أنيسة السعدون: الرواية والإيديولوجيا في البحرين

حجم الخط
0

يقع كتاب أنيسة السعدون في384 ص من القطع الكبير، وهو لدى الانطباع الأول كتاب علميٌّ، بعيد عن الانطباعات الذاتية، والتقديرات الشخصية، التي طالما أساءت في الماضي للأدب وللأدباء، وللثقافة والمثقفين. فالمؤلفة تحاول قدر استطاعتها، وإمكاناتها المعرفية، الإجابة عن سؤال طالما ساور المشتغلين في نقد الرواية، وهو ما مدى قدرة الكاتب الروائي على التعبير عن موقفه الإيديولوجي دون أن يسقط في شرك الإيديولوجيا السياسية المباشرة، فيبقى الفن فنا وتبقى الإيديولوجيا إيديولوجيا؟
ففي التمهيد الذي يستغرق نيفا وستين صفحة من الكتاب، تمحِّص المؤلفة أنيسة السعدون المدلولات المتعددة، والمتباينة، لمفهوم الإيديولوجيا، فهذا المصطلح مختلف فيه اختلافا شديداً، عندما يكون الأمر متصلا بالمجالات التي يستخدم فيها من فلسفةٍ، وسياسةٍ، وفكر. أما في الأدب، بصفة عامة، والرواية منه على الخصوص، فلا ينبغي أن يكون حضور الإيديولوجيا حضورا طاغيا بحيث يحول الرواية لضرب من ضروب البحث السياسي، أو الفلسفي، أو التنظير الفكري والاجتماعي، وإنما هي ضرورة؛ بشرط ألا تصرف النظر عن حقيقة الرواية، وهي أنها تقولُ ما تقول بوسائط فنية إحداها أداة التعبير، وهي اللغة. وقد استوعبتْ المؤلفة، بسبب هذه النتيجة التي توصلت إليها، وبلَغَتْها، من مناقشتها لغير قليل من الآراء، عددا من المراجع الأساسية الماركسية، والفلسفية، والسوسيولوجية، والبنيوية.
وابتدأت كتابها عن الإيديولوجيا في الرواية البحرانية باختيار موضوع الشخصيات، على أساس أن الشخصية السردية في تَخَلّقها الفني، وبنائها الروائي، تعكس، وتمثل، وتعبر – بصور مباشرة، أو غير مباشرة – عن مواقف المبدع الإيديولوجية، سواء على المستوى السياسي، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو الأخلاقي. فكانت رواية عبدالله خليفة (الينابيع) 1998 أولى الروايات التي وضعتها أنيسة السعدون تحت المَجْهر. فشخصية محمد عواد هي الشخصية الرئيسة البارزة، وقد يكون لاسم هذه الشخصية تأثيرهُ في انطباعات القارئ عنها، فالعواد اسمٌ عُرف به لعشقه آلة العود، والموسيقى، والغناء، ولعل هذا هو الذي جعل المؤلف خليفة يعنون القسم الأول من الرواية بالصوت.
وقد واجه العواد هذا الكثير من التضييق الاجتماعي، والاستبعاد الأخلاقي، بسبب تعلقه الشديد بالغناء، والموسيقى، ولا سيما من الجيل الذي نشأ وترعرع في الماضي، وشابتْ رجالاته على عاداتٍ، وتقاليدَ متحجِّرَة، تعد المغني، أو الموسيقي نموذجا منحرفا عن السراط المستقيم، تجبُ محاربته، ونبذه، واستبعاده. والمؤلفة تستخلص محقة- من هذا الموقف اتخاذ الكاتب عبد الله خليفة من شخصية العواد قناعاً ‘ يدين به الرؤية التقليدية المحافظة ذات التوجه اليميني ‘ (ص 71) وأنَّ هذه الشخصية، بسبب ذلك، تترنَّح بين التقاليد، والتغْيير، موتورة الخطاب، مما يدفع بها دفعاً للبحث عن مكان آخر تلجأ إليه وهو (المحرّق) طمعاً في العثور على ملاذ آمن تستطيع فيه أنْ تنتج ما تشاء من الأغاني، ومن الموسيقى، وتبدع.
بيْدَ أن الرياح لم تجر بما تشتهيه السفن، فيشد الرحال ثانية للهند للغرض ذاته. ومن تتبُّعها الدقيق لمجريات الحكاية تخلص أنيسة السعدون لرأي مؤداه أن شخصية العواد سلبية لأنها تكتفي بنقد الواقع وبإدراك ما فيه من تداع، وتقفُ عاجزة عنْ تغييره. (ص 75) فالدائرة التي وضع فيها عبدالله خليفة بطله، هذا، دائرة مغلقة، تنتهي بخاتمة تقليديّة ليس فيها بريق نورٍ، ولا بصيص أمل. وتبعاً لذلك فإن النهاية التي تؤول إليها، وهي مصرعها على يدي ابن ميّ زوج الشيخ (حامد) نهاية مأساوية، متوقَّعَة. (ص76)
ولا تفتأ المؤلفة مع هذا- تؤكِّدُ أن العواد يحتج على ذلك الموقف القمعي، المتهافت، المهزوم.(ص77) ونحن نرى في هذا التوكيد ما يخالف تأكيدها السابق، فالبطل الذي ينتقد الواقع المتأزم مشيراً لما فيه من انهيارات، لا يُعد بطلا سلبيا، وليس ينتظر من الكاتب الروائي أن يطرح بديلا لذلك. سواء أكان هذا البديل أفضل ممّا هو كائن، أوْ لم يكن. إذ لو توخَّى الكاتب هذا عامداً لما حال بينه وبين الوقوع في شرك الأيديولجيا بمعناها الحرفي، ولا بينه وبين الوقوع أيضاً في فخ المباشرة، وتحوُّل الرواية من عمل فني إلى آخر وعظيّ، وهذا ما حذرت منه السعدون في تمهيدها الشيّق.
وقد تتبعتْ المؤلفة تتبُّعاً دقيقا الشخصيات الأخرى في الينابيع كشخصية إبراهيم زويّد، والشيخ محمد، وزهرة، وعلي الابن غير الشرعي للعواد، وبعض الشخصيات الأجنبية، ومنها الميجر بيلي، وجون سميث، وزوجته. ولم يغب عن بال الناقدة وهي ترمي تلك الشخصيات بتهمة السلبية تارة، والتآمر تارة أخرى، والطمع بثروات البحرين من نفط وغيره تاراتٍ أُخر، أن تلتفت للجانب الآخر من الصورة.
فقد ذكرت أن في وجه تلك الشخصيات المستغلّة (بالكسر) فئة مثقفة متعلمة من الشباب تؤمن بقداسة الوطن، وتدين بقضايا الأمة، من نحو: جميل المدهون، وكريم شاكر، وسلمان العكار، وبدر الوزان. وقد صرح جميل، في أحد الحوارات، بالنهج الذي عليهم أن يتبعوه.:’ دعونا نصنع أشياء رائعة لأرضنا، وقوميتنا المهددة بالانقراض والموت.. بدلا من الدهاليز المعتمة. ومهن الدواوين والخياطة والإمامة . ‘ ص 84 فمثل هذه الإشارة تكفي للدفاع عن موقف عبدالله خليفة الذي وُصِمَ ظلماً بالسلبية. فهو يسلط الأضواء على هاتيك القوى المرشحة للقيام بما من شأنه تغيير الواقع الذي تصوره من خلال شخصية محمد العواد، واقعاً منهاراً مأزوماً فاسداً. وهذه هي وجهة نظر جورج لوكاش الذي لا يفترض في الكاتب الواقعي أن يكتفي بتصوير الواقع كما هو، فهذا، في رأيه، كاتب طبيعيّ. ولا يفترض فيه أن يقدم حلولا للمشكلات الاجتماعية، والاقتصادية، بحيث يتحول إلى واعظ، فحسبه أنْ يسلط الضوء على القوى الكامنة القادرة على التغيير.
والصحيح أن المؤلفة لم يفتها هذا، فقد نبهت في إشارة مختصرة، وعابرة، على إخفاق هذه الفئة المثقفة المتعلمة في تحقيق ما ينسب للإنجاز لا للأماني. فذكرتْ أن بعض هؤلاء كجميل شاكر، وبدر، وغيرهما.. انكفأوا على ذواتهم، ولم يواصلوا السعي لتحقيق ما يرجونه من إعادة ترتيب البيت البحْراني. ولهذا خلصت إلى نتيجة صنفت فيها الرواية تصنيفا ثابتا لا مِرْيَة فيه، ولا جدال، وذلك أنَّ الكاتب يحملُ ‘ رؤية انتقادية أكثر رسوخاً في عالم الرواية- الينابيع- بأفول تباشير التغيير حتى مع فئة الشباب المثقف. ‘ (ص 85 )
وقد اختتمت المؤلفة دراستها المطولة لرواية (الينابيع) بعبارة اقتبستها من أحمد ممّو يقول فيها عن إحدى الروايات، وعن الموقف الذي انتهت إليه ‘ فهو موقف ينتهي إلى عقم المسعى الإنساني وقصوره عن فهم كنه الوجود ‘(ص 86)
وتتناول السعدون بعد هذه الرواية روايات أخرى، منها: رواية تحولات الفارس الغريب لفوزية رشيد، وأخرى بعنوان سلالم الهواء لمحمد عبد الملك، ورابعة بعنوان ‘ أغنية أ. ص. الأولى ‘ لأمين صالح. وأيا ما كان الأمر، فإنَّ عدد الروايات التي أخضعت للدراسة في هذا الكتاب، وهي قليلة، أوجب على الباحثة الخروج من موضوع الإيديولوجيا وإطاره إلى موضوع آخر، وهو المكان. ثم إلى موضوع آخر، وهو الراوي، وتعدد الأصوات، ثم التبئير، وأخيرا أساليب السرد وتقنياته، والمتلقي وتوقعاته. ولا ريب في أن هذه الفصول تنطوي على جانب مهم جداً غير أنها لا تتسق مع العنوان الذي يوحي بأن الكتاب يقتصر على تتبع المواقف الإيديولوجية في الروايات، وحظوظ تلك الروايات من المحتوى الإيديولوجي، مع الحفاظ، في الوقت نفسه، على ما ينبغي للرواية أن تتصف به من فنّ. غير أن المؤلفة جمعت إلى هذا الخوضَ في مستنقع السرديات، فالراوي، التبئير، والمكان، والأساليب، لا يمكن أن تجيب عن سؤال الإيديولوجيا، وحسبها أن تجيب عن سؤال آخر، وهو حظ تلك الروايات الأربع من جماليات السرد، وفنونه، وهذا ما لا يشير إليه العنوان.

*ناقد وأكاديمي من الأردن

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية