محاكاة الكولونياليّة: الطفرة السوريّة

حجم الخط
1

ما من فكرة أو احالة الى الاستعمار، الا وأتى بها أصحابها الى الحريق السوريّ، سواء بقصد الإضرام أو بحجّة الإخماد.
فهذا يراه استعماراً سلطانياً عثمانياً يستهدف حصن القومية العربية بتتريك جديد، وبمعية الاخوان المسلمين عوضاً عن جمعية الاتحاد والترقي، وذاك يراه استعماراً روسيّاً لم تردعه نكبته في أفغانستان عن تدميره للشيشان والآن لسوريا المسلمة، وهناك من يراه استعماراً فارسياً بأجندة ساسانية أو صفوية، وبحماسة شعوبية أو مهدوية، وطبعاً يتقاذف أهل الثورة وأهل النظام تهم التواطؤ مع الاستعمار الاسرائيلي، فهذا يشبّه خطط ذاك بديناميات الاستيطان الصهيوني والتطهير العرقي، وذاك يرجع الخارجين على فئويته ودمويته الى الرغبة الدفينة المزعومة في النيل من ممانعته ودعمه لحركات المقاومة.
 وتحضر في كل هذا الاحالة الى الامبريالية الغربية، والأمريكية تحديداً، بين نظام يرى نفسه في موقع مواجهتها، يتبجح في الوقت نفسه، بأنّ هذه الإمبريالية ليس بمقدورها الاستغناء عنه، وبين الخارجين على النظام الذين يؤاخذون الإمبريالية إن تدخّلت أو عزمت أو أعرضت عن التدخّل، لا فرق.
والحديث عن استعمارات عثمانية وفارسية وروسية ووهابية هو من قبيل خلط الحابل بالنابل، والتوسّع في المفهوم بحيث يخرج عن كل تاريخية ترتبط بالمستعمرات التي اقتطعتها وأنشأتها الدول الأمم الأوروبية الغربية ما وراء البحار، أو بالتمدد الترابي المتواصل في حال روسيا (الأمر الذي يبقي السؤال مفتوحاً حول كون الاستعمار القاريّ تناقضاً في المفهوم أو لا)، وهذا بدوره يذكّرنا بمسألة أساسية عمرها من عمر انكفاء جيوش المستعمر وانفراط عقد مجتمعاته الاستيطانية في الكثير من البلدان: حيث أن الاستعمار غير المباشر، على ما جرت المقولة في الخمسينيات والستينيات، قد يجوز للتشبيه والاستعارة، لكنه حديث يفسد اذا ما طرح نفسه كمفهوم كليّ، ذلك أنّ تاريخية الاستعمار مرتبطة بقدوم المستعمرين من ما وراء البحار، وممارستهم آليات التحكّم بالسكان الأصليين عن قرب، ومن خلال الادارات الاستعمارية. الاستعمار عن بعد ليس استعماراً، الا من باب الاشارة الى عناصر التشابه كثيرة بين حال المستعمرات قبل وبعد استقلالها الوطني، ومن باب التنبيه الى التركة الاستعمارية الثقيلة، التي تتلبّس أحياناً مؤسسات الاستقلال الوطني وشعاراته ونخبه. 
طبعاً، استحضر أيضاً الاستعمار التاريخي الوحيد الذي عاشته سوريا لعقدين ونيّف، أي الاستعمار الفرنسي، وكان ملفتاً الجدل حول العلم الذي اختارته الثورة السورية لنفسها بين من رآه علم الاستقلال وبين من رآه علم الانتداب نفسه، كما كان ملفتاً ان الثورة حاولت استعادة بعض رموز مقاومة الاستعمار الفرنسي في أسماء الجُمَع الملتهبة في سنتها الأولى، قبل أن تعود فتنصرف الى أسماء من زمن الفتح العربي الاسلامي للبلاد. وهناك دائماً الاحالة الى الدويلات الادارية التي قطّع المستعمر الفرنسي سوريا بها، وبالذات دولة العلويين.  هذا الفائض في الإحالة الى الاستعمار، على قاعدة اخراج معنى الاستعمار نفسه عن كل تصور مفهوميّ وكل تاريخية، انما يشغل وظيفة دراميّة أساسية في السرديات السورية، وظيفة تستعيد تراكمات المسلسلات الرمضانية التاريخية السورية التي خبزت وعجنت في الثنائية نفسها: فتوحات محمودة واستعمارات مرذولة. 
في الوقت نفسه، قد تدفع هذه الطفرة في الاحالة الى الاستعمار أو الكولونيالية، الى التنبيه الى انّ الصراع في سوريا ليس فقط بين سرديات احترابية متضادة، بل هو صراع على قاعدة ميل زمن السرد الى الانقطاع: صراع يخرج كل واحد فيه نوستالجياه من جوفه ويبشّر بها.
الثورة تجد نوستالجياها في شهورها الأولى، ومشاهد ساحة العاصي والجماهير الشجاعة الهادرة ضد اجرام البعثيين. النظام يلفّق نوستالجياه عن استقرار كياني ومجتمعي كانت تعيشه البلاد قبل الثورة. بعد ذلك تأتي النوستالجيات المتخيلة الصرف، أي التي تحيل الى زمن لم يعشه أيّ منا، كنوستالجيا الاسلام المبكر.
وبين هذين الحدّين، تكثر النوستالجيات التي صارت تفصلنا عنها عقود غير قليلة، انما لا تزال تعتمد على الذاكرة وليس على المخيال فحسب، وهنا تكاد تجد صعوبة في أن تفصل بين النوستالجيا لزمن الاستعمار الفرنسي وبين النوستالجيا للسنوات الأولى التي أعقبت التحرّر من هذا الاستعمار. كأنهما الشيء نفسه، كأنهما واحد. 
عندما يجري تجاوز هذه النوستالجيا المتداخلة، والمشتركة لزمني الانتداب والاستقلال الوطني البرلماني القصير الأمد، يحدث ذلك اما لاستقراء استعمارات عن بعد، واما للشخوص الى استعمارات داخلية. وبالفعل، في كثير من البلدان المستعمرة سابقاً، فقد أدت وراثة السكان البلديين لجهاز الادارة الاستعمارية السابقة وتحويله الى جهاز للدولة الوطنية نفسها، وظيفة التشبه بالمستعمر السابق، ومحاكاة آلياته، ابتداء من آلية الفرز الكولونيالي بين الأقوام التي تتضمّنها المستعمرة.
فمن القوم الاستيطاني، القاعدة السكانية للادارة الاستعمارية نفسها، الى الفئات الوسيطة، الى الأقوام الراضخة أو الثائرة أو المشتتة في مواجهة الادارة الاستعمارية. هذه الوراثة لجهاز الدولة الكولونيالية تحول في سوريا الى وراثة فئوية طائفية محض، تجمع بين استحلال دم الخارجين عليها كرجعيين في مواجهة تقدمية النظام، وبين استحلال دمهم دينياً كخوارج يسعون الى الفتنة لأنهم يخرجون على الحاكم الجائر دون التمكّن من خلعه أو اعداد العدّة، واللافت ان كل ما يقوله بشار الأسد ومن ورائه كل مثقفيه المباشرين أو الضمنيين، هو أن الثورة على النظام افتقدت الى الإعداد الكافي. هذا مدهش. مدهش أن تكون هذه حجة النظام! 
بالتوازي، فكما ان الاستعمار عن بعد ليس استعماراً الا من باب الاستعارة، كذلك الاستعمار الداخلي ليس استعماراً الا من باب الكشف عن أساليب محاكاة النظام الفئوي للمستعمرين الأجانب وبالاتكاء على جهاز دولة موروث عن الادارة الكولونيالية. وهذا يعني أن قوّة الثائرين على هذا النظام تكون عندما يسلّطون الضوء على هذه المحاكاة من طرف النظام للأساليب الاستعمارية في مواجهة السكان الأصليين، وضعف الثائرين هو عندما يلبسون ثوب الانديجانية في مواجهة سفّاحين لم يأتوا من ما وراء البحار، فيكونون بذلك كمن انطلت عليهم الحيلة.

وسام سعادة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    كلامك ياأستاذ وسام عن الاستعمار صحيح
    لكنه لا يوجد هناك استعمار داخلي
    بل يوجد هناك استحمار

    هذه هي سياسة حكامنا وهي سياسة الاستحمار مثل المقاومة والممانعه

    ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية