ما تقوله الغيمة

حجم الخط
0

كمنارة قوية الضياء، ألمع بمائي في السماء، عندما يبث البرق تحنانه في أوصالي، أنشج بأنين بهيج، فأغمر بمياهي العذبة السهوب والبراري والشطآن، آملة أن أتخم الأرض، حتى ترتوي من ظمئها. ليس لي وقت أبدده، فأيامي في هذا العالم قليلة ونادرة ندرة السعادة في الحياة. جئت إلى السماء من أعماق البحار، من تلاحمهما أغني نشيدي المائي المترقرق، أبث القوة في كل وهن يعتري أختي الأرض، وبالمحبة اللازمة نكافح معا للبقاء. وعلى الرغم من علمي من أن حياتي قصيرة فإن إيماني بالخلود لا تشوبه شوائب الشك ولا خدوش الريب. ألاطف الهواء عندما يداعبني، فنسير معا في اتجاه طريق الحياة، الطريق الطويلة التي تبدو بلا نهاية. أملي أن أصل في الموعد المناسب، وذاك ما يحدث عادة، وهذا يبهجني حتى الثمالة. ألقي في أرقي، حيث يشتد نشيجي، وحيث أمد بوشيجي إلى كل تجل من تجليات الحياة، أسهر على الأحلام حتى تتحقق وتحققها عندي أن أراها مترعة بالماء متدفقة. إن المياه تخصب أحلام الإنسان، وهذا يسعدني، لأني أرى كائنا آخر، هو خلي في الحياة، يناديني بأحلامه، فلا أتردد في أن أجيب. أما الممانعة التي أبديها غير ما مرة فهي تقوية للأمل في الحياة، فكلما أصيبت الحياة بندوب النقصان، كلما أغرم الإنسان بملاحقة أحلامه، وهذه الملاحقة لا تتوقف عند حد ولو تحققت الأحلام كلها لما بقي أمل في الحياة، لذا تراني أتمنع، لأبقي شهوة الحياة متقدة، لأبقي الحياة خالدة. لربما يبدو هذا الكلام من كائن عابر مثلي نوعا من المخاتلة، وما هي بذلك، فما أبعدني عن الغرور، وأنا من أكون سوى كائن سريع العبور، بيد أني أومن بالتفاف الحياة حول ذاتها، وأنا أيضا ألتف حول ذاتي، فأعبر من حال إلى حال، وهكذا أبقي على حياتي، فأتحول من كائن عابر، إلى كائن مقيم في الأعماق:أعماق السماوات، وأعماق البحار، وما ظهوري إلا علامة على عبوري، والعبور ليس هو الحياة، إنه نتفة من حياة، قضمة من حياة، تشبه القضمة التي يغرسها الطفل بأسنانه الغضة في التفاح الوهاج. إيماني بالأبدية يثير غيرة الرياح فتهجم علي، سامحها الله، إنها لا تدري أن هذا الهجوم يريحني ولو لبعض الوقت، لأني أذرف دموع البكاء، وأرتاح من العناء، الحياة كما تعرفون مفعمة بالعناء، هذه حقيقة تحضرني حينا وتغيب عني حينا آخر، وأنا ألاحقها بذاكرتي السيالة، كلما فاضت فيوضي، توهجت خدودي، وتلك علامات عافيتي. إن الحياة تستحق العناء، لكن العبء الثقيل لهذه الحياة يجعلني أسعى بكل ما أستطيع من قوة التوهج والخيال والحلم أن أخفف من ثقل الحياة. أحيانا تكون الفراشات أثقل مني وأكثرها عناء من الحياة، وأكون بأجنحتي الظليلة خفيفة، كأني أوراق في مهب الريح، وأنا دائما أجدني في مهب الريح، أكافح لأجلي ولأجل الآخرين، لأن الحياة وحدة، وما كانت هذه الوحدة لتتبدد في الخصومات ولا مناورات النواعير والرياح. إن الحياة كلما تمسكنا بها جعلتنا ننتصر، ونحن نرى في ذاك الانتصار انتصارا للحياة ذاتها.
مرات عديدة أطرح أسئلة على نفسي:ما الذي منحته لهذه الحياة لتهبني الانتصار؟وأجدني منشغلة بما يصلني بوشائج قوية بهذه الحياة، لأبقى ولأحقق الانتصار. وما عساه يكون هذا الانتصار؟ إني أجده في رعشة الطفل وهو يحلم، وأجده في صمت الشيخ وهو يتملى السماء، وأجده في راحة الأنثى وهي تغتسل وتتعطر. أليس هذا كافيا’!لا’!إنه بالتأكيد ليس كافيا فهذه أشياء معتادة صغيرة. على الحياة أن تكبر. لكن كيف تكبر الحياة؟إن الأشياء المعتادة إذا أفعمت بماء الأحلام تصبح مدهشة، وتلك هي حقيقة الحياة، وذاك هو الفاتن فيها، ولعلها لهذا السبب تجعلنا جميعا، نحن كائنات هذا العالم نستشعر المتعة في الصغيرة والكبيرة من تفاصيل الحياة.
كنت ممددة بارتياح على سرير السماء، مترعة بالماء، متوهجة الخدين، ومن هناك، من الأعالي رأيت طفلة تحمل جرة ماء خاوية، آيبة إلى دارها باكية، فأشفقت لحالها، وازددت ارتخاء حتى تمددت أوصالي في السماء، فنشجت بالبكاء، وإذا الماء ينهمر مني انهمارا سخيا، وللحظة كأنها الأبدية عينها رأيت الطفلة تجري في الحقول ذاهلة من الفرح، ولم يعدها إلى رشدها إلا تحناني وتحنان أمها التي ربتت على شعرها الكستنائي المسبل على ظهرها، وكان حنان، وكان وئام، أسعدني سعادة لا نظير لها عندما رأيت هذين الكائنين المترابطين بصلة الانصهار يتحابا، لأني أمطرت لهما كما قالت الأم لابنتها، وهي تهدئ من روعها، وكأن البنت خافت غياب الحياة بغياب الماء. إن هذه الأشياء تسليني، وتشبعني متعة، وتجعلني أنعم بضياء الحياة العارمة، الحياة القوية الفاتنة. ولم يفت جيران الفتاة وأمها أن يهتبلوا هذه الواقعة ليسموا النبع الجاف، الذي تدفق بالماء غب عودة الفتاة بجرتها الخاوية، نبع الوئام، ولعل ذلك ما كان ينقص تلك القرية النائية في أرض الله، كان ينقصها الوئام، ليزداد الناس تماسكا، وتزداد معهم الحياة قوة.
في يوم صاف بهيج، اختفيت في هودج السماء، كأني أمتطي مركبا خفيا، لقد أبهجني السفر، لكني استشعرت شيئا ما يخزني في أوصالي، تلك كانت الفورة المكبوتة، لقد كان علي أن أهب وألبد السماء، لكن ذلك لم يكن بمستطاعي، فأنا أبقى عابرة، ثلاثة أعماري غابرة، أظهر بمآقي الساهرة، في الأوقات المعلومة الظاهرة. والخفاء سمتي وعلامة صمتي، وما أجله صمت يبقي الحياة في تطوافها الطيفي بكل الألوان والفصول. فالزمن آية الله، آية الخلود، والعالم هو الذي ترون وهو الذي تعرفون والذي ستعرفون. إن البشر الآن كالأرباب، لا يظهرون الضعف إلا من أجل إخفاء القوة، فهم لا يظهرون القوة إلا في وقتها المناسب، وهذه علامة على خلودهم، وما يحدث من تحامق في إظهار القوة هنا أو هناك إنما هو من الخدوش التي تداوى بمراهم أعشاب الأبدية، الأعشاب التي تنمو بمياهي، أنا الغيمة الباكية، أنا الغيمة الباقية، أنا الغيمة الخفية، أنا الغيمة الظاهرة، أنا الغيمة الصامتة، فما أحلى الحياة حين تزدهي بصمتها القوي المهيب، إلى النهاية، نهاية العالم التي لن تأتي أبدا مهما تشدقنا، مهما تشدقت الأصنام الآفلة ، بالموت الوشيك، فما هي إلا هنيهة وتشع الحياة شيوع الضوء في الأجسام كلها.

‘ قاص من المغرب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية