قانون موت الشاعر

حجم الخط
0

 

منذ أن مات نجيب ويحيي وصلاح وأمل،
منذ أن مات المتبني وأبوالعلاء،
منذ أن مات الحلاج وهيمنغواي وغاليليو وشي جيفارا،
وأنا أتساءل..
لماذا يموت الشاعر؟
هل يموت لأن القبح يسود، والجمال يتقلص ويتقبح.. هل هو ينتحر بالإرادة لأنه يئس من العالم ويئس العالم منه؟
هل يموت من فرط حبه للمغامرة وارتياد المخاطر وعشقه للخطأ والخطر والخطل؟
هل يموت مهموماً لأن الألم في الدنيا أكثر وأصبح يتكاثر أكثر؟
هل يموت ليقول للعالم بموته كلمة عجز عن قولها بحياته؟
هل يموت لأن السرّ الذي جعله ينطق شعراً ومثلاً وحياة، غدر به؟
(…)

٭ ٭ ٭

أجل..
يموت الشاعر حين ييأس من أن يشاركه أحد الرؤية، تمام الرؤية.. ولست هنا في مقام إيضاح رؤية أمل دنقل.
فما حصلته منها نتف متفرقة (…)
كان مرّاً
كان حلواً
كان صلباً (…)
وأمل دنقل الرؤية، كان رؤية مستحيلة، مستحيلة أن يراها سواه وإلا لكنّا جميعاً أمل دنقل. هو وحده الذي كان يراها، ويراها بوضوح شديد، وحين صاحبته أكثر وأكثر، وفي أخريات حياته كنت له رفيق كل يوم وكل نميمة وكل قهقهة عالية، بدأت أخاف من رؤيته المستحيلة، إذ كنت قد بدأت أراها، وبدأت تحتل عليّ تفكيري.. حتى أنني رفضت تماماً أن أقرأ قصيدته «الجنوبي» الأخيرة، فقد كنت متأكداً تماماً أنني لو قرأتها لاكتملت الرؤية، ولمتُّ مثله وحده.
فاعذرني يا أمل لأني لم أمتلك شجاعتك للاستشهاد في سبيل رؤيتك..
وحتى لو قلت معتذراً لأني أنا الآخر أريد أن أموت شهيد رؤيتي، فالعذر أقبح من الذنب..

٭ ٭ ٭

أيها السادة،
نحن في حضرة عبقرية انتهت حياتها منذ أيام وإلى ألف عام من الآن، إلى مسافة تماماً مثل التي كانت بين المتنبي ودنقل، سنظل ننتظرها، ولن أطلب منكم الوقوف حداداً فنحن إذا وقفنا حداداً سيكون الحداد على عصر طويل قادم، حداداً على العصر الذي سيمضي حتى يشب فيه رجال لهم شيم الرجال الذين كان يراهم أمل دنقل، وكرم الرجال الذين كان يحلم بهم أمل دنقل، وشرف ونبل وإنسانية وشجاعة ورقة الرجال الذين استشهد أمل دنقل وهو يراهم هم البشر ويحلم برؤيتهم، وكنا نحن صغاراً فلم نرهم، ولم نره.

(٭) فقرات من كلمة ألقاها (1927ـ1991) في أربعين أمل دنقل (1940ـ1983)، وتُستعاد هنا من باب التذكير، في ظلّ انحطاط معظم الخطاب الثقافي المصري الراهن، بأسماء كبيرة ونصوص لامعة.

يوسف إدريس

كلمات مفتاحية

إشترك في قائمتنا البريدية