جدل الذاتية والموضوعية في رحلة ابن صيام إلي فرنسا

حجم الخط
0

جدل الذاتية والموضوعية في رحلة ابن صيام إلي فرنسا

بوشعيب الساوريجدل الذاتية والموضوعية في رحلة ابن صيام إلي فرنسا تعد الرحلة الصيامية(1) من أقدم الرِّحلات الجزائرية إلي أوربا، وتدخل في إطار الرحلات الرسمية التي قام بها أحد المثـقـفـين المقربـين من السلطات الفرنسية الحاكمة بالجزائر آنذاك وهـو أحمد بن صيام،(2) بأمر من الحاكم العام لحضور مهرجان تنصيـب نابوليون الثالث، وذلك بعد مرور اثـنيـن وعشرين سنة علي احـتلال فرنسا للجزائر وذلك سنة 1852م. إذن الرحلة رسمية تمت بأمر من الحاكم العام بالجزائر. يقول ابن صيام: أمرني من يجب علي امتثال أمره وهو والي دايرة الجزائر وقطبه، صاحب الرأي السديد والجود الذي ليس فوقه من مزيد البطل الهمام والأسد الضرغام سعادة السيد الفبرنور راندون. (ص 25) فجاءت الرحلة محددة المسار والبرنامج، ووجد الرحالة نفسه داخل مسار معين ملزم به طيلة الرحلة؛ إنه يعبر عن صورة الخاضع للمستعمر، يفعل به ما يشاء، والذي يدل علي ذلك هو تكرار الفعل أمر ومشتقاته أكثر من عشر مرات علي الرغم من قصر نص الرحلة. إذ يجعل ابن صيام الامتثال للأوامر أحد أسباب تقدم فرنسا، ويحاول ما أمكن إبراز امتثاله للأوامر ويعبر عن موقف فئة كانت تتعاون مع المستعمر.إن الرحلة بهذا المنحي تعبر بشكل أو بآخر عن غياب الحرية لدي الرحالة، ويتجلي ذلك في كونه يفعل كل ما يرضي المرسل (المستعمر بصفة عامة) ونلمس ذلك في الدعاء له: لازال من ربه بعين العناية ملحوظا ومن شر حساده محميا محفوظا. (ص 25). واستعمال التاريخ المسيحي في التأريخ لمسار رحلته يقول: وتاريخنا في هذا الكتاب كله التاريخ المسيحي. (ص 26(، مما يجعل الرحلة موجهة. قد يؤثر هذا التوجيه علي موضوعية الأحكام التي قدمها الرحالة وعلي مشاهداته، مما يدفعنا إلي طرح السؤال التالي: هل كان ابن صيام موضوعيا في مشاهداته؟ أم كان ذاتيا مثل ما فعل أثناء حديثه عن الشخصيات الفرنسية؟ 1- الذاتية (الآخر)تبعا لسياق الرحلة والباعث عليها كان لزاما علي ابن صيام أن يكون خاضعا لمرسله، فلم يخرج عن البروتوكول العام للرحلة السفارية، فكان جل الرحالين يتقدمون بالدعاء والشكر لمرسليهم، لكن المرسل هنا من نوع خاص، المرسل هو المستعمر. وبحسب العلاقة التي تربطه بالرحالة (علاقة ود وتقارب، كان ابن صيام وفيا له وكان يقدم له الشكر كلما سنحت الفرصة بذلك، علي طول مسار الرحلة، ابتداء من الحاكم العام الذي أرسله مرورا بالشخصيات التي التقاها، وصولا إلي الوزراء ونابليون. وغالبا ما يكون الشكر مصحوبا بالدعاء. من ذلك قوله: سيدنا لوي نابليون، أطال الله مدته وأدام سعادته […] فجزي الله أهل فرنسا خيرا. (ص 35-36) والمثير في هذا السياق هو أن الرحالة وعلي الرغم من كونه يعي تمام الوعي أنه ينطلق من ثقافة مختلفة لثقافة المخاطب، فإنه يستعمل خطابها للدعاء للآخر الباعث علي الرحلة، فكل كلمات الشكر والدعاء ذات حمولة دينية إسلامية، وكأن الرحالة لا يميز بين المسلم وغير المسلم. فالعلاقة مع الآخر هي التي فرضت ذلك. وهذا لا يعني أن الرحالة لم يكن يعي ما يقول لكنه كان مدفوعا إلي ذلك، كما دفع إلي الرحلة، وبذلك غابت الموضوعية تجاه الآخر، فحضر خطاب المجاملة والمحاباة.لكن رغم هذه الذاتية، فهناك مجموعة من الإشارات التي لا تخلو من موضوعية، عندما يتحدث عن تقدم فرنسا مقابل تأخر الذات. فيعمل الرحالة جاهدا علي تقديم تفسير لذلك التفاوت ويجمله في العناصر التالية: – الامتثال للأوامر بفرنسا: امتثال الرعية للأوامر الصادرة من أمرائها. (ص 34).- ذكاء العقل ودقة الفهم: فهم يختصون من بين الناس بذكاء العقل ودقة الفهم وغياص الذهن في الأمور عامة. (ص 34).- غياب التقليد (الإبداع). وليسوا بالمقلدين في الأمور، بل يطلبون دائما معرفة أصل الشيء والاستدلال عليه. (ص 34).- غياب الأمية: حتي أن عامتهم أيضا يعرفون القراءة والكتابة. (ص 34-35).- العدل: واعلم أن ملوك فرانسة لو اتصفوا بالظلم والجور وعدم الرفق بالرعية لما قدروا علي تحصيل بعض الغرض من عمارة البلدان وكثرة العساكر البرية والبحرية. (ص 41).2- الموضوعية (الواقع / المنجز)تحضر الموضوعية من خلال مشاهدات الرحالة (الواقع) فالواقع المشاهد يبرز تفوق الآخر ماديا؛ المنجزات الفرنسية التي يقف أمامها الرحالة موقف المنبهر العاجز. الأمر الذي يدفع الرحالة إلي البحث عن أسباب ذلك التقدم، ويقدم بعضها)العدل، غياب التقليد، غياب الأمية، ذكاء العقل… (مما جعل خطاب التحديث حاضراً بقوة في هذه الرحلة، إذ أن الانبهار يغدو دافعا مهما للتحديث ويزكي هذا الطرح الواقع المشاهد، والمقارنات التي يقيمها الرحالة بين واقعه في الجزائر وما لاحظه والتقطه بفرنسا، وهي مقارنات خفية نلمسها وراء السطور بين الهنا والهناك ولو في عقله الباطن إذ أنه لا يصرح بهذه المقارنة التي تخفي حسرة الذات علي تخلفها أمام الآخر. ويمكن أن نقف عند الثنائيات التالية: – الشمال/الجنوب: أني أمشي برؤيا أرض الشمال ذات المحاسن العديدة، والكمال. (ص 25).- هناك/هنا: ووجدت بها جسامة من رؤساء العرب مأمورين مثلي بالسفر لهاتيك البقاع. (ص 26).- المألوف/اللامألوف: إذ يقارن بين مرور الراكب في القطار من تحت الجبل والراكب فوق الدابة. يقول مررنا تحت جبل كذلك في كروسة الدخان ستة دقائق مع خفتها وسرعة سيرها، لأنها كانت تمر فيها كالبرق الخاطف. وأما الراكب فوق الدابة، لو دخل هذه الشعبة يسير تحت الجبل مدة ساعة ونصف… (ص 27).- الأمن/اللا أمن: يقول مشيراً إلي الأمن الذي لمسه بفرنسا والمفقود في بلده:”وقد أخبرني بعض الأصدقاء وقال: لو اتفق لبعض النسوة السفر في البر أو في النهر راكبة أو راجلة، تقطع المسافة من شرق البلاد إلي غربها من غير معارض ولا لص، وإن امتلأت حقايبها ذهبا وياقوتا، ولا يخطر بباب شخص تجريد الناس في الطريق، بل يعم الأمن والأمان. (ص 33).- غياب التسول بفرنسا مقابل وجوده ببلده. يقول: وفي مدة إقامتها ما رأينا إنسانا مد يده لأخذ الصدقة لغناء الفقراء عن السؤال. (ص 42)- الأنا / الآخر: يحضر الآخر انطلاقا من الضمير هم الذي يخفي تواجه وتصادم بين الأنا والآخر: وعمارهم… (ص 32) وقوله أمثالهم لهم. (ص 33) تحكمت في هذه الثنائيات مسألة مهمة وهي أن الرحالة ينبهر ببعض المظاهر الصناعية والتقنية والاجتماعية التي يعدمها ببلده فيجري المقارنة بين ما يراه لدي الآخر وبين الأنا. كما أن هذه الثنائيات كانت محكومة بهاجس التحديث الذي فرضته منجزات فرنسا، خصوصا بالنسبة لبعض المظاهر الجديدة التي يراها لأول مرة، من ذلك: – المتحف: ورأينا بهذه المدينة دارا يسمونها دار التصاوير ملآنة بالتصاوير المنحوتة من الرخام والمرمر الجيد وتصاوير أخري في حيطان تلك الدار بحسن الصناعة التي لا فرق بينها وبين الآدمي إلا بعدم الكلام. (ص 30).- الهاتف: وفي مدة سفرنا رأيت بجانب الطريق نحوا من ستة خيوط من سلك الحديد أرق من الخنصر ممدودة فوق الأرض في ارتفاع نحو ذراعين، وهي في بعض الجهات محمولة فوق أعمدة من خشب، سألت عنها فأخبرت أنها تلك الخيوط، طرفها بباريس والطرف الآخر بمدينة ليون. يبعثون بواسطتها الخبر من باريس إلي ليون، ومن ليون إلي باريس في مدة طرفة عين. (ص 31).- حديقة الحيوان: ومحل الوحوش، فإن الدولة أنعمت علينا بأن وجوهنا إلي موضع يقال له جاردان دي بلانط، وجدنا فيه من الوحوش كالفيل والأسد والسمر والكركدن والبرص والسبع ونحوها، ورأينا غير الوحوش مما لا أسميها. (ص 37-38).- المسرح: وجهونا إلي موضع اللعب وهي دار في غاية الاتساع والإتقان، فلما اجتمع الناس وشرعوا المزاحون في أمرهم […] ومن العجائب التي رأينا هناك شجرة خارجة من المحل شيئا بشيء حتي استوت علي ساقها، ثم أبدت أوراقها وأزهارها إلي أن خرج من أزهارها نساء كن مع بعض من حضر. فكشف الغيب أن الشجر، ليست حقيقة وإنما هي صورة فقط. (ص 38).- السكة الحديدية: لسفرنا منها غداة دخولنا قاصدين مدينة مونبلي في كروسة الدخان فوق طريق من حديد. وصفتها علي وجه الاختصار هو أنهم جعلوا شرائط من حديد من أول الطريق إلي آخرها في غاية التمكن بمسامر من جديد مع استوائها سيرا لكروسة فوق تلك الشرائط… (ص 27).كانت كل هذه العناصر جديدة علي الرحالة، حتي وإن كان قد مر علي احتلال الجزائر اثنان وعشرون سنة. يتعلق الأمر بصدمة اللقاء مع الجديد، فيحاول الرحالة انطلاقا من ذخيرته ولغته التقاط هذا الجديد، بنحت مقابلات لما يراه (كروسة الدخان / محل الجلوس / موضع اللعب… (وفي كثير من الأحيان يعترف بأن اللغة عاجزة عن نقل ما تراه العين يقول مثلا: وذلك من أعجب ما رأينا، وليس الخبر كالمعاينة. (ص 28) سبب هذا العجز هو جدة منجزات الآخر. فلا يكون أمامه سوي الانبهار وإبداء تعجبه ودهشته. مثل قوله: لم تر العيون مثلها ولا سمعت الآذان بشبهها. (ص 29/30). هذا الانبهار يخفي الاعتراف بالعجز الذي يبرز تأخر الذات أمام الآخر. ولم ندر كيف يصنعون… (ص 31).يبدل ابن صيام مجهودا كبيرا في الوصف انطلاقا من ذخيرته وغالبا ما يعجز عن إيجاد مقابل لما يراه. يقول: ولازال أسعده الله هو ووزراؤه حتي صعدوا محلا مرتفعا كالمنبر. (ص 144) يعبر هذا الجهد الذي يبدله الرحالة عن الوعي الذي تكون لديه وهو التحديث علي منوال فرنسا. إن العجز عن وصف منجزات الآخر والتقاطها عبر اللغة يعكس تخلف الذات أمام الآخر.كما يلجأ إلي البحث عن مقابل لما يراه للواقع المشاهد انطلاقا من ذاكرته الشعرية، لأن واقعه الحاضر لا يسعفه والذي يؤكد تخلف الذات، ويجد دمشق هي المرجع في الغالب. ولما رأيت تلك الأشجار والأنهار، وذلك الظل والأزهار، تذكرت قول البحتري حين وصف دمشق: أما دمشق فقد أبدت محاسنها وقد وفي لك مطربها بما وعداً (ص. 32). نستشف من الرحلة وجود موقفين متباينين: – موقف فرضه السياق، محاباة وشكر فرنسا ومسؤوليها وقد طغت عليه الذاتية في غالب الأحيان.- موقف العاجز المنبهر بالمنجز الفرنسي، وهو يجانب الموضوعية في غالب الأحيان والذي يخفي هاجس التحديث.ہ باحث في السرد من المغرب.الإحالات(1)- سليمان بن صيام، الرحلة الصيامية، طبع ببلاد الجزائر بمطبعة الدولة سنة 1852. ضمن كتاب: ثلاث رحلات جزائرية، تقديم وتحقيق خالد زيادة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1979.(2)- من عائلة غنية معروفة بولائها للفرنسيين، وكان مثقفا واسع الإطلاع، تاريخ ولادته غير معروف، توفي سنة 1896 م (ينظر هامش ص 61 من كتاب عبد الله ركيبي، تطور النثر الجزائري الحديث، الدار العربية للكتاب، ليبيا / تونس، 1978.(3)- المرجع السابق، ص. 65. 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية