غواية القارئ واكتشاف الواقع

حجم الخط
0

غواية القارئ واكتشاف الواقع

ابراهيم أولحـيانغواية القارئ واكتشاف الواقعكثيرة هي الروايات المغربية التي تمتح من الذات، حيث تجعلها نواة الحكي التي عليها تؤسس فضاءاتها وعوالمها. لكن لا بد من فهم هذه العلاقة بين الذاتي والتخييلي في اطار نوع من التكامل والتلاقح، بل وفي شكله المتداخل والمتشابك، مما يستعصي معه فصل الواحد عن الآخر والوقوف عند حدود كل منهما. فالحضور القوي للذات في النصوص الروائية المغربية جعلها تشتغل علي مجموعة من التخوم: السيري، الذاتي، التخييلي، الواقعي.. وهذا لا يعني أننا نريد أن نصنفها في جنس السيرة الذاتية، بل نعتبرها روايات تحضر فيها ذات المؤلف بشكل بارز، وهذه الذات هي المادة الأساسية التي اشتغل عليها السرد؛ ومن خصائص هذه الرواية: استعمال ضمير المتكلم، وتسمية الأماكن والمدن بأسمائها الحقيقية، وتوظيفها للفضاء المغربي الذي يعرفه القارئ أو سمع عنه، واستحضارها لأزمنة مغربية حيث الوقوف علي مجموعة من الأحداث التي تميز المغرب دون غيره من البلدان، بالاضافة الي ارتباط المؤلف الواقعي بعوالم الرواية ومسارات محكيها. أظن أن شعرية هذه الرواية المغربية تكمن في الدقة التي توظف بها كل هذه الخصائص روائيا، وهو ما جعلها تربح ثقة قارئ لا يريد التلصص علي حياة الكاتب لأنه علي وعي من أنها ليست سيرة ذاتية، بل يقرأها قراءة تأويلية تبحث في النص وفي جماليته، وهذا القارئ مدرك لما سمته ماركَريت ماكدونالدز بـ لغة التخييل ومنطقه، حيث لا يقوم بتلك المقارنات السخيفة بين أحداث النص والواقع، وانما يناقش كيفية تحويل عناصر من الواقع علي مستوي التخييل.هكذا، وبشكل تلقائي، فان رواية مصابيح مطفأة (1) لأحمد الكبيري تنتمي الي هذه الجمالية في السرد التي تحدثنا عنها، وأشرنا الي بعض عناصرها، ومن خلال تحليلنا لهذه الرواية، التي نعتبرها قد نجحت في تقديم عالمها الحكائي بلغة روائية، وبتقنية تشد القارئ وتسحره، فاننا سنحاول الاقتراب من متخيلها الحكائي ومن اللعبة السردية التي شغلتها لتقدم نصا تخييليا بامتياز.. مصابيح مطفأة وتعالقاتها النصية:ان النصوص الابداعية اليوم، هي تلك التي تتحاور مع نصوص أخري، لنفس شجرة الكتابة التي يريد المبدع أن ينتمي اليها، لذلك، وكما عبر عن ذلك خوان غويتيسولو: فواجب الكاتب الأساسي هو أن يعيد الي المجموعة الثقافية واللسنية التي ينتمي اليها لغة جديدة أكثر غني من تلك التي تلقاها منها ابان مباشرة عمله (2)، فتعالق النصوص الروائية فيما بينها يقويها، ويجعلها تبحث عن تحقيق التجاوز باضافة غصن آخر للشجرة التي منها يكون نسغها. بشكل من الأشكال فان رواية مصابيح مطفأة تنتمي الي النصوص الروائية التي تنفتح علي الروايات الناجحة، ولا نريدها هنا أن ندخل في تفاصيل الجانب التناصي للرواية، فقط نري أنه لا بد من الحديث، ولو في عجالة، علي علاقة هذه الرواية بروايتين سابقتين عليها في الزمن وهما: موسم الهجرة الي الشمال للطيب صالح، و البعيدون لبهاء الدين الطود، وهما يناقشان معا، مسألة الذات والآخر، وتراوح النصين بين اشكالية الانسان العربي مع ذاته وتقاليده ومتخيله، وبين اشكالية الآخر باعتباره متقدما وله تقاليده الخاصة، وتمزق العربي بين هذين المستويين من العيش، وحيرته في الرجوع الي الجذور أو في الارتماء في أحضان الغرب؛ اشكالية ناقشتها الروايتان بشكل مختلف. ومن خلال زوايا نظر متباينة، تضيء خصوصية كل واحدة منهما. أما مصابيح مطفأة فهي تستثمر بعض عناصر الروايتين، فبالنسبة لـ موسم الهجرة الي الشمال نلاحظ هذه العلاقة الحوارية بين بداية (استهلال) الروايتين: جاء في بداية رواية الطيب صالح ما يلي: عدت الي أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة، سبعة أعوام علي وجه التحديد، كنت خلالها أتعلم في أوربا، تعلمت الكثير، وغاب عني الكثير، لكن تلك قصة أخري، المهم أني عدت وبي شوق عظيم الي أهلي في تلك القرية الصغيرة عند مدخل النيل ، الرواية تبدأ بالعودة والرجوع الي الأهل، والسارد يؤكد علي شوقه الي أهله، ويرجئ الحديث عن تجربته في الغرب الي ما بعد، ويشير الي غيابه الطويل.. أما مصابيح مطفأة فتبدأ هكذا: علي السلامة قالها لي الشخص الذي كان جالسا الي جانبي في الطائرة فأحسست بقشعريرة تعبر جسدي، كما يعبر تيار هواء بارد غرفة دافئة أشرعت فجأة نوافذها للريح، ولم أعد أدري ان كنت متحمسا أو باردا لهذه العودة. عقلي أحسه خارج قيود وحدود جمجمتي. يحلق فوق رأسي كطائر بأجنحة لا حدود لها، مشتتا بين الزمن الذي عشته في الماضي، والزمن الذي سيأتي ان قدر لي أن أعيش بعض فصوله.. (ص 5) هناك أيضا عودة الي البلد، واشارة الي التجربة التي عاشها السارد في الغرب.. لكن في رواية أحمد الكبيري يتبين أن هناك اختراقا لبداية موسم الهجرة الي الشمال ، حيث يشير السارد الي احساسه الغامض اتجاه هذه العودة، يقول: ولم أعد أدري ان كنت متحمسا أو باردا لهذه العودة ثم يقول: مشتتا بين الزمن الذي عشته في الماضي والزمن الذي سيأتي ، ثم يضيف صوت يشدني للوراء وصوت يدفع بي بقوة نحو المجهول (ص 5) هذه البداية تفصح مباشرة عن التمزق الذي يعيشه السارد، وعلي ثقل التجربة الماضية ومرارتها، وما يوضح ذلك باليقين الجملة التالية: .. وكلمات ايزابيل القاسية لا زالت تطن برأسي كألم فظيع؛ لقد انتهي كل شيء بيننا.. اني أكرهك.. أكرهك.. ، وهكذا فبداية مصابيح مطفأة تخترق بداية موسم الهجرة الي الشمال وتنتهكها، بتحويلها، والاضافة اليها عناصر غير واردة فيها، وهذا سيتحكم أيضا في عوالم الرواية التي ستتجه اتجاها آخر مختلفا تماما، عن العوالم الحكائية لـ موسم الهجرة الي الشمال ، فالبداية لا توجه القارئ فقط، بل تتحكم أيضا في مسارات الحكي وتوجهها، وتؤطرها، وتحميها من الانزلاق.. وهنا لا بد أن نشير الي أن بداية مصابيح مطفأة نجحت فعلا، في كسب رهانات البداية في النص الروائي، والتي يجملها أندري دي لنجو في دراسته شعرية البدايات النصية (3) في أربعة:1 ـ الانتقال من الصمت الي الكلام وابتداء النص (الوظيفة التنميطية).2 ـ جلب اهتمام القارئ واغرائه (الوظيفة الاغرائية).3 ـ بناء العالم التخييلي من خلال الأخبار المتنوعة التي تمثل نقاط استدلال بالنسبة للقارئ الذي بدأ بالدخول الي أرض الرواية المجهولة (الوظيفة الاخبارية).4 ـ عملية اخراج الحكاية والدخول في الحدث، يمكن للنص أن يختار الشروع بحكاية هي بصدد الوقوع (الوظيفة الدرامية).وبذلك استطاعت الرواية أن تضعنا مباشرة عند النقطة التي سيتولد عنها الحكي، وأدخلتنا الي الأجواء العامة للأحداث، فالاخبار عن سبب رجوع السارد وهو علاقته المتشنجة مع ايزابيل/الغرب، وحمله معه لهذه المعاناة، أوصل القارئ الي الاحساس بالخيبة التي يحملها معه كفيروس قاتل، سيشوش علي رؤيته، وعلي علاقته بذاته وبالعالم..هكذا فالاحساس بالخيبة، والاحباط، واليأس بسبب ما وقع للسارد في أوروبا مع ايزابيل، جعله يعود الي بلده مرغما، وحلمه بالعودة الي هناك ما زال يسكنه، هذه الوقائع جعلتني أفكر في نهاية ادريس في رواية البعيدون لبهاء الدين الطود، فنهاية البعيدون هي بداية مصابيح مطفأة ، فهزيمة ادريس وطرده من انكلترا، وتفكيره في العودة الي ابنته التي تركها هناك، والتصدي له دون الوصول اليها كانت الصاعقة التي دمرته، ومزقت كيانه، ورمت به الي حافة الجنون؛ يقول السارد الذي اكتشف ادريس صدفة بمدينة القصر الكبير: فبالرغم من هزاله ومن مرض البرص الذي شوه ملامحه وانتشر في يديه ووجهه، عرفت أنه ادريس.. (ص 180)، وبعد وصف الحالة التي كان عليها ادريس، وتأثره بهذا اللقاء، توجه ادريس الي السارد قائلا: أنا أريد جواز سفري لأعود الي لندن: فقد تركت ابنتي هناك، أخذوها مني..اتفقنا؟ (ص 181). تنتهي رواية البعيدون بالخيبة، وبالفشل في استمرار علاقة صحية مع الغرب، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه الي تمزيق هذه الذات، وتشويش رؤيتها، وزرع التصدع في كيانها.. من هذه النهاية نجد أنفسنا في بداية مصابيح مطفأة هذه الرواية التي لا تحكي ما وقع للسارد، (المحجوب) الشخصية الرئيسية في النص، في أوروبا، ولا تبين حيثيات ذلك، وانما تتجه الي سرد الأحداث التي وقعت له في الماضي والتي ستقع له في بلده المغرب، وهنا هذه القوة في خرق أفق توقع القارئ، المسكون بنصوص سابقة، وتوقه الي اكتشاف هناك/الغرب من خلال علاقة المحجوب بايزابيل، الا أن الرواية تزج به في أعماق الواقع المغربي، وتدعوه الي اكتشافه مع السارد، وتتركه يلهث وراء توقعه ذاك..المحكي الاسترجاعي واعادة ترميم الذات:تبدأ رواية مصابيح مطفأة ، كما أشرنا الي ذلك، بعودة المحجوب الي بلده المغرب، وبالضبط تبدأ عند لحظة نزول الطائرة بمطار محمد الخامس، لحظة كانت حاسمة بالنسبة للمحجوب الذي بدأ يستعد لمواجهة عالم سبق له أن تخلص منه، واحساسه أنه سيعيش علي ايقاع زمن آخر؛ زمن سيذكره بالأحلام المجهضة، وبثبات هذا الواقع وجموده، حيث كل شي اما بقي كما كان، أو أصبح كارثيا.. تلك هي الرحلة التي سيقوم بها المحجوب عند عودته؛ سفر في المكان، وفي الذاكرة: التراوح بين الماضي والحاضر، والخوف من المستقبل.. رحلة ستبدأ من المطار الي الرباط، متجها الي أهله في وزان، ثم الشاون، وبعد ذلك الي تطوان حيث نهاية الرحلة..هذا العبور الذي يقوم به المحجوب من الرباط الي تطوان هو ذريعة لاكتشاف الواقع المغربي وتعريته، ومواجهة الذات ومحاورتها، وهو ما جعل السارد لا يلبث يفكر في أهله، مدفوعا اليهم بنوع من الحنين والشوق الجارفين، لأنه في حاجة الي الاحتماء بهم، واعادة تجديد انتمائه اليهم، وكل ذلك تحت تأثير ما وقع له مع ايزابيل، يقول السارد: فكرت في أمي وأهلي وأصحابي بوزان، فاختفي صوت ايزابيل، الزاعق وسبابها المقيت من رأسي، وأحسست بدفق من الشوق والحنين والحرية يجتاح سواحل أضلعي، كل شيء في هذا الكون أحسه الآن لا يساوي شيئا أمام هذا الانتشاء، وهذا الابتهاج، وهذه السعادة التي تغمرني (ص9). ان تواجد المحجوب في وطنه المغرب، أيقظ فيه أشياء كثيرة، وأحاسيس متناقضة: الحب والكراهية، السعادة والتعاسة، سعاد وايزابيل، الماضي والحاضر..، وذلك ما يؤكده السارد، بشكل مباشر حيث قال في الصفحة 60: اختلط علي الفرح والحزن، اليقظة والحلم، التيه والاستقرار، الخوف والاطمئنان، الدهشة، والثبات.. ، أحاسيس جارفة وضعت المحجوب عند تخوم الأشياء، حتي اختلط عليه كل شيء، وأصبح كائنا يُسائل البدهيات، ويري العالم بعيون مفزوعة، فمرة يحس بهذا الانتماء، ومرة أخري يشكك فيه منتقدا كل خطوة يخطوها في بلده، وهذا ما دفعه الي التصريح قائلا: أنا لا أعرف ان كنت مجنونا، يريد أن يعقل، أو عاقلا يريد أن يجن (ص 76)، فالتخريب الذي أصاب ذات المحجوب وكيانه من جراء الطرد الذي مني به من طرف ايزابيل، وانفصاله عن ابنه الذي تركه معها سبب له أعطابا كثيرة ومدمرة، جعلته يشتاق للأهل، ويحن للأماكن التي قضي بها طفولته ومراهقته، لأنها هي التي ستملأ ذاك الخواء الذي يعاني منه، يقول: التقائي بالعديد من المعارف والأصدقاء، ملأ خوائي، وأفاض الحبور علي محياي، وهلل بالبشر وجه سمائي ص 67)، فرغم تلك العين الناقدة للحياة والناس، وسخطه علي واقع بلده الذي لم يتغير منه شيء، بل زاد بؤسا منذ أن غادره، فانه ما زال يحب بلده وأهله وأصدقاءه، لأن هناك ما يجمعه بهم: الماضي المشترك..لعل التقنية المستعملة في رواية مصابيح مطفأة تبين ذلك، فاذا كانت الحكاية الاطار التي هي عودة المحجوب الي المغرب قادما من أوروبا بسبب نزاع مع زوجته ايزابيل، وطرد هذه الأخيرة له، فان سرد الأحداث وان كان خطيا، قد تخللته محكيات صغيرة، ترجعنا في الغالب الأعم، الي ماضي المحجوب، وهي محكيات لا تظهر الا بوجود شخصية جديدة في مسار الحكي، وهو ما يغني مسار الحكاية ككل، فهي أجزاء لا معني لها الا داخل الحكاية الاطار، انها استرجاعات يعمد اليها السارد لأنه في حاجة الي اعادة بناء علاقة ما، ولتوضيح سبب بعض الملاقي التي يتواجد عندها المحجوب، وهذه الاسترجاعات يسميها جرار جينيت بالاسترجاعات الخارجية لأن وظيفتها الوحيدة هي اكمال الحكاية الأولي عن طريق تنوير القارئ بخصوص هذه السابقة ، أو تلك (4)، انها محكيات صغيرة تتوالد وتتناسل عبر ذاكرة المحجوب، يحتمي بها من قساوة الواقع، وضغط الحاضر، وأيضا من أجل اعادة ربط الأشياء والتحكم في العلاقات.. وهكذا نلفي قصة نانسي (ص14)، وقصة الطيب (ص 39). وقصة سعاد (ص 80)، وقصة العربي ولد المصمودي (ص 110)، وقصة ادريس (ص 121).. الخ، محكيات تتوزع علي طول الحكاية الاطار، حيث تم تضمينها في النسق الحكائي العام بفنية ومهارة، مما جعلها تساعد القارئ علي ترميم ذلك التشظي المنبعث من حكاية المحجوب، هذا الأخير الذي يلوذ بماضيه ليرمم أعطابه الداخلية، باحثا عن انسجام ما، داخل دائرة التمزق والضياع..حيلة الرواية وغواية القارئ:كل رواية تريد أن تنجح في مهمتها، التي هي التأثير علي القارئ، ومشاركته عالمها، تحتاج الي عنصر أساسي وهو الاقناع؛ اقناع القارئ من داخل منطق التخييل بصدق الأحاسيس والتجارب والأحداث، يقول ماريوفاغاس يوصا: ان سلطة الاقناع للرواية (..) تقوم علي تقليص المسافة بين التخييل والواقع، ومحو هذا الحد، وجعل القارئ يعيش هذا الوهم كما لو أنه الحقيقة التي لا تتبدل، والوهم بمثابة الثبات التام، والوصف الأقوي للواقع (5)، الاقتراب من الواقع تخييليا، أي خلق واقع خاص بالتخييل وتوفير كل مقومات الحياة.. ان مصابيح مطفأة لأحمد الكبيري استطاعت أن تخلق هذا الوهم، وان تحافظ عليه عبر كل محطات الرواية، وقد وفرت لها الشروط لذلك من بداية (استهلال) وفضاء وشخصيات، ولغة روائية.. الخ بالاضافة الي عنصر أساسي، أعتقد أن غيابه يترك النص الروائي بلا قيمة، وهو سر الرواية ومفتاح عالمها المثير، وهو الذي قال عنه تودوروف في سياق حديثه عن أعمال هنري جيمس ما يلي: ان سر الحكي عند جيمس هو، بالضبط، وجود سر أساسي لشيء ما غير مسمي، لقوة ما غائبة، هي التي تحرك آلة السرد (6)، لكن ما هي القوة الغائبة/الحاضرة في نص مصابيح مطفأة ؟ أظن أنها الحكاية الغائبة/الحاضرة في نسيج الرواية؛ قصة المحجوب مع ايزابيل، وجعلها أساسية في الرواية، وعبرها تم اقناع القارئ بتلك الأحاسيس المسكون بها المحجوب، وكل ذلك الألم الذي منه يري العالم، ويحكم علي أشيائه وناسه. ان ايزابيل هي العنصر الخفي الذي يحرك الأحداث ويعطيها منطقا ما. فالاقناع مرتبط ارتباطا شديدا بالعنصر الخفي الذي يقول عنه فارغاس يوصا ما يلي: ان العنصر الخفي أو المحكي المتواري لا يمكنه أن يكون مجانيا ومتعسفا، فينبغي لصمت السارد احتواء دلالته، وممارسة تأثير واضح علي القسم المعلن من القصة، وأن يتم الاحساس بهذا الغياب فيثير فضول وانتظار وخيال القارئ (7). ان ايزابيل هي الطعم الذي وضعه الروائي للقارئ، وقد ابتلعه هذا الأخير فعلا، مما جعله يلهث وراء هذه القصة التي لن يعرف عنها أي شيء، بل هي لحمة النص ومفاصله، لذلك نجد أن بداية الرواية تتأسس علي هذه القصة باعتبارها أساسية، لكنها لن تروي، فقط تعود في السرد لتقوية الاحساس بالخيبة لدي المحجوب، ولتشويق القارئ، ونعطي بعض الأمثلة علي التواجد المفصلي لايزابيل في الرواية: وكلمات ايزابيل القاسية لا زالت تطن برأسي كألم فظيع: لقد انتهي كل شيء بيننا .. انني أكرهك.. انني أكرهك (ص5). آه كم كانت غلطة فظيعة يوم غادرت المغرب صباح ذلك اليوم الخريفي في أواخر الثمانينيات مع ايزابيل (ص 10)، فطلع لي وجه ايزابيل بسخطه وتذمره ونقمته ولعناته (ص 12)، سأشوش علي صورة ايزابيل الناصعة كشعاع في خيالي، بصورة هذه الفتاة الرائعة (ص 13) لكن صوت ايزابيل الثائرة، كما لم أعرفه من قبل، ما تزال جاثمة علي عقلي، بكلماتها القاسية (ص 31)، هذا التذكر المرير، أنساني قليلا، صهد الحافلة المشؤومة، التي جئت فيها من الرباط، وكذلك أزاح وجه ايزابيل الثائر من تفكيري (ص58)، ثم بعد ذلك، هاتفت ايزابيل، ليس عندي ما أقوله لها، لكن طغيان حضورها في تفكيري وقلبي دفعا بي للاتصال بها (ص 68)، حلمك أنت ها قد رأيته ورويته، أما كابوسي أنا مع ايزابيل فلم يبدأ بعد، متي نلتقي ثانية ونعاود الحلم جميعا ذلك ما لا أضمنه (ص 168).تبدأ الرواية بايزابيل حيث نسمعها عبر المحجوب تصرخ اني أكرهك .. اني أكرهك (ص5) وتنتهي بنفس الشخصية، من خلال وصف المحجوب لعلاقته بها باعتبارها كابوسا لا بد أن يستيقظ منه، وهو توق الي الرجوع الي حلمه الجميل هناك في أوروبا، أما ما وقع له في بلده المغرب فهو مجرد سحابة عابرة، لا يريده أن يستمر، فما بين العودة (بداية الرواية) والحلم بعودة مضادة (نهاية الرواية)، نعيش داخل أزقة ومتاهات الرواية، تحت مصابيح مطفأة تشعلها ذاكرة المحجوب وأحلامه، لتضيء كثيرا من عتمات الزمن المغربي، وتضعه أمام القارئ باعتباره ورشا لا بد من معاودة التفكير فيه، وفتحه علي أفق المساءلة، والمساهمة في اضاءة مصابيحنا المطفأة جميعا..*قدمت هذه الورقة يوم 02 حزيران (يونيو) 2006 بمناسبة عيد الكتاب الذي نظمه اتحاد كتاب المغرب، فرع تطوان.الهوامش:1 ـ أحمد الكبيري: مصابيح مطفأة مطبعة النجاح الجديدة، ط1، 2004.2 ـ خوان غويتيسولو: شجرة الأدب ترجمة ابراهيم أولحيان، مجلة نزوي، عدد 28، تشرين الاول (أكتوبر) 2001.3 ـ أندري دي لنجو: في انشائية الفواتح النصية ، مجلة نوافذ كانون الاول (ديسمبر) 1999.4 ـ جيرار جينيت: خطاب الحكاية، ترجمة محمد معتصم وآخرون، مطبعة النجاح الجديدة، 1996، ص 61.5 ـ ماريو فارغاس يوصا: رسائل الي شاعر ناشئ/روائي ناشئ ، ترجمة أحمد المديني، منشورات الزمن ط 1، 2002، الدار البيضاء ص 77.6 ـ تيزفتان تودوروف: شعرية النثر (بالفرنسية) سوي، 1978، ص 83.7 ـ ماريو فارغاس يوصا: مرجع مذكور ص 140.0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية