‘لغة العنف’ تهيمن على حياة المصريين

حجم الخط
0

ما حدث قبل أيام في أسوان بصعيد مصر، سواء أطلقنا عليه عنوان ‘احتراب أهلي’، ‘صراع قبلي’ أو حتى ‘فتنة دموية’، إلا أنه لا يمكن التعاطي معه باستهانة، باعتباره حادثا عابرا، ويجب التوقف عنده بروية وجدية، بعيدا عن التسييس المغرض، والاتهامات المتبادلة التي يذهب إليها طرفا الصراع على السلطة في مصر، من أنصار الجنرال السيسي أو جماعة الإخوان.
وبصرف النظر عن صحة الروايات العديدة المتضاربة حول أسباب الواقعة، والمسؤول عن إشعال فتيلها، فثمة إشارات خطر تلوح وراء هذه الحوادث المتكررة، بطول وعرض مصر مؤخرا، التي عنوانها الصحيح والعريض ‘تكريس لغة العنف’، فضلا عن ‘التقصير الأمني وغياب مؤسسات الدولة’، و’استحضار منطق القوة والثأر القبليين’.
ورغم أن الكثير قد لا يستسيغ الربط بين هذه الواقعة الأخيرة، ووقائع أخرى تحولت لظواهر مجتمعية، من قبيل التحرش الجنسي، إلا أن في تصوري الخلفية واحدة والباعث واحد، حيث يعكسان حالة إحباط عام وغضب واسع كامن، سرعان ما تبحث عن متنفس في صورة عنف، وقهر مجتمــــعي، مــــواز لسلوك السلطة الاستبدادية التي تنتهك القانون والدستور وحقوق الإنسان، يمارسه كُل على الآخر، خاصة من الأقوى للأضـــعف بشكل هرمي، وهو ما ينذر بإضعاف المجتمع أكثر وتفككه، حال غرقه في دوامة العنف المتعدد الأبعاد والمختلف في أشكاله وأنماطه، خاصة مع دور بارز لكل من الإعلام الموجه، والممارسات القمعية للسلطة، في تغذية روح الكراهية والنزعات الانتقامية بين المصريين.
وكل الحوادث التي تحدث في ذات الوقت، تكسر صورا نمطية عن طبيعة المصريين المتسامحة أو المتدينة، التي يتم الحديث عنها كثوابت راسخة، دون مراعاة المتغيرات التي تجري، وحجم الضغوط والاحباطات التي تترك أثرها على السلوك الفردي والجمعي، وتغير من طبيعة المجتمع، وما اُستقر عليه لسنوات.
ولعل صراع عائلتين في أسوان لأكثر من ثلاثة أيام وسقوط عشرات الضحايا، بين قتلى وجرحى، فضلا عن حرق المنازل والسيارات، دون تدخل جدي من السلطة، خاصة جهاز الأمن ومناشدة المحافظ في الأخير، عبر وسائل الإعلام، وليس القنوات الرسمية، قوات الجيش، التي ليست مهمتها الأمن الداخلي، بالتدخل لاحتواء الموقف، يثبت أننا بلا دولة ولا قانون ولا مؤسسات، وأننا عدنا لشريعة الغاب والاقتتال الأهلي لأقل وأتفه سبب، والاحتكام أيضا لمنطق القوة القاهرة، ممثلة في الجيش لإنهاء المشكلة.
وهو ما يكسر أسطورة أخرى تم بناؤها منذ الـ30 من حزيران/يونيو، حول القائد القوي ‘الضرورة’ الذي لا بديل عنه، حيث أنه القادر وحده على حماية مصر، واستعادة الهدوء، وسط مغازلة البسطاء بشعارات خادعة من قبيل ‘إن مصر أم الدنيا وهتبقى قد الدنيا’، وحديث الجنرال السيسي الحاكم الفعلي للبلاد على مدى شهور طويلة، ووزير داخليته محمد إبراهيم إنهما ورجالهما يحاربون الإرهاب والجريمة، ويحافظون على دولة المؤسسات والقانون، ويحدثون تقدما ملحوظا، ويستعيدون الاستقرار، وأن كل شيء على ما يرام، وفي تحسن مستمر، بعد أن جرى التخلص من جماعة كانت تذهب بمصر للفوضى، وقسمت الشعب، وأن المشكلة فقط فيها، دون غيرها’.
في حين أن الأوضاع تسوء أكثر على كافة الصعد، خاصة أمنيا، وسط تلهي الجهاز الأمني عن مهامه الرئيسة، والتركيز على الأمن السياسي فحسب، أو بالأحرى حماية السلطة الفاســـدة المستبدة التابعة، وملاحقة المعارضين وقمعهم، وسط انقسام مجتمعي حقيقي، ويأس شديد من إمكانية تحسن الأوضاع، مع هيمنة رجال الديكتاتور مبارك على المشهد مــــن جديد، بدعم من معارضة متواطئة فاسدة، وخســــارة قطاعات واسعة رهاناتها على التغيير، وفقدان الثقة في كل المؤسسات، بما فيها القضاء، وانهيار رمزية الدولة بالنسبة لغالبية المصريين، بعد غيابها الفعلي في كل شؤون الحياة، فيما عدا القمع والتنكيل والاستغلال.
وفي فلسفة نشأة الدولة، فإن الإنسان يتنازل عن بعض من حريته لمجموعة منتخبة تقوم على رعاية شؤونه، وتضمن عدالة توزيع الثروة وتحقيق الأمن. وهذه التبادلية هي جوهر العقد الاجتماعي الذي يجسده الدستور، وتعمل على تنظيمه القوانين، وتقوم بتنفيذه المؤسسات.
لكن طالما هذه المعادلة غير موجودة، فنحن لم نصل بعد لمرحلة الدولة، ولا نعرف شيئا عن الدستور والقانون والمؤسسات، وما زلنا نعيش مرحلة ما قبل الدولة أو مرحلة القبيلة، واستخدام’القوة لأخذ الحق، أو حتى الجور على حقوق الآخرين، واستغلالهم، وقهر القوي للأضعف على كافة المستويات، وهو ما يجري تكريسه في الممارسة الفعلية من جانب كل الأطراف، بصرف النظر عن الشعارات المرفوعة.
وما يجري في حياتنا اليومية يؤكد هذه الفرضية، وأخرها ما حصل في أسوان، من لجوء كل عائلة للقصاص من الأخرى، وتكدس الأسلحة في البيوت بغرض الحماية في غياب المؤسسة الأمنية، ثم حين تدخلت الحكومة متأخرة، وعلى رأسها رئيس الوزراء ووزيري الداخلية والحكم المحلي ذي الخلفية الأمنية، فكان من أجل حل عرفي، وليس قانونيا، واستجداء تسوية بوساطة مشايخ القبائل، على نحو يهدر وجود الدولة ورمزيتها ويجعل الحلول تأتي من خارج المؤسسات وبعيدا عن القانون، بما يمثله من قيمة في حياة الدول المتحضرة، وأيضا كأداة ردع عام، وعقاب للجناة وإنصاف للمجني عليهم.
ومن ثم فالحديث عن الحفاظ على مؤسسات الدولة، أو اختيار قائد عسكري قوي لحماية هذه الثوابت وإلا ذهبنا للضياع، أكذوبة كبرى، وإحدى الأوهام في حياتنا، حيث نحتاج في مصر أولا إلى بناء مؤسسات، وتكريس مفهوم الدولة وسيادة القانون، وقدسية الدستور، ثم بعد ذلك نتحدث عن الحفاظ عليها، وفي البداية لابد أن نتخلص من وهم أن الدولة يمكن أن تنهض على شخص، أو أن مستقبل أمة يمكن أن يكون معلقا بإرادة فرد أو مؤسسة تحتكر أدوات القوة المسلحة.
وقبل هذا وبعده، لابد من إشعار الناس أن ثمة وطنا ينتمون له، يوفر لهم الأمن والأمان والعدل والكفاية، وأن ثمة أملا في الغد، وليس إحباطا ويأسا، وهذا لن يأتي إلا بعملية ديمقراطية سليمة، وليست شكلية أو مزيفة كما اعتدنا، يتشارك فيها الجميع بلا إقصاء أو تهميش، ووفق مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين، وعلى أسس مدنية لا عسكرية ولا دينية، حتى نتمكن من بناء مؤسسات الدولة ذات الكفاءة والمصداقية، مع آليات ديمقراطية تسمح أيضا بالرقابة، وإعمال القانون وإعلاء مبادئ حقوق الإنسان، وتصحيح المسار باستمرار، وحساب المخطئ أو المقصر، بالترافق مع تحرير الإعلام من السيطرة السلطوية وطابعه الدعائي المنحاز، وبمشروع وطني له بعده الثقافي والتنموي، يقضي على جذور التخلف العميقة من فقر وجهل ومرض وثقافة تقليدية معوقة للتغيير ومكرسة للرجعية، ومرجعيات ماضوية تحفل بميراث العنف والروح الثأرية والنزعات القبلية والجهوية والانتماءات الضيقة.

‘ كاتب صحافي مصري
Email:[email protected]

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية