دوًامة العنف السياسي والعنف المضاد

حجم الخط
0

شيئاَ فشيئاً تتكالب قوى الشرًّ والثورات الرجعية المضادًّة لتزيح مطالب الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، مطالب الديمقراطية، من الساحة السياسية العربية لتحلًّ محلًّها ظاهرة العنف والعنف المضاد عبر أصقاع الأرض العربية. بعد أن كانت منذ بضع سنوات قضية الديمقراطية في وجه الإستبداد هي قضية المجتمعات العربية الأولى والأهم والأكثر إلحاحاً أصبحت اليوم قضية العنف، بكل أشكالها وتلاوينها، امتداداً من العنف اللَّفظي والرمزي ووصولاً إلى العنف الإرهابي العبثي الفاسق، أصبحت هي قضية السًّاحة السياسية الأولى.
هنا صعدت مفاهيم الأمن و خفتت مفاهيم السياسة والاجتماع، وارتفع صخب طبول البطش والإجتثاث ونفي وجود الآخر على صوت كل آلة أخرى في سيمفونية الحياة العربية الحالية.
دعنا من المولولين الكاذبين، وممًن لا ترى ابصارهم إلاً زاوية واحدة وإلاً لوناً واحداً، ولنسأل سؤالاً بريئاً واحدا: ما موضوع العنف؟
إذا نظرنا في قاموس العلوم السياسية فان تعريف العنف السياسي هو أنه وسيلة تستعملها بعض قوى المجتمعات وبعض قوى السلطة لتحقيق أهداف سياسية وذلك من خلال قمع الآخر.
لكنَّ هذا التعريف الغامض الجامد لا يسمن ولا يغني من جوع، إذ يتجنًّب الخوض في الأسباب وفي الأجواء المحيطة به وفي العوامل التي تغذٍّيه وفي ارتباطه الوثيق بأحزان وأوجاع التاريخ.
البعض يحاول أن يدخل في صلب هذا الموضوع المعقًّد من خلال قول أو جملة أو تركيز على جانب واحد ، فالرئيس الأمريكي الراحل جون كندي ينسب إليه قوله بأنه ‘ عندما تسدُ الأبواب أمام الثورة السًّلمية فان الإنتقال للثورة العنيفة يصبح أمراً حتمًّياً ‘. وهناك قول ينسب لناشط سياسي ضدُّ التمييز العنصري الأمريكي بشأن المواطنين السًّود: ‘ إنني تلميذ العنف لأنني تلميذ القلب الإنساني’. الأول يتحدث عن إنسداد الآفاق السياسية والثاني يتحدث عن أهمية القيم الإنسانية والجوانب الأخلاقية. والواقع أن الأقوال كثيرة ومتنافرة.
ما يهُّمنا إيضاحه هو أن العنف السياسي ظاهرة معقًّدة مرتبطة أشدًّ الإرتباط بالممارسات السياسية والإقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمع وأن الجانب الأمني هو فقط أحد وجوهها.إنه في قلب موضوع السلطة في الدولة العربية الحديثة وفي قلب أزماتها وإخفاقاتها، وهو أيضاً في قلب أزمة الثقافة العربية الحديثة التي تراوح مكانها مشلولة بين الثقافة التقليدية الجامدة وثقافة العولمة الكاسحة المليئة بالسلبيات.
إن ذلك يعني أن ظاهرة العنف السياسي في المجتمعات العربية يجب أن تدرس وتحلًّل من خلال منهجية العلوم الاجتماعية وتوجد لها الحلول أيضاً من خلال أفكار ومبادئ تلك العلوم .من هنا اعتراض الكثيرين على المقولة الأمنية التبسيطية التي تختزل الموضوع في ضرورة استعمال العنف الأشدً والأكثر بطشاً من أجل منع إنتقال العنف السياسي إلى ثورة عنيفة تحرق الأخضر واليابس ، ليس لأنً الإجراءات الأمنية غير مهمًة بل لأنها وحدها غير كافية وغير كفؤة وتحتاج إلى سلسلة طويلة من عناصر الإسناد.
وبالطبع فان الحكومة الرشيدة العاقلة هي التي تستطيع التمييز بين العنف السياسي، والذي له مبٍّرراته أحياناً، وبين الإرهاب السياسي الذي لا يمكن أن يبرَّرلأنه يأتي على حساب الأبرياء الآخرين وعلى حساب السلم الأهلي. وبالمناسبة فان هناك أكثر من مئة تعريف للإرهاب السياسي مما يجعل الموضوع معقًداً للغاية. وكذلك التعاريف المتعدًدة للعنف السياسي.
ولذلك حرصت بعض الدساتير أن تضع في ديباجتها توجيهات أساسية عامة من مثل أن وجود الحكومة الرشيدة لا يمكن فصله عن تواجد النظام العادل والسًّلام الأهلي في المجتمع أو من مثل أن هناك علاقة حميمة ومتلازمة بين وجود الحرية والعدالة والقوانين العادلة والنظام العام العادل وبين إطاعة القانون من قبل أفراد ومؤسسات المجتمع.
كتوضيح واقعي لتلك المقولات يمكن ذكر تاريخ العديد من الدول الديموقراطية في بداية القرن الماضي .لقد استعملت حكومات تلك الدول العنف السياسي الباطش ضدُ العنف السياسي الذي مارسته حراكات النقابات العمالية ، ولكنها فشلت في إيقافه. ولكن كل ذلك العنف السياسي العمالي توقًّف عندما باشرت تلك الحكومات بتقنين الحقوق العمالية على أسس عادلة معقولة.عند ذاك أصبح النضال الحقوقي العمالي نضالاً سلمياً نابذاً للعنف.
لن تحتاج الأنظمة العربية إلى الاستمرار في أو البدء باستعمال العنف السياسي، وأحياناً الإرهاب السياسي مع الأسف، لإيقاف العنف السياسي المجتمعي إذا هي اعتبرت العنف السياسي ظاهرة اجتماعية جديرة بالدرس والتشخيص والعلاج من خلال مبادئ وأسس علوم الاجتماع وهي معروفة ومجرًبة وناجعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية