رهان الحكي والبوح في رواية ‘روائح مقاهي المكسيك’ لعبد الواحد كفيح

حجم الخط
2

يواصل الكاتب المغربي عبد الواحد كفيح مسيرته الإبداعية بإصداره لأول عمل روائي له تحت عنوان:(روائح مقاهي المكسيك)، عن منشورات ‘سليكي أخوين’ بطنجة/ فبراير 2014، في حوالي 160 صفحة. تزين غلافها لوحة للفنان المغربي ‘ جمال الزكراوي’. ويأتي هذا العمل بعد مجموعتين قصصيتين: ‘أنفاس مستقطعة’ و’ رقصة زورنا’.

مداخل القراءة

تقدم رواية ( روائح مقاهي المكسيك) أكثر من مدخل للقراءة:
1-من خلال النص الموازي، وهو يبلغ رسالة فحواها أن الكتابة تقتضي السفر في الدرجة الثالثة من القطار، ليتحقق الكاتب فعلا من أنه يخالط الحياة الحقيقية.
2-من خلال راوي الرواة الذي يقدم نفسه قارئا خارج حدود المتن، لأنه يقتني رواية من محطة القطار، سيعمل على قراءتها طيلة الرحلة. من جهة ثانية، يقدم نفسه راويا بمواصفات خاصة؛ فهو يرغب في الحكي أو البوح تحديدا. وفي نفس الوقت يعبر عن خشيته من ( فيض الحديث الدافق… والتيه في بحر من الكلام البالي). فضلا عن ذلك يرسم خطوطا متقاطعة لأفق القراءة وحدود السرد، بحيث تذوب هذه الخطوط في منظور ثلاثي الأبعاد. القارئ المحايث ، الراوي والشخصية الرئيسية تجتمع في بوثقة واحدة . تبعا لذلك تتعين طبيعة الشخصيات ونوعية المحكي ومناخ الحكي العام. تؤطر الرواية هذا المناخ مسبقا بالمواصفات التالية:(… وأنا الذي قوست ظهري وحدبته هذه العربة اللعينة/ أصبحت أشك في آدميتي/ نار الرغبة في البوح والتفريغ/ فحياتي مليئة ومرقعة كمعاطف الدراويش). ص7و.8
3- إن المتن الداخلي الذي سيقرؤه الراوي يتخذ عنوانا آخر(أنا والشيبة العاصية؟ أو لم لم تنتظريني يا أمي؟). وفي كلمة الناشر المتخيلة ما يحدد انتشار هذا المتن ومقروئيته إلى حدود ترجمته إلى الإنجليزية، لأنه يصلح كدليل للحياة المغربية الحقيقية.
بغض النظر عن فحص مدى التداخل بين هذه الأبعاد الثلاثة، فإن الذي ينبغي تسجيله هو تأكيد الرواية على ذلك التحفظ الذي على أساسه تقوم شرعية المتن وتتحدد ملامح الميثاق القرائي؛ إنه البوح والحكي.
واعتمادا على قاعدة التخييل، يمكن إدراج السفر في القطار مدخلا أساسيا ضمن المداخل الأخرى. ففوق الانطباع القوي بالحركة والسرعة وتوقعات التشويق، تحدث مناوبة بين متن روائي متخيل وسرد صور من الحياة داخل القطار، بين الحين الآخر، مثل لازمة أو علامات ترقيم، تقوي (واقعية المتخيل) أو تقوي (الإيهام بالواقعية) كما هو متداول في نظرية الرواية. ناهيك عن موقف الاختبار الذي يجمع بين فكرة العبور والزوال وفكرة البقاء. هذا الموقف يسلط الضوء على محكي القطار ومحكي المتن المقروء ثم محكي الرواية الجامع.

اليتم والحرمان

(بوقال) بطل الرواية عانى اليتم بمعانيه الواسعة. لقد حرم من حنان الأم ورعايتها وأصبح محط تنكيل من طرف زوجتي أبيه. ذاق من قبلهما الحرمان والإبعاد والتجويع. كما عانى من تسلط المجتمع أينما حل وارتحل. ساقته الظروف مثل غيره من المهمشين إلى مقهى الشعب أو مقهى المكسيك، ليقضي هناك ردحا من الزمان في خدمة صاحبها ( الشيبة العاصية). في هذا الفضاء تعرف على أشكال من المسحوقين العابرين، راصدا بؤسهم ورغباتهم المخنوقة والقيم الأخلاقية والاجتماعية المذبوحة على حجر الفقر واندحار الكرامة الإنسانية. ويشير عنوان الرواية إلى هذا الحضيض الاجتماعي، حيث لا يستقيم لا العيش و لا الحياة لأناس ردموا في أسفل الهرم الاجتماعي. إن كل ما يصدر عنهم أو يحيط بهم يبين مدى الفقدان والخسارة التي قد يتعرض لها الكائن البشري في المأكل والمشرب والملبس وإحياء العادات والكلام واللعب والغضب والبحث عن لقمة العيش. هذه الحاجات وغيرها تنحرف عن مجراها الطبيعي وتتخذ صورا كاريكاتورية وتراجيدية. حتى المزايا الشخصية والحقائق الأخرى لا تجد لها معنى يرفعها إلى الضوء، بما في ذلك الأمجاد الشخصية والموت. الحاضر بالنسبة لهذه الشخصيات مقبرة للماضي. كأنما هي في محاولاتها السيزيفية لا تستطيع أبدا تجاوز عتبات البؤس. وكل التجارب الصغيرة الطبيعية المنفلتة من أتون الرماد، سرعان ما تنطفئ بدورها في أول لطريق. إنها شخصيات تعيش بلا أمل أو أفق. حكم عليها بالبقاء هناك وقد أثقل كاهلها بقيم أخرى منحطة كالمكر والخداع والعنف والدسائس والغدر والخيانة.
في هذا المناخ تتحمل الكثير من الشخصيات أعباء ألقاب وسمت بها، زادتها قهرا نفسيا وعمقت جراحها الاجتماعية. فضلا عن خطابها اليومي المتسم بالعنف والتحقير والتبخيس.
ويبدو أن الحكي هو نافذة هذا العالم على الضوء، نظرا لأن الراوي يتقاسم مع الشخصيات أنواع القهر والبؤس والكدح. إن السرد هو عبارة عن بوح متدفق، بعيد عن التكلف، يتجذر في اليومي بمشاهده ولغته الدارجة وحكايات شخصياته وأفعالهم ونمط عيشهم. في عالم لا يظهر فيه إلا بصيص ضئيل لما هو إنساني، دفن تحت الركام. ويغدو البوح كشفا وفضحا وتنديدا.

رواية داخل الرواية؟

ينبني المنظور السردي للرواية على مسارين متقاطعين؛ في رحلته عبر القطار، يقرأ السارد رواية يحكي تفاصيلها. ويعود من حين لآخر إلى الواقع لالتقاط بعض المشاهد والصور للمسافرين داخل القطار. يمثل الواقع الحاضر في عبوره وانتقائيته . لمحكي العربة الثالثة وظائف أساسييه: يختبر الماضي المروي ويضعه في مقارنة أمام الحاضر. هذا يتيح للقارئ فرصة المقارنة ورصد التحولات وحجم ونوعية الانزياح التاريخي في مسار التطور. كما يتيح تعزيز واقعية القراءة وواقعية المقروء. علاوة على استمرارية الحكاية إياها استمرارية القطار على السكة.
في محكي القطار يفتح الراوي أبوابا للبوح الشخصي:( وهكذا سرحت في الذاكرة كبطلنا هذا إلى الأيام الخوالي)46. يستحضر الراوي بعض أسفاره ومشاهداته وإحالاته إلى الطفولة، مقارنا في كل مرة، بين استعداداته ومرجعياته وبين تجربة العوالم التي ارتادها في سفره. المحكي الشخصي نمط متحرر، لا تربطه بالمحكيات الأخرى إلا الرغبة في البوح من قبل راو يتخفى وراء منظور القراءة.

المسارب الحكائية

تنبني الرواية على حبكة رئيسية، تتمثل في سرد جزء هام من سيرة (بوقال)، تمتد من طفولته إلى بداية شبابه. يحفر السرد في ما عاناه البطل من اضطهاد وتهميش وقهر وظلم، صاحبته إلى نهاية الرواية( عندما يغادر بوقال حارة بوعماير إلى براكة يكتريها من الحاجة الغشوة). إنه ينتقل من فضاء مغلق إلى آخر أقل انغلاقا. لكنه لا يغادر المحيط الهامشي كنتيجة مأساوية لحياة البؤس والجهل والإقصاء.
تصب في مجرى الحبكة الأم حكايات فرعية ذات صلة بالشخصيات الرئيسية كزيارة الضريح وحكاية الخالدية وموت الشيبة العاصية… تعدد هذه الروافد يساهم في تكسير خطة السرد وإضاءة الشخصيات في بعض جوانبها الخاصة. ويبدو أن أهم الشخصيات لا تملك من فرادة وخصوصية إلا أسرارها التي ستدمرها في النهاية.

مستويات اللغة

ما يثير في الرواية هو توظيف الدارجة بدون تحفظ أو انشغال لغوي كمحاولة التحويل والتفصيح وكشف قشور الدارج لإعلاء الفصيح. يطلق العنان للشخصيات لتتكلم بلغتها اليومية الموغلة في المعجم البدوي ومعجم الهامش. تمس هذه السمة أسماء الشخصيات التي هي عبارة عن ألقاب قدحية تؤشر على دونية أصحابها وانتمائهم إلى العالم السفلي( بوقال، الميلودي الخسارات، الشيبة العاصية…). تنتقل اللغة من مستوى الفصحى إلى الدارجة، كما ترصد في لحظات تداولها أثناء الحوار، ممتدة بحذورها إلى اليومي والشعبي في حركيته وتفاعله( رغيف البطبوط، الصباط، يجغمان الشاي…). ويقدم السرد هذا العرض اللغوي وكأنما هو بدهي وتلقائي. وبالنظر إلى المناخ التعبيري العام، تنقاد اللغة إلى البوح والاسترسال، دون قيود.

أفق الزمان والمكان

يخضع المكان القديم في مقهى المكسيك للاختبار، في الحاضر، داخل العربة الثالثة المتحركة. لم يتغير شيء كثير. لكنه تحت البؤس الاجتماعي، يكمن دفء إنساني ينبع من البساطة والتلقائية والمكابرة. إنها الروح نفسها التي تحرك دواليب الخطاب الروائي وكأن الحكي هو محاولات سيزيفية للبحث عن هذه الروح تحت حطام الحرمان والفقر والتهميش. يتداخل الماضي والحاضر في رحلة العربة الثالثة. تغيب وجوه وتحضر أخرى. وهي جميعها مصرة على الحياة ( كانوا كلهم على ما يبدو يستمتعون من خلال النوافذ بما تجود به الطبيعة من مناظر خلابة كأسراب الطيور والأنهار والجسور والصبية الرعاة خلف قطعانهم، والحقول والأشجار التي تسابق القطار جريا)159.
عاشت شخصيات مقهى المكسيك مجردة من قيمها الإنسانية والاجتماعية. أغلبها لا تستحق حتى أسماءها الشخصية. جل أفعالها وأقوالها لا تجد مداها الطبيعي، لتكتسب في سياقها الذي تجري فيه، الحقارة والتبخيس. وهذا يظهر أن التهميش يمس الفرد في كليته. إنه يحول الحياة إلى مشروع صعب يتأرجح تحت الدرجة الصفر. رغم ذلك تقاوم الشخصيات وتلملم أعطابها، باحثة عن السواء في درك يتحول فيه كل شيء إلى عبث. مراحل الحياة لا تجد في الهامش صورتها العادية كالموت والفرح والحب والعمل والحزن، إذ تنتهك بقسوة عابثة. هي في النهاية تعبير عن نمط عيش وليس عن اختيار فلسفي. يموت الشيبة العاصية دون أن يجد لمجده العسكري أي صدى. تموت زوجته بعد نهاية مفجعة تفقد فيها عقلها. يتغير فضاء المقهى بإدخال بعض التحسينات لمواكبة تطور العصر. يرحل بوقال إلى حي صفيحي، منتقلا إلى متسع من الهامش. تتجدد الحياة بصعوبة شديدة مع الوقت. لكنها تتجدد أيضا بالكشف والبوح والحكي.

خاتمة

رواية (روائح مقاهي المكسيك) فضاء للبوح والنبش في ماضي شريحة من المهمشين. ترصد عبر تفاصيل يومية من الأفعال والأقوال، تجربة شخصيات جمع بينها الحضيض الاجتماعي، ساعية إلى العيش وتحقيق الذات في وضعية تجعل كل محاولاتها عبثية. وتحت هذا الحطام الذي ترزح تحته إنسانية الفرد، يخفق القليل من الحياة المغيبة، مثل عين ماء صغيرة في صحراء شاسعة. كما يتراءى أمل تبدل الأحوال والقطار يستمر في الرحلة.

‘ قاص وروائي / المغرب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الكريم البيضاوي. السويد:

    (بوقال) بطل الرواية.

    أنت ياأخي أرجعتني لعقود ( بوقال ) هي ما كنا ننادي بها بعضنا البعض , أصدقاء الدراسة وفي الدرب وفي الحومة.

    ( بوقال) . ( واش آبوقال ) ” ماذا حصل ياهذا ” تقريبا بالعربية الفصحى. ( بوقال) كلمة بيضاوية مصدرها مدينة الدار البيضاء, يقال من الأحياء الشعبية وسط المدينة ( لمدينة لقديمة ).

    إمضاء: صديق بوقال.

  2. يقول محمد فاهي /المغرب:

    ان الكثير من الاسماء والألقاب والكنى تحمل شحنة تاريخية واجتماعية مهمة.
    لاشك أن مثل هذه الأسماء تعزز ذاكرتنا المشتركة وتسلط الضوء على جزء من الماضي المنسي….
    شكرا على تفاعلك
    ودامت لك المتعة أيها العزيز.

إشترك في قائمتنا البريدية