قراءة في شهادة الإبداعية لبشرى خلفان

لا أعلم إن كانت قراءة الشهادات السردية أمر هام بالنسبة لجموع النقاد والقراء، كقراءة العمل الأدبي نفسه، إلا انه من المؤكد ان الشهادة السردية الجيدة قادرة على إعطاء جمهور القراء خريطة وعي الأديب/ة للأدب ووظيفته الأدبية، وبدايات تمثلات الوعي السردي الفني في حياته، وماهية هذا الوعي، وطبيعته، وكيفية انبثاقه، وماهو توجهه.. نعم أرى قراءة الشهادة السردية هي مفتاح مهم لفهم وعي الأديب للنص الأدبي، ودور الكتابة الإبداعية في تغيير وعي المجتمع.. أو مدى إنحسار غايتها لأن تكون فعل لذة لا أكثر ولا أقل.
أيضا، أرى الشهادة السردية هامة جدا لأننا ونحن نعاني من بعض النصوص الرديئة سرديا، نحتاج إلى مكاشفة بين المبدع والمتلقي، تبين لنا رؤية الكاتب وهو يصوغ عمله السردي .. فإن كانت الرؤية عميقة وواضحة ورصينة في الشهادة فهي بنسبة كبيرة ستؤول للنص الإبداعي كتطبيق عملي للرؤية النظرية المسبقة لدى الأديب حول الكتابة الإبداعية التي لا بد أن تكون متوافقة مع المنتج الإبداعي في الفترة التي رصدت بها..
إذا كانت الشهادة الإبداعية خطا إبداعيا موازيا يجمع بين السيرة الذاتية والتخييل الفني الأدبي، يقدم الحقيقة بسرد تخييلي مشوق كوسيلة للانحراف عن المألوف والتأثير عبر الوسيط الجمالي، فمن من هذا المنطلق سأقف اليوم عند شهادة الأديبة العمانية بشرى خلفان المقدمة في ملتقى السرد الخليجي الثاني في دولة الكويت المنعقد منذ أسابيع قليلة ، والتي رأيت إنها تقدم رؤية ناضجة للأدب متوافقة من حيث التنظير في الشهادة السردية، وفي المنتج الإبداعي الرصين لها.
بعد قراءة الشهادة الإبداعية لأكثر من مرة تبين ان الهوية الإبداعية للكاتبة شهدت تحولا وتطورا إيجابيا خلال مراحل تكوين الوعي الإنساني لها، عبر فترات زمنية تبدأ من طفولتها ومهد التكوين، مرورا بمراهقتها حتى تاريخ كتابة شهادتها هذه حيث وصلت إلى بعض الرؤى الناضجة في كتابة النص السردي. في هذه القراءة سنحاول عرض بدايات تكوين الوعي السردي لديها، مفهومها للسرد، ونضج الرؤية السردية لديها، من خلال الثيمات التالية:
بدءا: الماضي مصدر السرد: يتبين ان أولى منابع الحكاية عند بشرى خلفان الطفلة هي الجدة، الجدة المصدر الأول لتشكل الحكاية، هذه الحكاية الجامعة للواقعي والخيالي، للطبيعي والأسطوري، تمارس إعادة خلق وتشكيل جديد في الوعي الإنساني لما هو قديم. تبرز صورة الجدة عند خلفان كرمز للماضي والأسطورة، التي تتوارث الجدات في تاريخ السرد العربي نقلها للأجيال بصيغ معدلة مما يعني ان أول منابع السرد عند القاصة هو الماضي متمثلا بالجدة وسردياتها الأسطورية القارة في الذاكرة العربية، وهي هنا تغرف من معين معرفي شعبي ينهل منه العديد من الأدباء العرب، محافظين عليه من المسح والشطب والنسيان.
بعد ذلك بقليل تتحول مصادر الحكاية والمعرفة عند بشرى خلفان فتصبح مع مرور الزمن:
 دفاتر التلوين والقراءة، «ثم كبرت قليلا فصارت دفاتر التلوين وأفلام الرسوم المتحركة والقراءة، ثم دخلت في مرحلة المراهقة فصارت أفلام الرسوم المتحركة والطعام والقراءة، ثم كبرت أكثر وأكثر وأكثر فصار الحزن والطعام والقراءة». يتبين إن الكاتبة مرت بمراحل تكوين معرفي تنقلت فيها من البسيط والمدهش والخارق، والأحادي إلى المتعدد والمتلون بمعطيات الثقافة المتعددة، كالرسم والأفلام ، ومن ثم القراءة الجادة مع مرور الزمن والنقلة النوعية لها من الدهشة واللذة إلى الحزن والبكاء، ففي البكاء إشارة ضمنية على معرفة العالم معرفة راديكالية أوصلتها إلى منابع الحكمة، التي رفعت الستار الحالم والجميل والمثالي المغطي للكون لتظهر أكثر وأشد الوجوه بشاعة لتحولها إلى معرفة مصدرة للألم.
لذلك هي معنية بتقصي مواطن القبح والتشرد والتيه في هذا العالم، في مجموعتها القصصية غبار على سبيل المثال، لـ « تقصي منابع الألم والتشرد والتيه المزمن، الحيرة التي كانت تعيدني لطفولتي ولمسقط الغافية على أسرارها وحكاياتها وتحولاتها»، حيث تنطلق خلفان من محاولة لرصد تحولات الأزمنة بمرارة طفلة صدمت بهذا العالم. 
من ضمن مسيرة التحولات والاستدراكات المعرفية أدركت بشرى خلفان إنها لم تستطع أن تكتب رواية لغاية كتابة الشهادة أكثر ما يجعلنا نتوقف عند هذا النص هو صدقها مع ذاتها ومتلقيها أيضا، فهي على الرغم من محاولاتها الأربع في كتابة رواية إلا إن الفشل كان السبب في عدم إكمال هذه المشاريع الكتابية، وهذا لا اعتبره فشلا بقدر ماهو جدية في تعاطي فكرة الكتابة الروائية، يقابله استسهال الكثيرين في كتابة هذا النوع الصعب، مما يولد تهلهل في البنية السردية، وصعوبة في تطوير الأفكار لدرجة ان بعضهم لا يصلح إلا أن يكون حكاءا بسيطا.. وفق المعنى الأولي والبسيط لفكرة الحكاية.
لقطات هامة في شهادتها:

١- الصرصار: وسؤال الأنا الأعلى:
تسرد خلفان إن بداية الكتابة عندها انبثقت بعد تجربة تخلص من صرصار حيث  تحول الفعل العادي الذي لا يكون لا إراديا وقتها، وفعلا متماشيا مع ثقافة مجتمع إنساني يتخلص من الحشرات، من دون سؤال إرادي عن سبب هذا التخلص: «لماذا كان علي التخلص من ذلك المخلوق البائس الذي قاده حظه العاثر للوقوف في مواجهة مع امرأة تحرس خلوتها وغضبها ويأسها بحرص شديد؟ لماذا كان عليه هو أن يتحمل نتائج خوفي وترددي وذعري في مواجهة العالم؟ لماذا كان عليه أن يكون الضحية؟». هل كان الصرصار رمزا لهذه القوة الخفية والمخيفة من هذا العالم. من هنا نرى إن كتابة «قصة صرصار» كان سؤال الضمير والوعي والأخلاق عبر الأنا الأعلى الذي قام بالإجهاز عليها، كما أجهز على أوديب، أوديب فقأ عينيه، ولكنها كانت أكثر مدنية منه وفق معطيات العصر الحديث فكتبت قصة الصرصار.. بالتأكيد الاختلاف في طبيعة رد الفعل على الأنا الأعلى مرتبط بنوع الفعل الذي ارتكبه كل منهما فجرم أوديب كان أشد وطأة من جرمها، كذلك يعتمد على اختلاف الفترة الزمنية التي كتب فيها النصان وطبيعة النظرة إلى فكرة البطل، فأوديب ابن الأدب الكلاسيكي الذي ينتج صورة أبطال حقيقيين وأخلاقيين بالضرورة والحبكة لديهما درامية ومأساوية غالبا بينما «صرصار» ابنة العصر الحديث بمعطياته المختلفة والمغايرة، لذلك كانت كتابة القصة ردة فعل على أسئلة حداثية وإنسانية من خلال فعل الكتابة، وهذا هو زمن الكتابة وتحرير الأسئلة، وكتابة حكاية الضحية كما تقول:
«كان الصرصار/ الضحية
والنص/ الشاهد
والكاتب/ الجلاد
 يبتسمون في نفس اللحظة لسخافة الفكرة ويرجعون السماعة إلى مكانها بهدوء».

* الرؤية الجمالية لفعل الكتابة:
من خلال عرضها الضمني لرؤيتها الجمالية للكتابة اتضح تطور رؤيتها للفعل الكتابي، فمن الدهشة المصاحبة لأولى مراحلها أصبحت فعل لذة (وفق التعريف البنيوي لكتابة النص) كردة فعل رافضة لتعريف الكتابة بمشروع للإيحاء السلبي لكلمة مشروع المقرونة دلاليا بمشاريع الدولة الفاشلة، كما انها أيضا تحولت إلى محاولة جادة لاستيعاب أشكال الجمال والقبح الظاهرة في العالم وأسبابها الخفية، وبؤس المحطات الإنسانية والاختيارات كمحاولة تفسير وجودي لألم الإنسان الظاهر في المجتمع، وحفر في مسبباته المكشوفة غير المكشوفة.
بعد المرور بالعديد من المحاولات والاكتشافات والتجارب اللغوية الإبداعية تكتشف خلفان إن الكتابة فعل إرادي، يستحق أن يتعامل معه المرء بجدية .. بالتأكيد إن الكتابة بوصفها فعلا إراديا وفق تصورها هو رد صارخ وقوي على العديد من المبدعين الذين يعتبرون ان الإلهام هو كاتب النص، وان النص يكتب نفسه. نعم قد يكتب المبدع نصه استجابة للكتابة للوهلة الأولى إلا انه لابد أن يمر بمراحل من التنقيح والترتيب وإعادة الصياغة، بوصفه فعلا إراديا واعيا مقصودا ينتقل من المبدع للمتلقي برسائل معرفية وجمالية متعددة.
وبعد، قدمت بشرى خلفان شهادة سردية مميزة تصلح لأن تكون إضاءة سردية في طريق فهمنا لآليات تشكل الفعل السردي في حياة الأديب، مدعمة مع نصوص سردية متميزة للقاصة العمانية بشرى خلفان.                     

سعاد العنزي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية