هل أصبح الإعلام سلطة أولى؟

حجم الخط
0

■ منذ أن غزت العولمة وسائل الإعلام الجماهيرية والصناعات الإعلامية والثقافية عامة، ومنذ أن صارت المؤسسات الإعلامية ملكية حفنة من الشركات الاقتصادية أو في أيدي مجموعة من المالكين الخواص، وبفضل التوسع الهائل والسريع في مجال تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، لم تعد المؤسسات الإعلامية ترغب في لعب دور «السلطة الرابعة» المعنية بتصحيح التجاوزات على القانون، واختلال العمل بالنظام الديمقراطي، سعيا إلى تحسين النظام السياسي وتلميعه. فلا رغبة لملاك هذه المؤسسات في تحويل الإعلام إلى «سلطة رابعة» أو التصرف كسلطة مضادة. فقد غيرت من أهدافها وصارت تحتل منزلة مختلفة في ظل العولمة، حيث ساهمت التطورات التي شهدها العالم مؤخرا، وعلى جميع الأصعدة، في تحويل ما سماه هابرماس بالفضاء العمومي إلى فضاء إعلامي، أصبح بموجبه الإعلام يشكل نموذج التواصل السائد والمهيمن هيمنة شبه مباشرة على إنتاج المعنى، وعلى مختلف التمثلات الاجتماعية والجماعية حول الواقع.
لقد أدركت الدول التي تحتكر ريادة هذا العالم أن الرهان المستقبلي، هو رهان المعلومة والسيطرة على وسائل الإعلام، لذلك لم تدخر جهدا في سبيل الوصول إلى هذا المبتغى مهما كلف الثمن. فصارت قوى متعددة تتنافس في ما بينها للاستحواذ والسيطرة على منابر الإعلام، من أجل إعلاء كلمتها ووجهة نظرها وإيصالها للرأي العام، لأن السلطة الحقيقية في أي مجتمع يؤمن بالديمقراطية والشفافية في نهاية المطاف هي سلطة الشعب أي الرأي العام. والقوى الإستراتيجية التي تشكل الرأي العام في أي مجتمع هي وسائل الإعلام، لذا أصبح الإعلام صناعة، بل إن الثقافة بدورها صارت صناعة وهو ما عبر عنه أروع تعبير الكتاب المشترك بين ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر الموسوم بـ»جدل التنوي»، الذي يحوي بين طياته فصلا بعنوان «صناعة الثقافة»، يبرز بأن الثقافة في القرن العشرين أصبحت صناعة، مثلها مثل الصناعات الأخرى تخضع لقوانين العرض والطلب وبذلك لقوانين السوق. فالمنتجات الثقافية أصبحت منتجات معلبة تُصنع وفق معايير الإنتاج المتسلسل ووفق أنماط معينة تؤدي في النهاية إلى أحادية الأسلوب والمحتوى. وبذلك اٌختصرت الثقافة في التسلية والاستهلاك العابر- الذي يعمر لفترة زمنية محدودة ثم يزول للأبد. فالصناعات الثقافية أصبحت مرادفة للتلاعب بأذواق الأفراد وحسهم، كما أصبحت نموذجا للتعليب والتنميط والتسطيح وإفراغ الثقافة من محتواها الحقيقي ومن بعدها الجمالي والإنساني.   
ولأن الأمور تغيرت وأضحت على ما وصفنا، فإن المؤسسة الإعلامية تنازلت، مكرهة، عن دورها كسلطة رابعة، ذلك الدور الذي تقلدته منذ بداياتها الأولى، والذي كان مبرر وجودها، حيث كانت نصير المظلومين والفئات المغلوبة على أمرها، كما كانت رمانة الميزان التي تفضح كل الخروقات والتجاوزات، لتضمن الاستقرار داخل المجتمع ولتقطع الطريق على العناصر الاستغلالية والانتهازية. دور كهذا لم يعد يجدي نفعا في زمن أتت عليه رياح العولمة، إذ صار الإعلام الذراع الإيديولوجي لعولمة ليبرالية همها الوحيد احتواء المطالب الشعبية بدل السهر على حمايتها.
قد يفهم من هذا القول أن الإعلام لم تعد له قائمة إلا باعتباره أداة في يد السياسي يوجهها كيف شاء وأنى شاء. غير أن من الباحثين من يرى، عكس ذلك، أن الإعلام لم يعرف نكوصا ولا تراجعا، بل لقد انتقل من لعب دور السلطة الرابعة إلى لعب دور الريادة؛ إذ بات بمستطاعه التحكم في الفضاء العمومي بالطريقة التي تخدم مصالحه أو بالصورة التي تبدو له نزيهة، إن كان همه فعلا تبيان الحقيقة ورفع كل ما من شأنه حجبها، ولربما قد نتفق مع هذا الطرح إن نحن تمعنا في ما حدث مؤخرا ولا زال يحدث حاليا في الساحة السياسية العربية، فقد صرنا نسمع ونرى القلق الذي تحدثه بعض المنابر الإعلامية بالنسبة للمتربعين على عرش الأنظمة في بعض البلدان العربية، فصاروا يحاربونها جهارا وبكل الطرق، لا لسبب إلا لكونها ارتكبت جرم كشف ما لا ينبغي كشفه.
أصبح الإعلام، منذ فترة، يتصرف كما لو كان لسان حال الفضاء العمومي، فهو يريد أن يفهم ما يحدث، باسم ونيابة عن المواطن، الذي يبدو أنه ارتضى لنفسه ذلك، فتحول من فاعل (مواطن) إلى مستهلك للمعلومة التي تروج في ما يسميه هابرماس بالفضاء الإعلامي. لقد صرنا نشهد بالفعل تغيرا في الأدوار التي بات ينهض بها الإعلام منذ تحول من إعلام رأي إلى إعلام جموع، فقد تمأسس وتمهنن ليصبح إعلاما بمواصفات خاصة، نأت به عن لعب دور الوساطة المحايدة كناقل للمعلومة من مصدر معين نحو متلق معين، فقد صار يقحم المصالح الخاصة في الفضاء العمومي، وصار مجالا للتأثير بامتياز وفضاء لإحداث «الصخب» وليس للتفكير وإعمال النظر، بل صار بمُكنته إنتاج المعلومة وإنتاج الإجماع أو خلقه أو الحث على الانخراط في قلب المجتمع المدني، معتمدا على مواقف مختلف الفاعلين الاجتماعيين الأكثر تأثيرا بالطبع (لاحظنا هذا مؤخرا مع قناة الجزيرة في تغطيتها لأحداث الثورتين التونسية والمصرية، كما لغيرهما من الأحداث). وهذا كله يندرج ضمن ما يسمى باستراتيجيات التأثير، التي يهدف من ورائها منبر إعلامي ما إلى حمل الرأي العام على تبني وجهة نظره، في تحول عميق شهدته الآلة الإعلامية، باتت بموجبه «أداة فعالة للإقناع والتأثير تحرك الجموع وتنتج الإجماع»، في إطار ما بات يعرف بالتسويق السياسي.
الأكيد وفقا لهذا المنظور أن الإعلام لم يتوار ولم ينسحب إلى الخلف، ما دام الجميع على وعي راهنا بتأثيراته المباشرة على طريقة تمثلنا للعالم، بشكل باتت بموجبه علاقتنا بهذا العالم لا تتم وفق تجربتنا المباشرة، بل صارت تحدد وفق الرؤية التي يقدمها لنا الإعلام، أي عبر وساطة معايير من خلقه، يسعى إلى إدماجها في المجتمع، بل جعلها منسجمة ومتناغمة معه.

٭ أستاذ باحث من المغرب

أ. عبد القادر ملوك

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية