حكايات من البر الانكليزي: حكاية تبحث عن عنوان

حجم الخط
0

حكايات من البر الانكليزي: حكاية تبحث عن عنوان

جمعة بوكليبحكايات من البر الانكليزي: حكاية تبحث عن عنوانفي طريقي الي منطقة كيلبرن، اضطررت بسبب الجو الماطر الي انتظار الحافلة في اجوارد رود. كانت كل مقاعد المحطة مشغولة برجال ونساء من كل الاعمار، وازدحمت المحطة بالواقفين مما اضطرني الي الوقوف خارج المظلة، تحت المطر. حين اقبلت الحافلة انتظرت في آخر الطابور حتي حان دوري وصعدت الحافلة المزدحمة. لم أكن أفكر في شيء معين، وكل ما كان يعنيني هو الوصول في اسرع وقت الي كيلبرن والفرار من ازدحام الحافلة، الذي سبب لي شيئاً من الضيق واشعرني وكأنني محبوس في قفص. ثم فجأة، ومن دون سابق انذار، انطلق صوت امرأة بشتيمة مقذعة كرصاصة اخترقت جدار الصمت الذي كان يحيط براكبي الحافلة: يا سافل . التفت الراكبون من حولي الي مصدر الصوت، وتبين لي مثلهم أن صاحبته تجلس في احد المقاعد الخلفية المزدوجة، وبدا للجميع أن شيئاً ما أقرب ما يكون الي المصيبة قد حلّ بالمرأة. أطلقت المرأة شتيمة أخري أشد من الاولي: عاهر وابن ستين عاهرة . ظننت أن أحد الراكبين من الرجال قد أخل بأدبه، وربما تجرأ وقرص المرأة في مؤخرتها أو شيئا من هذا القبيل. واصلت المرأة الصراخ: كيف تجرؤ يا كلب علي النظر الي امرأة أخري أمامي؟ .حين سمعت الجملة الأخيرة تأكد لي ولغيري من الراكبين أن المسألة عائلية جداً، وخاصة جداً، بين امرأة ورجلها، وأن المرأة اختارت حسمها وقتياً ولم يكن لديها ما يكفي من الصبر، مثل ما لديها من الغيرة، للانتظار حتي تغادر الحافلة وتصل البيت. تواصل الصراخ: تكلم يا وغد، لماذا لم ترفع عينيك عنها منذ أن صعدت الحافلة و جلست أمامك؟ .. توقفت الحافلة في محطة، غادرها بعض الراكبين وصعد راكبون آخرون، وواصلت الحافلة الرحلة، وبدوري واصلت مع غيري من الراكبين متابعة المعركة بفضول. كان قلبي متعاطفاً مع الرجل المسكين، والذي لم أر وجهه بعد لأنه كان يجلس في مقعد في مؤخرة الحافلة، وظهره لي، الا أنني كنت علي وعي بسوء الموقف الذي أوقع نفسه فيه عن حسن نية أو عن تعمد، وكنت أشعرأن معشر الرجال من الراكبين مثلي متعاطفون مع الرجل، ومثلي يحمدون الله علي نجاتهم مما يحدث له. اختار الرجل الصمت ملجأ يحميه من تدفق السيل الهادر والغاضب، وفي نفسي تمنيت أن تصل الحافلة في أسرع وقت الي كيلبرن، أو أن يوقف السائق الحافلة ويطلب من المرأة والرجل التزام السكوت أو المغادرة. واصلت المرأة الصراخ: تكلم يا كلب، كيف تجرؤ علي النظر اليها في حضرتي؟ ما الذي أعجبك في كلبة جرباء مثلك؟ . واصل الرجل الاختباء وراء جدار الصمت، الا أن المرأة الأخري لم تستطع الصبر والانتظار أكثر بعد سماعها للمرأة المهتاجة تصفها أمام جميع الركاب في الحافلة بأنها كلبة وجرباء في نفس الوقت، فصرخت في وجه المرأة : لماذا لا تصمتين يا عاهرة؟ . شعرت بشعر رأسي يقف، وبلحم جلدي يقشعر، وبقلبي ينكمش. فكرت أن أطلب من السائق أن يوقف الحافلة ويفتح الباب لاغادر، الا أنني سمعت الرجل يخرج من خلف خباء صمته، صارخاً في المرأة الثانية بشتيمة لا تقل فحشاً عن شتيمتها: من العاهرة يا عاهرة؟ . فوجئت مثل غيري من الراكبين بتصرف الرجل، وبدأ لي أنه هرع جرياً الي حبل النجاة الذي رمته له المرأة الأخري، في محاولة لا تخلو من لؤم وخبث لتحويل مجري المعركة، ونجح في ذلك، لأن المرأة الأخري سرعان ما نفد صبرها، ونهضت واقفة من مقعدها ورمت بحقيبة يده في وجهه وبقوة، وهي تصرخ: يا لك من وغد . وفي لحظة اشتبكت الأيدي، واستعر الصراخ والبكاء، من كل الانحاء، فما كان من السائق الا أن أوقف الحافلة، وغادر مقعده واتجه مسرعاً نحو موقع المعركة. ومن مكاني حيث أقف كان بامكاني مشاهدته وهو يدفع الأطراف المتخاصمة بيديه ثم رأيته يمسك بالرجل من ياقة معطفه ويجرجره بعيداً عن مكانه، ثم يفتح باب الحافلة ويلقي به خارجاً، ويعود الي الموقع مجدداً ويمسك بالمرأتين معاً من أيديهما وبقوة يجرهما ويلقي بهما خارجاً علي الرصيف. ومن مكاني، كان بامكاني، من خلال زجاج نوافذ الحافلة، مشاهدة المرأتين منفوشتي شعر الرأس، تبكيان، وتصرخان، في حين وقف الرجل غاضبا بجوار امرأته، يسب ويلعن السائق بأعلي صوت. اتجه السائق الي مقعد القيادة، وأغلق بغضب باب المقصورة الذي يفصله عن الركاب، وأغلق باب الحافلة المفتوح، وواصل الرحلة. تنفست الصعداء، ورصدت عيناي في وجوه بعض من كانوا حولي منهم ملامح ارتياح، وخيم الهدوء علي الجميع. في شارع كيلبرن الرئيسي غادرت الحافلة واتجهت، تحت انهمار المطر، الي المقهي المفترض أن أجد فيه صديقي. حين وصلت دخلت المقهي وألقيت نظرة علي الجالسين حول المناضد واخترت منضدة قريبة من المدخل وجلست. طلبت كوباً من الشاي، وحينما أخرجت علبة سجائري لادخن، فوجئت برجل جالس حول منضدة قريبة مني يقول لي بصوت يشبه الهمس أن التدخين ممنوع في داخل المقهي. أعدت علبة سجائري الي سابق مكانها في جيب معطفي ولعنت صديقي الذي اختار مقهي يحظر التدخين علي زبائنه مكاناً للقائنا مع علمه المسبق بعلاقتي الوثيقة بالسجائر والتدخين. قال الرجل الجالس بجانبيش: هل تعرف أن الحكومة سوف تمنع التدخين في الأماكن العامة في شهر يوليو القادم؟ . ابتسمت وقلت له متسائلاً: في رأيك الشخصي أيهما أخطر علي صحة الناس: الحكومة أم التدخين؟ . ضحك الرجل وقال: ما رأيك لو نرسل بالسؤال الي مجلس العموم لمناقشته؟ ابتسمت ورشفت رشفة من كوب الشاي، وخطر لي أن أدخن. نهضت من الكرسي وخرجت من المقهي، انتحيت جانباً يحميني من المطر المتساقط، وأشعلت سيجارة وتشاغلت بمشاهدة زحمة الحياة من حولي في شارع كيلبرن الرئيسي. رأيت حافلة تقف أمامي في المحطة، ورأيت الكثير من الركاب يغادرونها ثم ولشدة عجبي، كان من ضمنهم نفس المرأتين اللتين اشتبكتا بالايدي في الحافلة التي أقلتني الي كيلبرن وخلفهما الرجل نفسه يسير ببطء وهو يحاول اشعال سيجارة. لم يبد علي المرأتين أنهما كانتا منذ نصف ساعة في حالة حرب. تابعتهما، وأنا غير مصدق، وهما تسيران، جنباً لجنب، قادمتين باتجاه المقهي الذي أقف أنا خارجه أدخن، ورأيتـهما بأم عينيّ تدخــلان المقهــي، في حـــين توقف الرجل بالقرب مني في انتظار الانتهاء من تدخين سيجارته للحاق بهما!!حين وصل صديقي المقهي، جلس علي كرسي قبالتي حول المنضدة يرشف قهوة مرة، وبدأنا معاً ثرثرتنا المعتادة، وحين توقف المطر في الخارج اقترح صديقي أن نتحول الي مقهي آخر قريب حتي يمكنني التدخين والاستمتاع بجلستنا، فوافقته علي اقتراحه، ونهضنا واقفين واتجهنا صوب الباب. بدون تفكير أو تقصد التفت بوجهي للخلف ورأيت نفس المرأتين ونفس الرجل يرتشفون كؤوساً من عصير فواكه، ويتحدثون بهدوء كأصدقاء قدامي.كاتب من ليبيا يقيم في لندن0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية