هتلر في مدرسة الواقع المصري

يوجد ثمة إجماعٍ على كون تجربة الفاشية، خاصةً في نموذجها الألماني من أبشع ما عرفت البشرية في تاريخها الحديث، بل في أي تاريخ، وذلك على اختلاف توجهاتهم الفكرية وانحيازاتهم الاجتماعية – السياسية، ولعل ذلك هو ما يفسر كون ‘الفاشستية’ و’النازية’ أصبحتا مرادفتين للشر المحض والمطلق، وسبةً يتجنب أي شخصٍ أو فريقٍ أن يوصف بها ولا يقبلها على نفسه ويدفعها عن نفسه بكل ما أوتي من الحجج، هذا بالطبع إذا فهم معنى الكلمة في الأساس. عن نفسي أرى أفظع ما فيها العنصرية والقسوة الممنهجة التي لا تقيم أي وزنٍ أو قيمة للحياة البشرية (وهو ما تمثله دولة الكيان الصهيوني العنصري الآن خير تمثيل) بيد أن ذلك لا ينفي أنها كأي تجربةٍ، تركت ذلك الأثر، وإن كان مدمراً! حفلت بالعديد من الدروس وخلفت لنا الكثير من العبر، ليس فقط لأنها ضربت النموذج والمثال الأكمل لتحطيم الآخر والذات، الذي توصل إليه الشمولية المبنية على الفكر الأحادي المتعصب الأعمى الذي يخلق أسطورةً تطوف حول البطل – المخلص و’الوطن المفدى’ فتقصي الآخر بصورة منهجية لا ترى فيه سوى عدو أو متآمرٍ جبل من طينةٍ أدنى وأخس (والكلام لك يا جارة…)، ولا لأنها أتحفت التاريخ السياسي وحوليات علم نفس الإجرام بزمرة من المرضى والمختلين المجرمين الجماعيين، يندر أن تتجمع في زمنٍ واحد في مكانٍ واحد، اللهم إلا في حالة الكيان الصهيوني مرةً أخرى وأخيه النظام السوري، ولكن بما خلفوه أيضاً من ثروةٍ مدهشة لأي باحثٍ أو مهتم من الوثائق التي تفتح نافذةً على عقولهم وعالمهم الفريد في إجرامه، والأهم من ذلك تسليط الضوء على آليات بناء نظامهم المسخ، بالإضافة إلى مقولاتهم التي أضحت أنصع تعبيرٍ على ذهنيتهم الملتوية المريضة ومنظومتهم القيمية المنحطة المدمرة.. وما دمنا قد تطرقنا أو وصلنا إلى تلك فلعل أكثر هؤلاء المجرمين تصريحاً وقولاً بمراحل كان غوبلز، كيف لا وهو وزير دعاية ‘الرايخ’، وأزعم أن ما من قارئٍ لم يسمع بمقولته الشهيرة:’إذا تحدثت بكذبةٍ كبيرة بما يكفي وظللت ترددها فسوف يصدقك الناس في النهاية’.. وبالطبع لأن الخواجة كان ألمانياً فلم يطف بذهنه ولا لوهلة أنه سيظهر له ولقائده ولنظامه معجبون مقلدون أشاوس في حارتنا العتيدة، ويا الله كم رضعنا وكبر جسدنا على الأكاذيب.. لكن حكامنا وإعلامهم لم يفطنوا ويلتفتوا إلى أن غوبلز تحدث أو لنقل نظَّر لنظامه الذي يخلق أكذوبةً كبيرة ليصدقها الناس.. الشعب.. أما أن تخلقها وتصدقها أنت فذلك هو ‘العبط’ بعينه… وذلك هو وجه التطور والتفرد لدينا، خاصةً لدى إعلام الريادة!
أن يحكم بلداً كمصر بكل ثقله التاريخي والبشري وما لموقعه من قيمة ونفوذ، رجلٌ كمبارك، فذلك مما لا يمكن تصديقه، إلا أن ذلك كان واقعا عشناه، وقد طال ذلك اللامعقول لما يزيد على الثلاثة عقودٍ، منحطاً بمصر في كل المجالات حتى فقدت كل مقدرتها على الفعل والتأثير، طال لأنه على انحطاطه استعان بمنظومةٍ أمنية متضخمة واستدعى واستحضر كل القوى الرجعية في المجتمع وكل القيم السلبية والمهزومة في تراثنا وثقافتنا المتوارثة والحديثة، وجمد كل الصراعات الداخلية وواكب مع صناعة طبقة من المستفيدين إخصاء شتى فصائل المعارضة، ما عدا تلك الفصائل التي لا تضرب في أساسه ويستطيع التعايش معها، أي كل من يقبل بسلطته من فصائل الإسلام السياسي والأحزاب المدجنة. واقعٌ لكنه لا ينفي تنامي وتوفر السخط وعوامل الانفجار ولجوء الناس إلى التحايل على هذه التفاوتات بطرق أغلبها غير مشروع وعلى رأسها العنف، لذا حين اشتعلت الشرارة، كائناً من كان الذي أشعلها أو أياً كان رأينا فيه، فقد وجدت بحر القش ينتظرها ويتلقفها… بطبيعة الحال لم تتلكأ الدولة العميقة وقد انتبهت من كسلها ومجموعات المصالح في التحرك وعقد التحالفات، محاولةً استيعاب الصدمة ومن ثم احتواءها وترميم النظام.. وقد نجحت في ذلك إلى حدٍ بعيد.. وبدأت ترتفع قصة المؤامرة التي بدأت همهمةً مستترة خجلى. أنا أفهم أن يطلق أحدهم وهو في نصف وعيه قصة المؤامرة تلك على مبارك ونظامه كمزحةٍ مدهشةٍ بذيئة، مضحكة في الحقيقة لتناقضها مع الواقع المزري الذي سقط بنا إليه.. أما أن تصدقها، فلن أخجل من أن أكرر مرةً أخرى أن ذلك هو ‘العبط’ بعينه! ومع معرفتي بأن ألفاظاً كـ’المؤامرة’ و’الخيانة’ و’التآمر’ و’العمالة’ من الكلمات اليسيرة على لساننا العربي الشرق- أوسطي تنزلق عليه بسهولة نظراً لكثرة العملاء والجواسيس الذين تقلبوا علينا في تاريخنا المعاصر، إلا أن لي أن أتساءل: بالله عليك، أو ‘دخلك’ على رأي أهل الشام، ما الذي في مبارك ونظامه المترهل وحال مصر كما وصل بها ما يدعو إلى التآمر؟ ولعلي أذكر أولئك الغيورين بليلٍ على ‘الوطن’ بمزحةٍ أخرى حين قورنت مصر بالعراق (الذي كان) فقيل عنها ‘وجدنا دماراً شاملاً ولم نجد أسلحة!’.
هكذا إذن دمارٌ شامل وانهيارٌ في كل المرافق.. لكن الأهم من ذلك هو التذكير بأن مباركاً كان رجلاً يمكن الاعتماد عليه فلم يخيب ظن حلفائه الإسرائيليين والامريكيين أبداً، ولم يأخذ أي مواقف استراتيجية ضدهم في كل معاركهم القذرة، وتكفي حرب العراق ودوره فيها دليل إدانة، فعلام يتآمرون عليه؟!
لقد اندفعت الحشود في مصر بالملايين في 25 يناير/كانون الثاني وذلك هو الحدث المفصلي، وكل ما عدا ذلك لغطٌ تال.
ليس لدي أدنى شك في أن هزلية المؤامرة على مبارك يتم تغذيتها والنفخ فيها لـ’تفكيك’ الحراك الثوري وتفريغه من مضمونه ليكفر به كل من تحمس له، وأن من يروجون لها في الإعلام إنما يفعلون ذلك بدافعٍ من انحيازاتهم الشخصية ومصالحم و خدمةً وتمهيداً ‘لسادتهم’ الذين يبدو لهم أنهم يقتربون بسرعة من استعادة كل شيء… والطرفان يتلمظان رغبةً في الانتقام والتنكيل من كل ممن يرونه هز عرشهم.. كل ذلك مفهوم، أما أن يصدقوا تلك الفرية، فذلك هو الإعجاز وبلوغ الأرب في ‘العبط’!
الأخطر من ذلك بمراحل في الحقيقة هو أن يكون مروجو نظرية المؤامرة وأنصارها لا يدركون مدى رثاثة وتردي الواقع، فتلك كارثة بكل المعايير! ألا تدرك مدى الانهيار هو قاع الانهيار… لقد انفجر الحراك الشعبي نتيجة أسبابٍ موضوعية جداً، متراكمة عبر عقود.. ربما حفزها بعض الشباب، لكن الأصل في الواقع الاجتماعي- الاقتصادي، على الأرض.
ولأزيد من البيت شعراً، فسوف أختم بالمجحوم غوبلز مكملاً نفس المقولة التي اشتهر شطرها الأول فقط إذ أردف: ‘الكذبة يمكن أن تستمر فقط طيلة الوقت الذي تستطيع فيه الدولة أن تحجب عن الناس النتائج السياسية والاقتصادية و/ أو العسكرية للكذبة’.. على حد علمي لا يبدو أن هناك أي منجزات على الأرض تغير من ذلك الواقع، اللهم إلا جهاز ‘الكفتة’، ولنا أن نتوقع تفاقم الأزمات ما استمر النظام على نفس سياسات مبارك وانحيازاته الاجتماعية – الاقتصادية.. لقد نجح هتلر وحزبه في تحريك الاقتصاد الألماني (عسكرة المجتمع والدولة من ضمن الأسباب) وإحداث طفرة صناعية، ليس هنا المجال للدخول في تفاصيلها.. لقد نجح، على جنونه وتعصبه، في تغيير الوضع الحياتي للملايين في البداية، ولم يقف عند العنف فقط، أما نحن، فننادي بمعادلة الدولة الشمولية + الزعيم الكاريزمي (….) + العدو الذي يهدد الدولة ووحدتها (الإخوان المسلمون- حماس-الفلسطينيون- قطر) + العسكرة والعنف من دون مكاسب حياتية ولا انتعاش اقتصادي، ولا نحن نملك درجة التطور والمقومات الصناعية التي توفرت لهتلر لتنفيذ مشروعه أساساً.. أي فاشستية على قدنا… فاشستية رثة هي الأخرى.. والحاصل أن الإعلاميين الجهولين الذين يروجون الأكاذيب وأحاديث المؤامرة عن طريق التدليس والقصص الضعيفة والمبتورة يسيئون إلى سادتهم بما يخلقونه من واقعٍ زائفٍ مواز يصدقه سادتهم وهم أنفسهم، بما يحرمهم ويمنعهم من محاولة الفهم وتغيير المسار، وليس أدل على ذلك من محاولة النقاش مع أنصار ذلك التيار، فأغلبهم مسلحٌ بقدرٍ غير بسيط من الجهل والالتباس والخلط.. ومن يدري، فربما يظنون أن هتلر كان عبيطاً وأنه لو نقل ‘خلطتهم’ السحرية لاستمر.. على الأقل أربعين عاماً… للأسف تلقى رسالتهم رواجاً هذه الأيام تؤخر مسيرة محاولة التحول الحقيقية بما تشيعه من بلبلة، ووحده الزمن سيكشف مدى إفلاسهم أو أنه ليس لديهم ما يثبتونه لغوبلز وسيده.

‘ كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول salem Ateek:

    لا نشك إطلاقاً بإفتقار حكم الإخوان المسلمين المغدور به على الخبرة العملية الكافية في إدارة شؤون الدولة، لهذا كان عليهم طلبها من الآخرين حتى لو كانوا معارضة بالقليل لحين تمكنهم منها وإمتلاكهم لها، ولكن ذلك لا يُشرع لغيرهم إطلاقاً مهمة الإفتراء عليهم وتشويه صورتهم بشكل لا يمت أو حتى يمت بصلة الى واقع خدمة البلاد والعباد الذي هو أساس الحُكم والمُلك. الحمد لله على بدأكم وغيركم بإستيعاب هكذا حقيقة، فمخطأ من يعتقد بأن المؤسسة العسكرية التي لا نجادل بأن مهمتها هي إتقان فنون الحرب لحماية الأوطان من المعتدين، بقادرة على إخراج البلاد من عنق الزجاجة التي وضعتها فيه الرجعية المحلية بقيادة الفلول والعربية بقيادة السعودية والعالمية بقيادة الصهيونية، فذلك بحاجة لمن يتقنون ويمارسون السياسة التي تجمع أفضل ما لدى اليمين واليسار في بودقة الوسطية الحميدة التي ممكن أن تفرزها مع الوقت الإرادة الجماهيرية عبر الوسائل الديمقراطية كفن في خدمة الجميع، كل المجتمع، أكثر من كونها “فن الممكن” التي غالباً ما خدمت ولا زالت تخدم المصالح الأنانية الخاصة.

إشترك في قائمتنا البريدية