وما زالوا يحلمون..

ليس هناك مجالٌ للجدال في أن الثورات تندلع من اجتماع الظرف الموضوعي متجسداً في التفاوتات الطبقـــــية والتناقضات الاجتماعية وتردي الأوضاع الاقتصادية والقمع، مع تنامي الوعي وترسخه لدى قطاعاتٍ ما تني تتسع، بعدم إمكانية استمرار تلك الحال وضرورة أو حتمية التغيير.
ولأن مصر بلدٌ موجود على هذا الكوكب، وكذلك سائر الدول العربية، رغم ما قد يبدو في أحايين كثيرة عكس ذلك فإنها، صدقوا أولا تصدقوا، وعلى الرغم مما نعترف به من الخصوصية الثقافية والتاريخية، تسري عليها نفس قوانين التطور والحراك الاقتصادي والاجتماعي؛ ولما كانت مصر على حد علمي ليست السويد أو ألمانيا ولا حتى حصّلت الهند والبرازيل من حيث معدلات التنمية والتطور التقتني والعلمي، وقطعاً لم ينعم شعبها بالديمقراطية واحترام حقوق الحيوان ناهيك عن الإنسان في عهد المخلوع، بل عرفت تضخم ثروات شريحة ضئيلة للغاية تزداد تقلصاً كلما أفحشت ثراءً، شكلت قاعدة (إذا جاز استخدام هذه الكلمة) لنظام مبارك، فوق مستنقع من الإملاق تنزلق إليه الطبقة الوسطى الهزيلة أصلاً، كما شهدت تردياً في كل المرافق والخدمات انعكس في اضمحلال الدور الخارجي حتى كاد ينعدم. أمام كل هذا يصبح الحديث عن ‘الظرف الموضوعي’ الذي نعيشه محض عبثٍ ومضيعة للوقت، تماماً كمحاولة اثبات وجود الشمس في وضح النهار، أما عن الوعي، فلا شك في أن الغالبية العظمى كانت تشعر وتدرك بدرجاتٍ متفاوتة ذلك الوضع البائس الرث، وعلى من ينكر ذلك أن يفسر لنا ذلك التهافت على الهروب من جحيم البحث عن رزقٍ في هذا البلد إلى أي مكانٍ حتى لو اقتضى ذلك مغامرة عبر المتوسط إلى إيطاليا بصورة غير شرعية قد يدفع الشاب حياته غرقاً ثمناً لها.
في هذا السياق، وبما أننا نتحدث عن تاريخٍ حديث للغاية لم يجف حبره بعد، فلا بد أن نؤكد ونعترف بالدور المحوري والمهم الذي لعبته مجموعات الشباب الذين نزلوا ليعتصموا محتلين الميادين مطالبين بالتغيير.. سبقتهم إرهاصات لعل أهمها بدون منازع حركة ‘كفاية’. هم أيضاً أدركوا أن الوضع لم يعد من الممكن استمراره، انه أصبح مهيناً ناهيك عن كونه كارثياً، ان مصر على حافة الهاوية.. ولأن اللحظة كانت مواتية نتيجة تغيراتٍ اقتصادية فقد قاموا، بدون علمٍ أو تخطيطٍ منهم، بدور المحفز لذلك الحراك الضخم الذي قلب كل الموازين، والكل، مواطنين وشبابا، كانوا يحلمون باستعادة وطنٍ منهوب.
الآن، وبعد ثلاثة أعوام، لم تتحقق أية مكاسب مادية ذات شأنٍ على الأرض، القطاعات الأوسع من الجمهور التي لا تُحسب على مبارك نال منها الإرهاق وتمكن منها الملل ونفاد الصبر.. بعض الأسماء الشبابية التي تم تلميعها عن عمد من قبل النظام وأبواقه الإعلامية اسُتغلت، امتص النظام دمها وأحرقها ومازال هو الأقوى والأفضل تنظيماً. أما الشباب الذي لم يتلوث فإن عزلته عن الجمهور تزداد يوماً بعد يوم، لأسبابٍ عديدة، والواقع الذي بدا لوهلة طوع يمينه يفلت منه.. يغرد خارج السرب تماماً.. وما زال يناضل ويحلم.
إلا أن شيئاً من هذه النتيجة لم يحدث اعتباطاً، فقد لعبت أجهزةٌ عديدة للوصول إلى هذه النتيجة، مستفيدةً من حماقات وصراعات شتى الأطراف التي لعبت في شارع السياسة.
في البداية بدا كل شيء بسيطاً، واضحاً ومباشراً.. أوضاعٌ لا تطاق ونظامٌ هرم مسؤولٌ بالضرورة عن كل التردي والإخفاقات والإحباطات، تلك البساطة والمباشرة هي ما كفـــــل تجميــــــع تلك الحشود الهائلة والقوى المتباينة وراء هدف إسقاط النظام، لكن ما أن تم التخـــــلص من مبارك (وربما من قبل ذلك ولكن في الضمائر) وبدأ الحديث عن المستقبل وبدت الدولة بالنسبة للبعض كعكةً مستحقةً ينبغي قضم أكبر قطعةٍ منــــها إن لم يكن كلها حتى بدأت الخلافات وبدأ اللعب من تحت الطاولة وفي العلن وفي الغرف المقفلة وفي الأقبية والسفارات والعواصم المختلفة. ولئن كنت كتبت مراراً عن فوضى الاقاويل، خاصةً من جانب إعلامٍ مسعورٍ ومنفلت وغير مهني، فإنه من يفكر ويدبر ويرسم الخطوط الاستراتيجية العريضة بمهارة وحنكة.
وبدأ ما يمكن تسميته عملية ‘تفكيك’ الثورة، وهي باختصار تلك المقولات والتفسيرات والتنظيرات وما يسمونها ‘أدلة’ على تورط كافة العناصر الداخلية والخارجية لإسقاط نظام مبارك، الذي نكتشف، ويا للهول على رأي المرحوم يوسف بك وهبي، كم كان شريفاً عفيفاً نظيفاً وطنياً عروبياً حريصاً على فلسطين وتقدمياً، أي والله تقدمياً وعروبياً! وأننا نحن الذين تعجلنا نتائج سياساته الاقتصادية العبقرية اللوذعية، وما الذي كان سيحدث لو أننا صبرنا فوق الثلاثين سنة مئة أو مئتي عام اخرى؟ أليس آخر الصبر الفرج..غالباً.. تقريباً؟
لم يكن من الممكن أمام الثورة المضادة التهرب من حجية الحدث الثوري الدامغة، لذا سعت إلى تشويهها.. فالسجون لم يفتحها حبيب العادلي وزير الداخلية وإنما حماس، والقناصة أيضاً من حماس، الذين في الشوارع (أي أهلنا وأصدقاؤنا وأقاربنا…شعبنا) غوغاء ودهماء.. والشباب برمتهم مأجورون.. لقد وقعنا في الفخ! في حبائل مؤامرةٍ حيكت من قبل أمريكاً حسداً وحقداً على معدلات التنمية التي تفوقت على الصين والرفاهية غير المسبوقة، والقمر الذي لم نصل إليه فحسب وإنما صرنا نتنزه جيئةً وذهاباً إليه.. ونكتشف أنه لم يكن هناك داعٍ للثورة من الأساس، غاية ما هنالك أننا شعبٌ مغفل يعاني من الفراغ.
وليس من عجب أن قطاعاتٍ متسعة من هذا الشعب، ضرستهم ونهشتهم هذه السنوات العجاف الثلاث وتغلغلت إلى نفوسم تلك الأكاذيب باتوا يشعرون بالمرارة والفشل، وبعد فترة من الاعتداد بالنفس بدأت تعود وتعلو نغمة اليأس وتحقير الذات والتشكك في كل شيء…’نحن لا يصلح لنا سوى مبارك والعادلي’.
لست بحاجةٍ إلى التأكيد على كون هذا مقصودا وممنهجا، تصب فيه قنوات الأجهزة، تغذيه وتسعد به.
في إحدى كتاباته يفرق المفكر الشهير إرنست ماندل بين الثورة الاجتماعية والسياسية، وفي حين أن كل ثورةٍ اجتماعية تحل فيها طبقةُ مكان الأخرى تستتبع حتماً ثورةً سياسية، فإن الثورة السياسية لا تتضمن بالضرورة ثورةً اجتماعية، وفي هذه الحالة تنتهي إلى صراعٍ بين شرائحٍ ما من نفس الطبقة.. هذه طبعاً رؤيته، لكن أليس واضحاً مدى العلاقة بواقعنا؟ لقد تحركت الجماهير في مصر لأسبابٍ اجتماعية قبل أن تكون سياسية…’عيش، حرية، عدالة اجتماعية’، لكن غياب تراكم التجربة السياسية وضعف التنظيم الجماهيري وحداثة التنظيمات السياسية.. وما لا يحصى من الحماقات، كل ذلك خذل هذا الحراك حتى صفى إلى نزاعٍ بين شرائح من نفس الطبقة بمعنى الانحياز الاجتماعي والاقتصادي في مهرجانٍ عبثيٍ كبير نصفق فيه للمخلص- الأسطورة الجديد…موجاتٌ عاتية من التشبث المحموم واللامبالاة والتوق إلى الخلاص السريع.. يأسٌ وإحباط..’كفانا ثورة، نحن لسنا أهلها ولا نجيد صنع أي شيء شعار المرحلة.. أما الشباب النظيف والثوريون، في السجون وخارجها، فيراقبون مشهداً يلفظهم ويهمشهم يوماً بعد يوم ويأملون في الأفضل.. وما زالوا يحلمون.

‘ كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سمير من نيويورك:

    هل يعتمدالاستاذ الدكتور يحي مصطفى كامل على قصر ذاكرة القارئ العربى ام هو استخفاف بعقلة ؟ الدكتور يتحدث عن تفكيك الثورة وعن الثورة المضادة…. الم يكن الدكتور من اشد المؤيدىن لما حدث فى ال30 من يونيو وما تبعة من انقلاب !!!!!
    لقد حذرنا الشعب المصرى من حراك 30 يونيو لان اصغر طالب فى اى مدرسة من مدارس الحياة كان يعرف ان الانقلاب أتى لا محالة …
    لقد ركب جيش الشاويش سيسى موجة او هوجة 30 يونيو ويااسفاة قام جزئ من الشعب المغسول الأدمغة بدور المحلل لهذا الزواج الباطل ……..
    جواز سيسى من مصر باطل….باطل….باطل

  2. يقول أحمد - بلجيكا:

    الثورة الحقيقية فى مصر لم تبدأ بعد..فالمقدمات فى الطريق، فى سابقة هى الأولى فى تاريخ مصر..وهى بداية جادة لقطاعات هامة من الشعب ( حتى ولو كانت مهنية )..بالإضرابات المفتوحة !لأطباء ..والصيادلة..وعمال أكبر المصانع..وحتى ما يسمى ( بإتحاد أفراد الشرطة ) بدأ بإعتصام مفتوح حتى تحقق مطالبهم ! ! ها هى بعض عناصر الشرطة تتذمر..وهى التى توجه لها الأوامر بضرب وقتل وإعتقال المتظاهرين وسحل الفتيات وكل المناهضين لهذا الإنقلاب ؟ .
    أتفق مع الكاتب فى أن البعض ( كان ) يحاول قضم الكعكة !
    إلا أن قائد الإنقلاب العسكرى …الشاويش السيسى ..حسب المعلق السابق .
    فى تفكيره الشخصى ..يريد قضم هذه الكعكة ( مصر ) وحده ! !
    ولا أدل على ذلك إلا ذهابه لروسيا لتلميع نفسه أولا..ويعقد صفقات بشراء أسلحة عسكرية بما قيمته ثلاثة مليارات دولار فى هذا الوقت الحرج الذى تمر به البلاد من قلة الموارد المالية والغلاء الفاحش للمعيشة والبطالة ! ….وفى غياب برلمان منتخب يسمح له بذلك ؟؟.
    لماذا لم يشار إلى من يسموا (بقادة جبهة االإنقاذ…ومنهم مرشحين للرئاسة لم يفوزا فى الإنتخابات )..حاولو أن يخطفوا الكعكة كاملة من الرئيس المنتخب محمد مرسى ..ووضعوا كل العراقيل أمامه..وتعاونوا مع السيسى الذى أوهمهم بتمكينهم من الحكم..وشكل منهم حكومة مؤقتة…وفى النهاية ( الكعكة ) أقصد الحكم…سيكون له وحده مع العسكر..وهو ما يتوهمه هو أيضا !.

إشترك في قائمتنا البريدية