المثقف حُرّا يكونُ أو لا يكون

حجم الخط
0

ليس بالضّرورة أن يكونَ المُثقّف أكاديميّا أو حاملا لشهادات علميّة. فالمثقّف هو الإنسان الحُرّ الذي يتفاعل مع العالم ويتأثّر بمُعطيات واقعه وتربطه ‘علاقة رمزيّة بزمانه’ حسب تعبير أوسكار وايلد. ويكون هذا الإنسانُ قادرا على تمرير آرائه إلى جمهوره عن طريق مقالاته أو دراساته أو فنّه (أدبا كان أو مسرحا أو موسيقى إلخ).
ولا أرفض أن تكون للمثقف إيديولوجيا يُدافع عنها، ولكن ما أرفضه هو أن يكون المُثقّف ‘مُنسّقا’ والعبارة لعالم الاجتماع أنطونيو غرامشي، وقد استعار هذه العبارة الشهيرة المفكّر إدوارد سعيد في كتابه ‘Representations of the Intellectual’. هذا النوع من المثقّفين موجود في كلّ المجتمعات. ولا أقصد به بالضرورة ‘المُثقّف المُحترف’ الذي يكتب بمقابل ماديّ بل أقصد به تحديدا الشخص الذي لا يعمل لذاته أي الشخص الذي يعمل لإرضاء فئة معيّنة أو ولاءً لحزب سياسيّ. وهنا لا أعني أن يكون المثقف غير منخرط في الأحزاب أو غير ناشط سياسيّ، فهذا من حقّ كلّ مواطن بل ما جدوى أن يكون السياسيّون غير مثقّفين! وإنّما أعني أن يكون المُثقّف الملتزم داخل الحزب ‘حُرّا’، فلا يخضع لكلّ ما يُفرض عليه ولا يُطبّق أوامرَ فيها انحراف عن مبادئه الشخصيّة. ولا يمكنني لضيق المجال أن أعدّد أسماء المثقّفين الذين تمرّدوا على أحزابهم وسأكتفي بذكر مثقف واحد هو الشاعر يوسف الخال الذي قاطع حزب أنطوان سعاده (الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ) لأنّه فنّان صاحب رسالة فرديّة ظلّ يحلم بإيصالها إلى الناس.
وأعتبر أنّ ‘المثقف المُنسّق’ يشكّل خطرا على المُجتمع لأنّه لا يفكّر بعقله بل بعقل الجماعة ممّا يجعل إمكانيّة تدارك خطئه صعبة، ولأنّه يستمدّ قوّته من قوّة الجهة التي تدعمه ممّا يُحوّله إلى بوق دعاية يطمس الحقائق ويُزيّف الواقع.
ولو نظرنا في التاريخ المعاصر سنجد مواقف مشرّفة لعدد من المثقفين الأحرار. فسارتر رفض سنة 1964 جائزة نوبل للآداب حتّى يكون سيّد نفسه وغير خاضع إلى الإغراءات والإملاءات. وقد انحاز نعوم تشومسكي إلى القضيّة الفلسطينيّة بعد أن كان رافضا لها حتّى صنّفته منظّمة ‘إيباك’ (لجنة العلاقات العامة الأمريكيّة الإسرائليّة) كأحد ألدّ خصوم إسرائيل. وأعلن الشاعر الألمانيّ غونتر غراس (16/10/1927) الحائز على جائزة نوبل عام 1999 حربَه على إسرائيل بعد طول صمت، يقول: ‘لماذا بقيتُ صامتا كلّ هذا الوقت؟ / لأنّ أسلافي – وحسب ما أفكّر- / مُتورّطون بجريمة لا يمكن أن تُغتفر أبدا/ ستبقى وصمة عار!’. كما دعم سارتر الثورة الجزائريّة ووقف في وجه فرنسا. ولئن قبل تسلّم الدكتوراه الفخريّة الإسرائيليّة يوم 7 نوفمبر1976 فإنّه قد استغلّ تلك المناسبة لينكر عدوان أصدقائه على شعب أعزل ويعترف بدولة فلسطين ويدعو إلى الحوار مع أنّه يهوديّ الأصل…
فمتى ينسج بعض مثقّفينا على منوال هؤلاء الكبار الذين دافعوا بشراسة عن آرائهم وحين اكتشفوا أخطاءهم في لحظة صدق اعترفوا بها وراحوا يُحاولون إصلاح ما يُمكن إصلاحُه؟

*باحث تونسيّ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية