أتمنى يوماً بلا أخبار

حجم الخط
1

في تمام الساعة السادسة والنصف مساء من يوم 18/4/1930، أطل مذيع الإذاعة البريطانية BBC بصوته الجهوري في موعد نشرة الأخبار المعتادة، وقال: ‘مساؤكم سعيد، يوم جمعة طيب نتمناه لكم، ليست هناك أخبار لهذا اليوم! ‘. ومن ثم أكملت معزوفة موسيقية جميلة الوقت المخصص لنشرة الأخبار، وعادت البرامج المجدولة لهذا اليوم للبث عبر أثير الإذاعة. كان يوماً وحيداً سجله التاريخ بلا أخبار مثيرة للاهتمام، ولم يتم ذكر أي يوم آخر مشابه له نفدت فيه الأخبار عبر وسائل الإعلام، وجف منبعها كهذا اليوم.
نعيش حالياً أياماً حبلى بالأخبار، مليئة بالأشخاص والأحداث، حاملة ما هو جديد في كل لحظة. ومعظمها ليس بهين ولا يسهل المرور عنه في الأحوال الطبيعية. لكن، مع كثرتها وزخمها وقسوتها صارت نسياً منسياً، وتداخلت المشاعر واضطربت حتى فقدت أثرها الجسيم الواجب أن يحل بنا حسب فطرة بشرية سليمة غرزت في داخل كل منا. استوقفتني هذه الحادثة مطولاً، ومنحت الإذن لعقلي للتفكر فيها وتقليبها وبعثرتها على رفات أمنيات وأحلام ساكنة في أعماق الفؤاد، وأريد مناقشة ثلاث نقاط منها أسردها تباعاً.
أولها أن من المؤكد حتماً أن هناك أحداثاً وقعت في هذا اليوم، وعلى الرغم من ذلك، لم يتم إيجاد خير يستحق الذكر في هذا اليوم. فالعالم كان حينها يتعافى من أحداث الحرب العالمية الأولى، والكساد الأمريكي العظيم عام 1929 بدأت سحبه السوداء بالانقشاع في بداية عام 1930، ووسط هذا لم يجد مذيع الإذاعة البريطانية خبراً مجدياً لملء فراغات الدقائق المعدودة. لا أنكر أن نظرية المؤامرة ألقت بظلالها على عقلي خلال أيام تفكري وتدبري للحادثة، لكن أجد نفسي تميل أكثر لتفسيرها بضعف ثورة التكنولوجية في تلك الآونة. بل أترك العنان لمخيلتي بتصور حدوث كل الأخبار الحالية في عام 1930، وأصل إلى نتيجة مفادها أن أثرها ووقعها سيكون أعظم على مشاعرنا وأفكارنا، لأن المعلومة كانت تنقل ببطء، والقلب العربي كان يصمد بصلابة في مواجهة كل التحديات.
ثاني النقاط هو مبادرة الإذاعة البريطانية BBC بتدارك الخطأ إن أمكننا أن نطلق عليه هذه الصفة بإفساح المجال لمعزوفة موسيقية على آلة ‘البيانو’. أعجب لهذا التصرف ليس لكونه مبتعداً عن جادة الصواب، بل لغرابته حالياً في خضم كم الإعلانات والتلوث الموسيقي من حولنا. تخيل لدقيقة حماستك لسماع أخبار العالم، فيصادف عقلك وأذنيك فجأة لحن حياة من السماء، هل ستسمعه وتتجاوز عن عطشك للأخبار؟! إن كان الجواب بالنفي، فاعلم يقيناً أن الروح طفت على سطحها هموماً دنيوية أفقدتك الحماس تجاه أي جديد. وإن كان الجواب بالإيجاب، تعجب من نفسك وقدرها جيداً لأن بداخلك روحاً حية. يقول الروائي فيكتور هوغو: ‘الموسيقى تعبر عن الذي لا يمكن قوله، ويستحيل الصمت عنه في نفس الوقت’، فربما فعلة الإذاعة كانت تعبيراً عن رفض أو تأييد لأحداث بطريقة أخرى دون تحيز، والمغزى في بطن الشاعر كما يقولون.
ثالث النقاط وآخرها هو ذلك الشعور الذي امتلأت به زوايا الجسد حال علمي بهذه الحادثة. كنت أتمنى سابقاً أن أسمع أحداثاً مفرحة مبهجة توقد شعلة دفء في محيطي، وكنت أردد سراً وجهراً محاولاتي الجادة في نبش الإيجابي منها من بين الركام، وكنت أعتنق الابتسامة في كل مقام رغماً عن أنف الحاضر. الآن، أنا أحمل نفساً تواقة للحظة التقاط أنفاس من تسارع الوقائع وتلاحقها. الآن، أنا أحمل أمنيات دفينة أن تتوقف الكرة الأرضية عن الدوران فجأة، وأن أصحو على لحظة سكون، وأن أتوه بالفضاء والفراغ بعيداً عن هنا. لا ضعفاً، ولا استسلاماً، ولا خضوعاً ! إنما أشتاق إلى فطرتي وصحوة عقلي ونسق أنفاسي، وأحتاج أن أنظر إلى الواقع من أعلى، وأتأمل جمال الخلق والخالق عن كثب، وأحادث ملائكة علمت عنف الجنس البشري قبل آلاف السنين، وأعزم على التغيير من زاوية أخرى جديدة مختلفة! هل مللت من كوني بشراً ؟! بالطبع لا! بل صرت فقط أحلم أن أعيش يوماً بلا أخبار!
حسام خطاب – الأردن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الكريم البيضاوي.:

    ومن الحب ماقتل, تتداول بكثرة في بعض المواقع هي من شعر للأخطل الصغير, غناها الموسيقار الأستاذ محمد عبد الوهاب, مطلعها :

    جفنه علَم الغزل… ومن الحب ما قتل
    فحرقنا نفوسنا…. في جحيمٍ من القبل

    هناك من يقول بأنه قال: ومن العلم ماقتل , لكن الموسيقار الكبير غيرها لكي تتلاءم مع باقي القطعة الشعرية.

إشترك في قائمتنا البريدية