فيزياء شعرية!

حجم الخط
0

قد يبدو هذا العنوان بدلالاته المُعجمية مزاوجة بين الأضداد لا تخلو من تعسّف، فالفيزياء كما يتصور البعض تنحّت عن شعريتها لصالح ما هو فوقها أو بعدها وهو الميتافيزياء، وهذا بحدّ ذاته فهم موروث بلا مُعاينة او تمحيص، لكأن اللامرئي هنا يحجب المرئي، والمسكوت عنه يحجب المنطوق، ربما لهذا السّبب أحدثت الكشوف العلمية صدمات متعاقبة لشعراء رومانسيين، ومنهم كيتس الذي صرخ في وجه من حاول تحليل قوس قزح واعادته الى مكوناته، تماما كما حدث للقمر الذي افقده التحليل العلمي هيبته الغامضة واسطوريته، فهو يستدين الضوء ولا يمنحه من عندياته، ويكفي لسحابة داكنة وكثيفة ان تحجبه، لكأن شحوبه المزمن يضاعف من خجله خصوصا حين يقضمه الليل هلالا هلالا، ويلوح كما لو انه ملقى بلا مبالاة على قارعة السماء، وحين كتبت ذات يوم في هذه الزاوية عن شعرية الاشياء كان يوجين غيللفك نموذجا لأنه كما قال أدونيس عنه شعر المادة والاشياء، تتسع له لغتنا لكن ربما يضيق به مفهومنا، وقد وجدت في هذا المدخل الأدونيسي لقراءة غيفيللك ضالتي، لأنني حين قرأته كنت قد فرغت للتو من مساهمة في ندوة عُقدت حول قصيدة النثر، واخترت مُقتربا اتضح لي انه ليس عديم الجاذبية فحسب بل هو منفّر حتى لشعراء لا يحفلون بأية مرجعيات غير أدبية، بل غير غنائية ليس بما يحدده مصطلح الغنائية في الشعر، بل بوصفه رؤية للتاريخ والكون ونمط تفكير أفقي وعادات ذهنية، كان مقتربي هو الاقتصاد، وبمعنى أدق العمل ودوره في خلخلة الايقاعات، سواء بالمعنى الذي تحدث عنه الانثربولوجست بيير كلاستر في كتابه ‘مجتمعات ما قبل الدولة’ او بالمعنى الذي أراده شاعر بريطاني حين تقصّى التبدّل في الايقاعات تناغما مع تحوّل الصناعة من اليدوي والفردي الى الآلي بحيث اصبح العامل يغترب عن السلعة التي يساهم في صناعتها لأنه لا يرى منها سوى جزء صغير لا يحمل ملمحا من هويتها.
وقد تكون مقاربة كلاستر الانثربولوجية هي الاهم بالنسبة لي على الأقل في هذا السياق فقد اكتشف بالمعايشة وليس بالتأمل المجرد عن بعد ان شعراء بعض القبائل البدائية يجترحون ايقاعات واحيانا مفردات هي بمثابة اعلان العصيان على السّائد لدى القبيلة لأن التقاليد تحرم الصيّاد من الفريسة التي يظفر بها وبالتالي تحرمه من نجاحه، وتلك مسألة يطول السجال حولها، وما أثارني عندما قدّمت هذا الاسهام ان الشعراء غادروا القاعة تباعا لأن ما سمعوه ينتسب الى مفهوم آخر وربما الى قارة اخرى.
أعود الى شعرية الفيزياء والتي لم يكن ما قلته عن غيللفك الا مدخلا خجولا اليها، وما اعنيه بالفيزياء هنا ليس ظاهرها وتحولاتها وجنونها احيانا، بل ما لا يلوح منها على السطح، ومنه عذاب العناصر في باطن الارض، هذا العذاب الذي يُجَوهر العارض ويتلألأ فيه الفحم لفرط التحولات ولا أدري ما اذا كان الناقد ويليام امبسون يقصد هذا او سواه عندما تحدث عن انماط الغموض السبعة في الشعر، ليفرق بين الابهام والغموض، فالابهام به كثافة الفحم وتماسك ظلامه، اما الغموض فهو يتلألأ حتى القاع كالماس تماما.من شعرية الفيزياء ما يتشكل منه نبات نادر كالفطر او الكمأ، او حجر كريم كالعقيق، حيث تُقاس الجودة بعدد المرات التي تشبع بها كلا العنصرين من وميض البرق، ومنها ايضا ما يتعرض له اللؤلؤ بمرور الوقت من الضمور وكأنه يأكل نفسه، ويسعى الى العودة للبحر والمحارة، ومنها ايضا ذلك التزاوج الذي يبلغ أعلى مراتب الجدلية بين الاوكسجين والهيدروجين، ليكون البعد الثالث الوليد هو الماء، والذي تشترط عودته او الطلاق البائن بين عنصريه النار، في اوج غليانها كي يعود الى منابعه.
شعرية الفيزياء هي الاندفاع الأقصى لشعرية الاشياء ليس فقط من خلال الصّمت الذي لو اصغينا اليه لوجدناه ثرثارا، بل من خلال اصوات كونية واشكال من الوصال لا يعرفها البشر، فالشجرة المحكومة بالوقوف الابدي في مكانها تأتمن الريح لتحمل غبار طلعها وكذلك الحجر الذي ما ان يحتك بتوأمه حتى تندلع الشرارة الهاجعة فيه، وأذكر ان البير كامو أوحى بشيء كهذا عندما قال ان البشر يفرزون اللابشري، كان ذلك خلال مراقبته لشخص يتحدث بالهاتف العمومي ذي الباب الزجاجي فهو يتحرك ويعطي لجسده حرية النطق بلغته الخاصة، دون ان نسمع صوته.
مقابل هذا، ثمة اشياء تفرز البشري رغم ان سطوحها هادئة ومضللة كالبحر او الغابة العذراء.

”’

شعرية الفيزياء تشترط لاكتشافها اصغاء رسوليا لا يشوبه اي صوت آخر، وهذا ما يثبته العلماء الآن حيث ما من صمت على الاطلاق، وثمة وسائل تتيح للإنسان ان يسمع دقات قبله ودورته الدموية وسائر الاوركسترا العضوية التي يحركها الدماغ باعتباره المايسترو، وحين اطلق اندريه مالرو على تأملاته حول الماضي وما تبقى من اطلاله اصوات الصّمت، كان بالتأكيد يقصد شيئا كهذا، تماما كما ان المؤرخ ارنولد تويني كان يذهب الى مدرج روماني مهجور ويجوّع نفسه متعمدا كي تشفّ روحه، ثم يصغي الى صوت تَرشحه الحجارة.. وهو: ‘تعلّق وانتظر’. ما من صمت تام مع الاصغاء الكامل.
ان مجرد سؤال بريء وعفوي توجه به عامل مزرعة الى شاعر وناقد معروف هو كرورانسوم اوشك ان يشلّ دماغه، وتوقف عن الكتابة فترة من الوقت. كان سؤال عامل المزرعة للشاعر هو: ما الذي جعل من الذباب ذبابا ؟ لأنه ضاق بكثرة الذباب الذي كان عليه ان يبيده. وفي امريكا حدث شيء له علاقة بالذباب فاجأ علماء الأحياء، عندما لاحظوا ان طائر الشحرور بدأ ينقرض لاسباب غير معروفة ثم اكتشفوا انه يتغذى على الذباب الذي تأقلم مع مبيداته، لكن الشحرور لم يتلقّح كما تلقّح الذباب، كذلك اصبحت المبيدات ومنها الـ د . د . تي تعبر أنسجة الذباب باتجاه طائر يسعى الناس الى تكاثره وليس لإبادته.
وما قاله ادونيس عن غيللفك وهو اتساع اللغة العربية لشعريته المضادة للغنائية يقابله بل يحدّ منه ضيق المفهوم، اعادني الى سياق فكري متكامل ومُتناغم كانت فرنسا هي ساحته التجريبية، ومنه الرواية الجديدة التي استبدلت الكائن بالشيء والزمان بالمكان كأعمال روب غرييه، ولم يكن ذلك التحول معزولا عن مناخ فلسفي هو بمثابة المرجعية على الصعيد المزاجي وليس الفكري فقط، فالظاهراتية او ‘الفينومونولوجيا’ تحديدا لدى هوسرل هي الموازي الفلسفي للتحول الفني والابداعي نحو الاشياء والأمكنة، وحين حدث تقليد أقرب الى التقريد لتلك الاعمال من كتّاب عرب بلغت الكوميديا ذروتها، وانقلبت الى بكاء واشفاق شأن الحداثة التي ألبست البسوس بنطال جينز وقدّمت لجبّلة ابن الايهم سيجارا وربطة عنق ومصطلحات أشبه بحجارة كريمة تشكو غربتها في الكثبان واكواخ الطين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية