاصة اللغة. فهي تعني طريقة تفكيرك وبطانتك النفسية، وما أن ينفقد هذا العنصر أو يتأخر حتى تبدأ مشاكل القطيعة مع النفس والمحيط بالظهور، على نحو تتوقف معه النشاطات الحياتية الرتيبة، فضلاً عن الكتابة وجلب أسباب النجاح والاستمرار.
* منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى الآن يكرر الشعراء أن قصيدة النثر العراقية مختلفة عن الأوروبية والعربية، كيف تقرأ هذه القصيدة؟ وإلى أي مدى تمكن العراقيون من الخروج بنص مغاير؟

* بعض الدراسات النقدية؛ نظرياً، استطاعت أن تضع حدوداً وخصائص لقصيدة النثر العراقية لتمييزها عن النسخة العربية والعالمية بشكل عام. لكن هذه الدراسات لم تخرج من إطارها النظري، وبقيت تطبيقاتها يشوبها التشويش والتداخل لصعوبة الفصل والتمييز تبعاً لطبيعة الأدب الذي هو علم غير دقيق من الأساس. لذا فإن الحديث عن الشعر في الإطار العام، هو مدخل لفهم بعض تلك الخصائص والموضوعات لقصيدة النثر العراقية، واختلافها من منطقة إلى أخرى. واذا أردنا أن نختار «سوزان بيرنار» لتكون معياراً للاقتراب أو الابتعاد من «قصيدة النثر» العالمية لدى العراقيين، فإننا سنعثر على نفس تلك الخصائص المجملة «بالايجاز، والتكثيف، والتوهج، والمجانية» والخلو من الوزن والقافية عند الكل.
إن ما طرأ على الكتابة الشعرية من تحولات وتغير شبه جذري متمثلاً بقصيدة النثر، يستتبع معنى الشعر ومقاصده ومستويات تطوره بالمعنى العام للشعر. وليس إلى خصائص بذاتها تتعلق بقصيدة النثر دون غيرها كجنس أدبي مستقل كما يشاع، بل بما هي حلقة ولون شعري اكتسب ملامحه وعناصره الجديدة من تطور وتعريف الشعر نفسه. إن خصائص قصيدة النثر العراقية تبعا للتحقيب الجيلي- وهو توصيف أتحفظ عليه كونه اعتباطياً أكثر منه إبداعياً- هي خصائص تتعلق بأسئلة الشعر الجوهرية وأبرزها «كيف تقول» وما هي المرجعيات المعرفية والفلسفية والحياتية لهذا القول؟
عندما يتم اعطاء ملامح للتجربة التسعينية العراقية على سبيل المثال، كممثل بارز لقصيدة النثر العراقية وناضج، فإن جملة الخصائص المتمثلة، بقصر الجملة الشعرية، وتكثيفها، وكذلك الإدهاش، والمفارقة، والسخرية، والمرئي، أو تبعاً «للنظام السطري» أو» الفقري» أو «المركّب» كما يذهب الى ذلك الدكتور سرور عبد الرحمن فإن ذلك لا يعدو إلا تمريناً يعكس السؤال أعلاه «كيف تقول» ضمن قالب معين لقول الشعر، الذي هو قصيدة النثر. وأيضاً يعكس الطريقة المفكر فيها داخل تلك القصيدة كموضوعات، من قبيل الحب، والموت والحرب، واليومي، وهو ما يميز الاشتغال العراقي داخل ذلك اللون الشعري عن سواه من التجارب المماثلة بالتسمية والتجريب، نظراً للارتباك الذي يعيشه هذا البلد على مدى عقود طويلة على المستوى السياسي، والإجتماعي، والثقافي، وما مر به من محن وحروب. وهو ما اصطبغت به مجمل تلك التجارب الشعرية العراقية، على أنها تجارب ذات طابع مغاير تبعاً لطريقة القول وفنيات الاشتغال داخل موضوع مثل الحصار الاقتصادي على سبيل المثال في تسعينيات القرن الماضي. والحروب التي مر بها، حتى أن التصنيف النقدي لم يغادر الى الان التجارب التي وقعت في تلك الفترة وأكسبها ملامح وخصائص، تبعا لتلك المتغيرات والظروف الحادة.

* يرى البعض أن قصيدة النثر هي كتابة تنخرط في انفتاح أساسي على أجناس الكتابة، لكن كيف نفهم الوعي المعرفي في تشكُّل هذه القصيدة؟ وكيف نقرأ «ثقافياً» الأرضية التي أدت إلى تمسك الشعراء بها؟

* لا يمكن تصور نشوء حركة فكرية أو تيار فلسفي أو مذهب أدبي، من دون أن تكون هناك قواعد فنية وفلسفية مرتبطة بها. وهو ما يفسر الأصل النقدي والفلسفي لقصيدة النثر، خاصة عندما نعي أن الفاصل ما بين تلك القصيدة كشكل- لم يعد جديداً على الأقل من الناحية الزمنية- وبين ما سبقه من تجريب وألوان شعرية. هو فاصل بين الغنائية والتفكير، أو بين تبعية الأدب للتاريخ أم للفلسفة، أو للاثنين معاً، لكن برؤية مختلفة. ونقصد بالرؤية المختلفة الابتعاد بقصيدة النثر من أن تكون شاهداً على الواقع والحوادث على النحو الذي عليه التاريخ من مباشرة وتصور مجرد لتلك الوقائع والحوادث.
إن قصيدة النثر ليست رؤية للاشياء كآلة راصدة للواقع بشكل حرفي غير قابل للزحزحة، إنما هي رؤيا تحتمل التأويل والانفتاح على كل ما هو خلف صورة الواقع. وهي بهذا المعنى تقترب من معنى «الإشراق» كمفهوم صوفي وباطني، وهذه المنطقة هي أقرب إلى الفلسفة منها إلى التاريخ. والأدب الجديد عموماً وما بعده يملك من المقومات الفنية والنقدية لأن يحرك بعضه البعض، ويؤثر كذلك ليس فقط في نفسه فحسب، كأجناس وألوان، بل يتعدى إلى العلوم الطبيعية والرياضية كتفاعل وتحقيق معرفة كافية بتلك الحقول مما ينتج وعياً مضافاً وثقافة عامة مغايرة أطلق عليها الإنسانيون الجدد بـ»الثقافة الثالثة».
لقد ساهم الأدباء والنقاد عالمياً في تأصيل هذه النظرة الجديدة كارتباط بالحياة من خلال الأدب عموماً، وقصيدة النثرعلى نحو خاص، ولا يمكن التراجع عن تلك المكتسبات لصالح رؤية تقليدية في الكتابة والتجريب، انطلاقاً من ظروف سياسية واجتماعية ودينية معينة.
هناك متراكم نقدي وتجريب ومقولات على مدى عقود زمنية طويلة مساوية لوعي منتجيها، تتعلق بالتأصيل لهذا النموذج الشعري ضمن بيئة ثقافية عامة. وما حصل في ستينيات القرن الماضي في العراق؛ على سبيل المثال، يعكس بوضوح سعي ممثلي تلك التجربة الحقيقيين، لخلق بيئة ثقافية وأدبية ونقدية مختلفة، عمّا كان سائداً ويدعم تطلعات البيئة الثقافية الركيكة، والنظام السياسي الراعي لها آنذاك، والذي هو نظام شمولي قائم على أساس مبدأ الجماعة والغوغاء الجماعي ثقافياً واجتماعياً ودينياً. بينما الرؤية الثقافية والأدبية الجديدة وقتها كانت تدفع باتجاه الفردانية، والتأكيد على الإنسان وحريته بعيداً عن أغراض النموذج الشعري التقليدي، المتمثلة بالحماسة والرثاء والهجاء، وغيرها من الأغراض الشعرية التي هي انعكاس لبيئة متراجعة على مستويات كثيرة.

* يشير بعض النقاد إلى أن شاعر قصيدة النثر ليس دجالاً، إنما هو مؤسس معرفة شعرية جديدة لم تؤسس من قبل، لنتحدث عن هذا الوعي عراقياً، وهل، فعلاً، كان الشعراء العراقيون على وعي تام بهذا التحول بين الأجناس، أم أن التقليد كان السيد دائماً؟

* هنا قد تبدو الفكرة مجردة من أهميتها كما يعكسها السؤال. وإذا افترضنا أننا أمام حماسة شكلية ومغامرة غير مسبوقة القواعد محلياً، فلا يلغي تميز التجربة وحضورها في واقع كان يخلو منها تماماً، إلا في حدود تراثية مطمورة. ويطال هذا التوصيف كذلك نصوص التجربة العالمية، فيما لو أخذناها كتجارب فردية بعيداً عن مناخها الأم. انطلاقاً من فكرة أن كل شيء قائم على كل شيء آخر مع إضافة، ولا توجد ابتكارات من العدم.
يبقى الوعي في نقل هذه التجارب، ربما يطاله التشويش من ناحية المطابقة بين الأثر الإبداعي والقواعد النقدية والفلسفية له كتنظير، كما حصل لدينا عربياً وعراقياً، إذ ظلت «قصيدة التفعيلة» المتمثلة بالرواد لزمن طويل، وربما حتى كتابة هذه السطور تتداخل مع النموذج الذي يطلق عليه «الشعر الحر» حتى نبَّه الستينيون لهذا الخلل في التعريف وعدم المطابقة للخصائص والاشتراطات بين النموذجين.
وخلال نفس الفترة حصلت كذلك حماسة أفرزت الكثير من النماذج المتداخلة نقدياً للتسميات التي ظهرت لاحقاً والمتمثلة بقصيدة النثر مع «النص المفتوح» أو «السرد الشعري»، فهناك من يرى، ولوقت متأخر، أن نموذج قصيدة النثر وفق «النظام السطري» الذي يملأ حدود الصفحة، هو الشكل الحقيقي الذي ظهرت عليه قصيدة النثر، متمثلة بقصائد بودلير، ولوتريامون كقواعد فنية. في حين أن الوعي النقدي الذي جاء لاحقاً أفرز أنماطاً متعددة لقصيدة النثر وأنظمة وأشكالاً أكثر وأبعد من «النظام السطري» كما ذكرناه سابقاً. وهذه إضافات جوهرية تعد خصائص مهمة للتجربة الشعرية العراقية، حتى وإن كان هذا الوعي التفاعلي جاء نتيجة قراءات متنوعة بحكم إجادة اللغات الأجنبية لبعض الأدباء، أو من خلال الترجمة. وهي إضافات لاحقة عن النسخة الأصلية لخصائص قصيدة النثر، التي ظهرت في أوروبا بعد سوزان بيرنار. وبالتالي، فإن جميع مراحل تطور الألوان الشعرية لدينا في العراق هي نتاج جهد واعٍ، لما أنتج على مستوى النقد والنصوص. وإذا كانت هناك حماسة في هذه التجارب ومفارقة عن الأصول كبدايات، فهي أيضاً حماسة تم السعي لمعالجتها في إطار العقل العراقي النقدي والأدبي أو العربي فيما بعد.

* هل ترى أن البحث عن التجديد وتغيير معالم الكتابة من الممكن أن ينتج نصاً مغايراً في ظل عدم تطور المجتمع ولا البيئات الثقافية المنتجة فيه؟

* التجديد سمة رئيسة في الحياة وأنماط التعبير عنها، ولن يتوقف عند زمن أو مرحلة سياسية واجتماعية وثقافية ما، بل هو همٌّ وانشغال فردي في الغالب، والتاريخ العراقي بكل مراحله السياسية والاجتماعية والثقافية الرسمية، كان بالضد من ذلك التجديد، وبالدرجة التي يتقاطع فيها مع الآيديولوجيا الحاكمة، وعدم الانصياع لها. مع ذلك استطاع أن يحقق نجاحات كثيرة ومواكبة لما يصنع ويستهلك في العالم كخطاب أدبي ونقدي وفني عام، والتجربة العراقية الخمسينية وما تلتها شواهد على صناعة تجارب أدبية وفنية متنوعة ومتجددة، رغم فقدانها لعنصر التفاعل الاجتماعي وإهمال المؤسسات التي يفترض أن تكون راعية لها.
إن الكتابة عموماً هي تجريب بالضد من النقص والاختلال، وهي ممارسة لكشف العيوب سواء كانت عالمية شاملة، كما في اختلال صلات الإنسان بالحياة حسب كامو في «صخرة سيزيف» أو محلية كنظم اجتماعية وسياسية ودينية ومناخ ثقافي. كلها بالنهاية تقود إلى التجريب ضدها بالكتابة أو تدفع بذلك الاتجاه.
لكن من جانب آخر فالكتابة تحتاج إلى مكملات على النحو الاجتماعي والسياسي لكي يكون الشعر فاعلاً ومتحركاً مع بقية الأجناس والاشتغالات الفنية على سبيل المثال. وكذلك تحتاج إلى الدعم المؤسساتي بالقدر الذي تحتاج فيه إلى فردانية بالغة وذكية، تشترك مع ذات أخرى شبيهة تملك ذات الوعي والخبرة في قلب الواقع وتطويره، وفي ابتكار كتابة محترفة خارج الرتابة والسائد كطريقة قول وتفكير. والشعر العراقي عموماً يمتلك أسسا وقواعد عميقة ومتجذرة تسمح له بالتجريب ومواصلة مشواره المتجدد، حتى وإن كان هنالك الكثير من المحددات السياسية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية