نفثة من أجل العراق… والأمة

حجم الخط
0

نفثة من أجل العراق… والأمة

د. سعيد الشهابينفثة من أجل العراق… والأمة احتاج لإمعان النظر لكي أكتشف ان ما تنقله الصور انما هو أشلاء بشرية متناثرة تغطي أرض بغداد، فحتي الأرمد أصبح قادرا علي ان يدرك شكل الصور التي تبثها وسائل الاعلام من عاصمة العراق، وانها لا يمكن الا ان تكون ارضا حمراء، او عينا باكية، تحمل وسائل الاعلام أحيانا صورا لرجال هم قادة العراق، سنة وشيعة وأكرادا، واقفين معا، والوجوم يخيم علي وجوه القوم. يعبر الواحد منهم بعد الآخر عن ضرورة وقف النزيف و منع الحرب الطائفية . أصادقون هم في ما يقولون؟ أم ان لغة الدبلوماسية أصبحت لونا من النفاق، وان مشاهد العناق والمصافحة انما تعني اتفاق اصحابها علي ان يقتل بعضهم بعضا، وان مصلحة كل طرف لا تتحقق الا بالقضاء علي الطرف الآخر؟ أهو صراع علي الحياة ام الموت؟ وهل يعتقد اي طرف يشارك في لعبة الموت انه سيهنأ بالارض المحروقة مستقبلا؟ تقتضي غريزة الفضول لدي الانسان معرفة ما يدور في اذهان اولئك القادة، وكل منهم يمثل فريقا او طائفة او حزبا، وهم يشاهدون ما يجري لأهلهم من ذبح علي الهوية، في طاحونة الموت التي لم تتوقف منذ ان وطأت أقدام الامريكيين تراب هذا البلد. تفجير في مدينة الصدر يحصد ارواح أكثر من مائتين. لم تعد الأرقام تعني شيئا. فهل ثمة فرق بين قتل عشرة او 53 او 165 او 220؟ اذا تحول الانسان الي رقم غابت شخصيته الانسانية، ولم يعد ذا قيمة لدي أحد. الذين يصنعون أدوات الموت اصبحوا أكثر تفننا في حرفتهم، فالسلاح المتطور هو الذي يطلق عشرات الطلقات في الدقيقة، ليزهق عددا أكبر من أرواح الناس. لم يعد استعمال السلاح محصورا في ساحات الوغي، بل اصبح كل شبر في ارض العراق ميدانا للقتل. موقف الباصات الذي يقصده المسافرون، السوق الشعبية التي يؤمها الفقراء لشراء مستلزمات حياتهم، المدرسة التي يرتادها الاطفال علي امل الاستعداد للمستقبل، وأي مستقبل؟ مركز الشرطة الذي يقصده المواطنون للانخراط في سلك الخدمة المدنية. حفل الزواج ومجالس الفاتحة، اصبحت هدفا مشروعا للانتحاريين. الوزارات والدوائر الحكومية أصبحت، هي الأخري، مقاصل تزهق فيها الأرواح. أهذه هي الانسانية؟ ام الدين؟ ام السياسة؟ من حول أرض العراق الي أرض محروقة؟ من الذي استطاع ان يهزم الانسانية في نفوس أهله واستبدل بها روح الشيطان؟ ومن الذي يصب الزيت يوميا علي نار تلتهم الاخضر واليابس، ولن يتوقف نهمها عند حدود ذلك البلد المعذب، لان الفتنة تحصد الجميع بدون استثناء؟ أتري لو أنفقت الاموال التي تغذي آلة الموت علي محاولات التقريب، وجمع الإخوة ـ الأعداء، هل كان الامر سيؤول الي ما آل اليه؟ هل يعتقد مروجو سياسات الموت وأساليبه وثقافته انهم سيكونون بمنأي عنه؟ بالامس القريب رأي العالم ما حدث في الجزائر، من ذبح بالجملة، أتي علي ارواح اكثر من 150 الفا. ما أكثر القري التي مر عليها القتلة ليلا، فأصبحت خالية من أهلها. فمن أين جاءت ثقافة الذبح الي هذه الامة؟ مشاهد الدم المسفوح يوميا في أزقة الحارات الضيقة او علي اعتاب المنازل كانت تدفع المشاهدين للتقيؤ، اذ لم تعد لحياة الانسان قيمة لدي من يتلذذون بالقتل. نقرأ في اخبار الشعوب الاخري، ونصاب بالتقزز عندما تظهر بين الحين والآخر قصص لأشخاص ساديين يستمتعون بقتل البشر، ويتباهي بعضهم بقتل عشرين انسانا بسبب نزوة لديه. كنا نعتقد ان هذا النوع من البشر حالة شاذة حتي رأينا ما حدث في الجزائر من قبل وما يحدث في العراق اليوم. اتضح حدود الإدراك البشري آنذاك، واتضح ان غريزة الشر مختزنة في الكثير من النفوس، لا تحتاج لظهورها سوي تصاعد ألحان تتناغم معها، فتغلب كفة الشر علي الخير. الكل يقول ان العراق لم يعش حالة الاحتراب الطائفي من قبل، وان شعبه متداخل في لحمته، وان ثلاثين بالمائة من الزيجات مختلطة ما بين مذاهبه واعراقه، فماذا يعني ما نراه من إمعان في إراقة الدماء، وتفنن في استعمال أدوات الموت؟ صحيح ان بعض محترفي القتل جاؤوا من الخارج، ولكن أليس بينهم عراقيون؟ قبل اثني عشر عاما دخلت الحرب الاهلية في رواندا أكثر فصولها دموية، في اثر مقتل رئيسها بسقوط طائرته. وعلي مدي بضعة شهور، راح ما يقرب من مليون انسان من الطرفين: الهوتو الذين يشكلون الاغلبية والتوتسي الذين كانوا قد استوطنوا رواندا زاحفين اليها من الشمال في القرون السابقة. المستعمرون أدخلوا ثقافة التمييز بين اهل رواندا، ونشروا السلاح فيهم، وتحالفوا مع التوتسي باعتبارهم ملاك الارض وطبقة متميزة يمكن وصفها بالاستقراطية. سالت الدماء بدون رحمة بحضور قوات من الامم المتحدة، وفي حضور اعلامي واسع. وقف العالم يتفرج علي المذبحة، وكأنه يشاهد فيلم رعب مثير. ولم تتوقف الحرب الاهلية الا بعد ان كلت سيوف الطرفين وسواعدهم. وقبيل ذلك وقف العالم يتفرج علي المذابح التي ارتكبها الصرب في البوسنة والهرسك. حدث ذلك بعد تصدع ذلك الاتحاد في اثر رحيل جوزيف تيتو في 1980، الرجل القوي الذي حكم الاتحاد اليوغسلافي بقبضة حديدية. مع وصول سلوبودان ميلوسوفيتش الي الحكم في نهاية الثمانينات، اصبح المسرح معدا للحرب الأهلية بين القوميات الثلاث، الصرب والكروات والبوسنيين المسلمين. التي لم تتوقف بعد ثلاثة اعوام الا بعد ان حصدت ارواح مائتي ألف من المسلمين، واكثر من مليوني لاجيء منهم. لم تكن لدي المجموعة الدولية، لأسباب سياسية وعقيدية، شجاعة اتخاذ الموقف التاريخي لوقف حمامات الدم الا بعد ان بلغ السيل الزبي. وتكرر الامر لاحقا في اقليم كوسوفو بعد ان ايقن القادة الصربيون انهم قادرون علي التصرف كما يشاؤون بدون خشية من أحد. ما أرخص دماء الآدميين في عالم يتسابق أقوياؤه علي نشر أدوات الموت بلا وازع من انسانية او صحوة من ضمير. وهل من قبيل الصدفة ان يكون ثمة ترابط بين التدخلات الغربية في البلدان وصعود النزعات العرقية والدينية والمذهبية في البلدان التي تقع في قبضتهم؟ العراق، كما أسلفنا، لم يكن بلدا طائفيا، ولم يعرف أهله بنزعاتهم الدينية المتطرفة، فكيف يمكن تفسير ما يجري الآن، وهل تغير أهل العراق في قناعاتهم وفكرهم ونفسياتهم؟ هل مسخت الرأفة من قلوبهم وحلت القسوة ونزوة القتل مكانها؟ نتحدث الي كبارهم، من كافة الفئات العرقية والمذهبية، فلا نشعر بشيء من ذلك، بل هم، كما عهدناهم، ذوو دين وانسانية وعقل. فمن الذي يمارس القتل باسمهم؟ وهل ثمة أمل بقدرتهم علي استعادة الامور؟ ام ان مصير العراق سائر نحو المزيد من القتل والتفكك والتمزق؟ بالامس أعرب كوفي عنان، عن يأسه من الوضع العراقي، معتبرا ان الاحتراب الطائفي الجاري يساوي في نظره، الحرب الاهلية، فماذا فعل لوقفها؟ لماذا لا يدعو لاجتماع دولي طاريء لاتخاذ ما يلزم لوقف النزيف الدموي الهائل الذي يهدد المنطقة كلها ولن تقتصر آثاره علي حدود العراق؟ هل نعيش آخر الزمان؟ البعض يصف، لأسبابه وعلي اساس منطقه الايديولوجي الخاص، أيامنا بنهاية التاريخ، وبعض المسلمين السنة يتحدث عن اقتراب علامات الساعة وقيام القيامة، ويتحدث مسلمون شيعة عن قرب ظهور الامام المهدي (عليه السلام) وان ما يجري مطابق لما وصفته الروايات حول الزمن الذي يظهر فيه، ومنها قول احد ائمتهم لا يكون هذا الامر الذي تنتظرونه (ظهور المهدي) حتي يبرأ بعضكم من بعض ويلعن بعضكم بعضا… وحتي يشهد بعضكم بالكفر علي بعض . وسواء انطبقت تلك الروايات ام لم تنطبق، فالوضع الذي تعيشه امة العرب والمسلمين لا تحسد عليه، ولا يمكن ان يزداد سوءا عما يمر به. فالعراق، البلد العربي الاسلامي الكبير، يتعرض للتمزيق امام أعين حكامه وشعبه، وحكام العالم وشعوبه. انه تمزيق خطير لا يقتصر علي حدوده الجغرافية، بل يتواصل في داخل نفوس ابنائه، ويتصل بعقوله وأدمغته. فهو مستهدف في مقومات وجوده وقوته. ذلك البلد الذي استطاع احتواء المتناقضات الفكرية والدينية لم يعد قادرا علي الاستمرار في ذلك الطريق الذي وفر له مقومات قوته. فهو بلد الشيعة والسنة، العرب والأكراد والتركمان والفرس، المسلمين والمسيحيين واليهود والصابئة واليزيديين. لكنه وهو بلد الحضارات التي سبقت الاسلام، وعاصمة الخلافة ومنطلق الفتوحات، مهدد اليوم بالفناء كبلد وهوية وكيان سياسي وقوة بشرية واقتصادية وعسكرية ضاربة. انه أرض الرافدين في منطقة شحت فيها المياه، جمع بين جمال الطبيعة الجبلية في شماله، ومياه الاهوار في جنوبه، وصحرائه النائمة علي بحيرات عملاقة من النفط تجعله ثاني أكبر دولة من حيث الاحتياطات النفطية. بغداد نفسها تضم رفات عدد من أئمة الشيعة: الامامين موسي بن جعفر الكاظم، ومحمد بن علي الجواد، وأئمة كبار من السنة، في مقدمتهم صاحب مدرسة الرأي، أبو حنيفة النعمان، وامام الصوفية، السيد أحمد الجيلاني. الامام موسي بن جعفر قضي في سجن المأمون العباسي اربعة عشر عاما بسبب رمزيته الدينية والسياسية ورفضه الخضوع للظلم، بينما استشهد الامام أبوحنيفة النعمان قبله، تحت التعذيب بسجن أبي جعفر المنصور العباسي. لم يكن الخلاف بين اقطاب الدين والعلم آنذاك يؤدي الي القطيعة في ما بينهم، بل كان تعايشهم ثقافة لم تفارق أهل العراق قط. فما بالهم اليوم يكفر بعضهم بعضا، ويقتل أحدهم أخاه علي الهوية والانتماء؟ نبحث عن اسباب تلك المفاصلة بين اهل الدين الواحد فلا نري لها أساسا في الدين او التراث او التاريخ، بل نراها متصلة بعوامل خارجة عن ارادة اهل هذا المصر، وبرغم مشاعرهم وتاريخهم ودينهم. ومهما تواصل البحث عن اسباب هذا التمزق الداخلي فلن يكون بالامكان اكتشاف شيء سوي أصابع معادية ليس للعراق فحسب بل للامة كلها. مطلوب ان يتحول هذا البلد عبرة لغيره، وعنوانا للفتنة الطائفية العمياء، فتسلب ارادته ويحرم فرصة النهوض لأداء الدور السياسي والثقافي المتوقع منه. أعداء العراق كثيرون، والاحتلال واحد أهمهم. ومعه الكيان الصهيوني، والعناصر المتطرفة التي قادها التعصب والجهل الي احضان الاعداء، فأصبحت تنفذ مخططاتهم بوعي او بدونه. فلا مجال لاكتشاف دوافع القتل علي الهوية وتصاعد الفتنة الطائفية الا في ملفات الجهات التي تخشي من قيام عراق موحد، متآلف بين اجناسه. لا تستطيع هذه الجهات ان تري عراقا ديمقراطيا موحدا، يبني نفسه بنفسه، ويتصدر العمل المشترك، ويهتم بالقضايا الاقليمية والدولية بدون خشية من أحد. ان عراقا كهذا غير مرغوب فيه، مهما قدم الساسة من ضمانات لقوات الاحتلال، ومهما حاولوا مسايرتهم. لقد خلق هؤلاء المحتلون ظروفا جعلت الاطراف جميعا تشعر بان أمنها لا يتحقق الا بوجود تلك القوات، وان انسحابها المبكر سيكون خطرا أكبر علي العلاقات في ما بين الطوائف والاعراق.العراق اليوم مسرح لاغتيال المشروع الاسلامي برمته، واعادة اوضاع الامة الي حالة الاستعباد والتبعية والتخلف، فأين العقلاء والعلماء والنشطاء لوقف ذلك؟ ہ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية