الرقص والدفّ وأزمة المجاز السياسيّ

حجم الخط
0

لا شكّ في أنّ كثيراً من المجاز يولد خوفاً من الحقيقة، أو من تبعات الحقيقة.
عند تطبيق بيت سبط ابن التعاويذي الشهير ‘إذا كان ربّ البيت بالدفّ ضارباً (أو مُولَعاً)/ فشيمةُ أهلِ البيتِ كلّهِمِ الرقصُ’، على الواقع السياسيّ، يواجه مستخدم المجاز التباساً مصدره مواضع العناد في التشبيه، خاصّة إذا كان مولعاً بالموسيقى والرقص. الغرض من البيت كما هو واضح هو تأثير سلوك السلطة على من هم تحتها، محاكاة ومبرّرات. على أنّ اختيار الدفّ والرقص، رغم قدرتهما على الإيحاء بشيء من الفوضى، فيه بعض خلل، لأنّه يقصر عن وصف سوء الحال؛ سوء واقع معاش ليست أزمته محض ضجّة أو فوضى، بل أزمته في ما يحاكَى تحديداً من سلوك السلطة، التي نادراً ما تلتزم بإيقاع تدّعي أن وجودها على رأس دولةٍ قائمٌ على قدرتها على ضبطه.
هناك شيء من الرقص، بل من الضجيج، حتّى في الدول التي لا تعاني من غياب شبه كامل لتطبيق معنى الدولة، قانوناً ومواطنة ومؤسسات. في رواية ‘البطء’ لكونديرا وصف بارع للبرلمانيّ الراقص على المسرح، الذي يغريه الشعور بالمجد عند التأثير في الآخرين. في السياسة الكثير من المسرح كما هو معروف، وهناك الكثير من الدراسات والبرامج الوثائقية عن لغة الجسد والحضور والكاريزما وتأثيرها في السياسة، حدّ الحديث عن كون ماكياج كينيدي في إحدى مناظراته مع نيكسون حاسماً في نتائج الانتخابات.
الرقص أنواع، والأصل فيه احترام الإيقاع وإتقان حركات ما مصمّمة والتدرّب عليها وعلى انسجامها مع الموسيقى. غايته جمال ومتعة ما، وهو غير ما يوحي به بيت ابن التعاويذي. فكيف يصبح الرقص أداة للذمّ وتعبيراً عن استياء ما؟ فلأعد إلى المتعة والجمال. يبدأ الصباح في عمّان بداية رائقة، بسبب الهواء، ولك أن تختار تجميلها أكثر بصوت فيروز بدل إزعاج الإذاعات الأخرى: ‘تبقى بلدنا… بالحمام مسيّجة’. يرقص القلب والبلد، ويغطّي الإيقاعُ هذا، قبل الاصطدام بنشاز الواقع، على ضجيج السيارات ودواعي الاستياء الموسيقية، كالتطبيل والتزمير لكلّ سلطة، بل للوطن نفسه، بطريقة تجعل الإنسان يكرهه ويراه مسيّجاً، بدل الحمام، بغربان وعقبان تنكّل بإحساسه وقلبه شرّ تنكيل. لماذا الحال مزعجة إلى هذا الحدّ طالما أنّ هناك موسيقى: دفّ وطبل ورقص؟
أعمل في مكان له شكل المؤسسة، شكل النظام، وهو أصل الرقص الجميل. الأصل هو في تناغم الأجساد مع الإيقاع، وفي تناغم الحياة اليوميّة في الدولة مع قوانينها المدروسة جيّداً. لا شيء من هذا متحقق. نعم: شيمة أهل البيت كلّهم الرقص، لكن بخرق فاجر لأبسط مستلزمات الموسيقى، بخرق لأبسط قواعد المهنية والمؤسّسيّة والإنسانيّة أحياناً كثيرة. لا شكّ في أنّ أيّ خرق، أيّ فوضى، أيّ ارتجال، لها جميعاً جماليّات معروفة تخلقها فكرة الانحراف عن السائد، لكن حين تصبح هي الأصل، يصبح النظام هو غير المألوف الغائب المشتهى، فنصبح، بدل مواطنين يحنّون إلى حريّة البداوة، بدواً يحنّون إلى شيء من نظام الدولة.
غالباً ما أقرّر أن أتناسى هذه الحقيقة وألاّ أستمع إلاّ لما أريد من الموسيقى في مكتبي. أتجاهل قصص الفساد والمحسوبية والواسطة والإقليمية والجهوية والحسابات السياسيّة التي لا تنتهي. أشعر بأنّني كمن يجلس في طرف نادٍ ليليّ مبتذل الموسيقى والرقص، يحاول أحياناً الدخول والاعتراض فيواجه بمنطق مشابه لمنطق ابن التعاويذي الذي يبرر، ولو بصمت متواطئ مزعج، كلّ تجاوز ونشاز وفساد ظاهر بواقع مؤسسات السلطة الأكبر من الجامعة ومن أيّ دائرة حكوميّة أخرى. لم يعد يعتبَر فجورا كثيراً أن تُقدَّم مؤهلات غير أكاديمية على الأكاديمية، فالدولة تسير هكذا، وتقدّم أبداً مؤهلات غير سياسية على السياسية والإدارية في أكثر مواقع السلطة أهميّة، ومن شابه أباه فما ظلم، فهو يرقص على إيقاع دفّ واحد، لا يحترم معنى الموسيقى، ويعتبر أنّ هناك ما هو فوق ميزان الإيقاع، فوق القانون، فلماذا نلعن راقصة أخذتها العزّة بالرقص خارج الإيقاع إذا كان أرباب البيت مولعين بضرب على الدفّ لا يتّسق إلاّ مع نبض قلوبهم ومصالحهم وحدهم؟
قليل فقط من بقايا المثاليّين، الذين لا يزالون يعتنقون مبادئ كالمهنية والعدالة والنزاهة و(في السياق الجامعيّ) تقديس المعرفة، ويبحثون عن الحد الفاصل بين البراغماتيّة المقبولة والانتهازية القذرة، يبدون كأنّهم سبب النشاز لأنّهم يحاولون مسك الإيقاع، أو يدعون إلى إعادة النظر في موازينه، كي تكتمل الأوركسترا بلا تهميش لأيّ عازف جيّد لصالح قريب المايسترو أو مالك المسرح أو مموّل الحفل أو مزاج فئة من الجمهور لا تعرف معنى الذائقة. يخافون أن يجدوا أنفسهم وقد دخلوا ‘المولد’ السياسي والمهنيّ والاجتماعي، ويعرفون صدق المثل الشعبي: ‘أوّل الرقص حنجلة’. يخوضون حروباً صغيرة في معظمها فاشلة: يقررون أن لا ينجح مطلقاً من لا يستحقّ بمعايير الاستحقاق الأكاديميّة لا المجتمعيّة؛ يرفضون أن يعامَلوا على أساس آخر غير مؤهلاتهم؛ وأن يتساوى التعامل معهم مع زملائهم الآخرين، على مستوى الطلبة والأساتذة والإداريين؛ لا يريدون أكثر من أن تسير أمورهم بلا الحاجة إلى تدخّل رباني وواسطة ومنّ وسلوى؛ وأن يكون مكان عملهم ‘جامعة’، تقبل الطلاب كلهم، لا عُشرهم، على أساس التنافس الحرّ، كما تقبل العاملين فيها رؤساء ومرؤوسين على أسس مهنيّة؛ وأن تكون نتيجة التعليم المدرسيّ علامة حقيقية على التفوّق كي تكون المحاضرة ‘علمية’ بامتياز، بدل أن تكون مكاناً آخر للرقص العشوائي على صدى الدفّ القريب دوماً وأبداً.
أحياناً يكون ‘الدفّ’ الذي تستند إليه المؤسسات في تبرير رقصها هو ذاك الذي لربّ بيت الكرة الأرضيّة، فيستشهد المجادل العبقريّ بحقيقة أنّ في أمريكا نفسها وأوروبا حفلات رقص يدعمها المال السياسيّ، ولا تخلو أبداً من الفساد وليست الحال فيها يوتوبيا من العدالة والنظام والجمال، وذلك ينطبق حتّى على الجامعات الغربيّة التي لم تعد تخجل من إدراج ‘مؤهّل’ القدرة على ‘إيجاد تمويل’ (خليجيّ غالباً) ضمن مؤهلات الباحثين عن عمل أكاديميّ. دفّ آخر أكبر، والتبرير نفسه. هناك، بالطبع، من يتقن الاقتراب من أصحاب الدفوف على اختلافهم، من أجل ألاّ يخرج من المولد بلا حمّص كما يقول المثل، وهو اقتراب مبرّر أحياناً في غياب خيار آخر يضمن عيشاً أفضل ولو على حساب موسيقى معرفية وأخلاقية وجمالية أفضل. هناك في المقابل من يهرب من البيت إلى آخر أقلّ ضجيجاً أو يضع سمّاعات توهمه بأنّه خارج الواقع، وهناك من يصرّ على الصراخ وسط المولد، بنتائج أحياناً وبدونها غالباً، وعزاؤه البسيط أنّ تكرار النشاز لم ينجح بعد في توطين جسده وأعصابه على احتماله والاستمتاع به، وإن كانت به حاجة ملحّة لموسيقى ورقص فرديّ وجماعيّ من نوع آخر.

‘ كاتبة أردنية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية