ما بين التبصرة والبصيرة.. حديث ذو شجون

حجم الخط
0

البصيرة في اللغة لها معانٍ كثيرة، ومن هذه المعاني: الإدراك، والفطنة، والحجة، والنظر النافذ إلى خفايا الأشياء، والعلم والخبرة’كما ورد في كتاب غريب القرآن للأصفهاني’ ج1ص49.
وردت كلمة (بصيرة) مفردة ونكرة غير معرفة بأل التعريف في القرآن الكريم مرتين (‘قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) يوسف: 108. ووردت بصيغة الجمع (بصائر) خمس مرات (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) الأنعام: 104.’وبصيغة (مبصرون) مرة (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) القيامة: 14.’وجاءت بصيغة (تبصرة) مرة (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) سورة ق: 8’.
بدأت بهذه المقدمة لأبين معنى البصر والبصيرة والتبصرة التي دعانا الصديق العزيز د. كمال الهلباوي للتبصر فيها ومراجعة فهمنا الخاطئ – برأيه ـ للواقع ومفرزاته في مصر، والمنطقة في مقالته بصحيفة ‘القدس العربي’ بتاريخ 7ـ 2- 2014، ولقد هالني كم التغييب الكبير للعقل والحكمة وأصول الفهم للنصوص الشرعية والأحداث الجارية من أستاذ كبير كتب وحاضر ودرّس في الإستراتيجيات ونادى بضرورة إعادة الوعي للامة، ولاقى في سبيل ذلك التشرد والعذابات والابتلاءات على انواعها، فضلا عن فهمه للأصول العشرين للامام البنا التي درسها ودرّسها وحفظها عن ظهر قلب عشرات إن لم يكن مئات المرات.
لا أريد ان أغرق في تفاصيل ما يطرحه الدكتور كمال في مقالته هذه أو مقالاته السابقة، وحتى مقابلاته التلفزيونية التي تجعل ـ بالفعل ـ الحليم حيران، ولكن أود ان أناقش بعض المفاهيم التي يسوقها وبشكل خاطئ تماما، ويعتبر انه بذلك انما يصوب اخطاءً في الرؤية، ويصحح مفاهيم اختلفت عن زمن الإمام البنا، وإن إخوان اليوم ضلوا الطريق وخرجوا عن جادة الصواب.
لا بد اولا أن نقرر حقيقة يدركها الجميع، أن الأخوان بشر كغيرهم يصيبون ويخطئون وليسوا ملائكة، وأن أخطاءهم كبُرت أم صُغرت، سواء كانت في زمن الرئيس مرسي او قبل ذلك أو بعد الانقلاب الدموي عليه في الثالث من يوليو/تموز 2013،هي أخطاء يمكن ان نفهمها في سياقها بين الرأي والاجتهاد مع ضرورة المراجعة المستمرة، خاصة تجربة الحكم القصيرة التي لا الإخوان ولا غيرهم مارسوها او سمح لهم بممارستها أو الاقتراب منها طوال عقود من الظلم والطغيان في مصر وغيرها.
ولكن الغريب من فهمه أنه أثناء حكم الدكتور مرسي كان يرفع صوته في فضائيات معروفة الأهداف والتمويل، ويُسخر قلمه الحاد جدا، ويلتقط أي شاردة أو واردة من أجل التشنيع بالإخوان، وعلى رئيس الجمهورية المنتخب، فاعتبر مثلا الإعلان الدستوري الذي اصدره رئيس الجمهورية يوم 21-11-2012، معيبا جدا، وانه إعلان فرعوني، وأنه ليس هناك اغلى من الحرية والدم (مقالة له بتاريخ 26/4/2013 )، وشارك في البلبة والإثارة والدعوة الى التظاهر والاعتصامات باستمرار كما فعل في يوم 30- 6- 2013، واعتبر ذلك ثورة عظيمة، وأنه شارك فيها (اكثر من ثلاثين مليونا)، بينما يستنكر على الاخوان وعلى تحالف الشرعية مظاهراتهم واعتصاماتهم التي جاءت إعتراضا على الانقلاب العسكري الدموي، واعتبرها تسيء الى الوطن وتهز استقراره، كما أنه لا يعتبر أن إصدار عدلي منصور إعلانا دستوريا جمع فيه كافة السلطات، وألغى مجلس الشورى المنتخب، وعين حكومة غير شرعية، وعين لجنة الخمسين لكتابة الدستور غير الشرعية (وهو واحد منهم) ، وأصدر قانون التظاهر أو قانون منع التظاهر، ومرر كل خطط العسكر في الظلم والطغيان والقتل والاعتقال إعلانا فرعونيا أو طاغوتا يجب إزالته، فلم نجد في مقالات د. الهلباوي أو مقابلاته التلفزيونية أي حديث عن ذلك الا حديث التأييد والتطبيل والتزمير والمشاركة بلسانه وقلمه وجوارحه بهذه الزفة الكذابة، وإن كان هناك بعض الانتقاد فيكون هينا لينا من باب رفع العتب فقط، أليس هذا عصيا على الفهم، ويكيل بمكيالين، وهو يعلم ان الله يمقت صاحب المكيالين، وصاحب الوجهين..؟
ثم أليس عصيا على الفهم أن يقول عن عبد الفتاح السيسي ‘ان مكانه ظل شاغرا لعقود وانه استحق أن يصبح رئيسا لمصر عن جدارة’ ( مقالته في ‘القدس العربي’ بتاريخ 31-1-2014 ) ويشبهه في مقال آخر بالخلفاء الراشدين ويحتفي به أيما احتفاء ( مقالته في ‘القدس العربي’ بتاريخ 8-8-2013)، ويشارك في حملة التهريج الحاصلة لتنصيبه فرعونا جديدا، وهو – أي السيسي- انقلب على رئيسه، وخطط لذلك وداس ببيادته هو وعصابته العسكرية الدستور المستفتى عليه، ونزع رئيسا منتخبا بالقوة العسكرية.. بينه وبين الامة عقد لا يزول الا بعقد جديد لرئيس منتخب انتخابا حقيقيا جديدا، وقتل وجرح عشرات الآلاف من المسلمين المصريين، وسجن عشرات الآلاف من أساتذة الجامعات والمحامين والأطباء وصفوة المجتمع وشبابه من فتيان وفتيات، وشرد آلاف الأحرار خارجها بحثا عن مكان آمن، وجيَّر كل مؤسسات الدولة لصالحة، وأغرق الدولة في مشاكل لا حصر لها فوق مشاكلها وكوارثها، وورط الجيش ولوثه بدم الأبرياء، وأنهك الاقتصاد المنهك وأصبحت مصر العزيزة الكريمة أكبر شحاذ في التاريخ، وكمم الأفوة، وأغلق الصحف والقنوات، وأطلق يد الأجهزة الأمنية لتنتهك الحرمات والأعراض والقيم في كل أنحاء مصر، وحاصرغزة، ومنع عنها كل شيء، وتواطأ مع الأعداء على حرب المقاومة، وبتنسيق كامل مع العدو الصهيوني وغير ذلك الكثير… فإذا لم يكن ذلك هو الفهم الخاطئ فماذا يكون إذا..؟
إن مشكلتنا مع رجل بحجم الدكتور الهلباوي انه يستخدم النصوص الشرعية في غير موضعها، وينزلها في غير منزلتها، ويعتقد انه بتاريخه ومواقفه السابقة يمكن أن يجعل الناس، خاصة الشباب الذين تتلمذوا على يديه يصدقونه، وهو يعلم ان مثل هذا التفسير وليِّ أعناق النصوص لتوافق هوىً في النفس لم يكن ليقنع أطفالاً، فضلا عن شباب واعٍ امتلك الجرأة والفهم أكثر مما يتوقع، لأنه حجز نفسه في قمقم ومربع لا يريد ان يخرج منه، بل أصبح يتغنى ويتلهى ويقول الأشعار ويدبج القصائد مدحا بالسجن الذي وضع نفسه فيه، فلا يرى فيه الا بعض الخطوط الجميلة او الرسوم المؤثرة التي وضعها ورسمها وزينها لنفسه، بل أصبح مع الأسف- يهتف وبصوت عالٍ للسجان، ويطلب من الجميع ان يصدق أنه يهتف للحرية والعيش الكريم.
ومع كل ذلك فهو يرى في مقالته ‘أنه يقف على أرض صلبة في فهمه للاوضاع في مصر ومستقبل مصر العظيم بإذن الله تعالى، وهو ما لم يفهمه الإخوان’، وأعتقد ان أي فرد مهما كان حجمه ودوره لا يمكن ان يكون أوعى ورأيه أصوب من رأي جماعة يقدر عدد أفرادها بالملايين في كل أنحاء العالم، وسيدنا عمر بن الخطاب يقول: ‘رأي الفرد كالخيط السحيل، والرأيان كالخيطين المبرمين، والثلاثة مرار لا يكاد ينتقض’ فكيف إذا كان هذا ليس رأي الأخوان وحدهم، بل تشاركهم فيه أعداد هائلة من المثقفين والعلماء والأدباء والشعراء والناشطين وقادة الناس وعوامهم في مصر وفي جميع انحاء العالم، مسلمين وغير مسلمين، وإسلاميين وغير إسلاميين، بل إن عددا كبيرا ممن شاركوه في المؤامرة المسماة ثورة يوم 30-6-2013، بدأوا يدركون أنهم خُدعوا، وأصبحوا يخرجون جماعات وأفرادا من هذه السفينة الآيلة للغرق عاجلا أم آجلا، بعد ان ادركوا الحقيقة المرة، ومع ذلك ما زال الرجل يطبل ويزمر ويقوم بدور الكومبارس في سرك مليء بالدم والآهات والعذابات والأحزان.
إنك ـ يا صديقي العزيز- لا تقف على أرض صلبة كما تقول، بل تقف على أرض مخضبة بدماء الأبرياء، وعذبات الملوعين من الأباء والأمهات والزوجات والأبناء والبنات الذين قتلوا وجرحوا وحرقوا وغيبوا في السجون والمعتقلات، وأنت ما زلت تسبح بحمد القاتل وتهلل وتصفق له.. إنها تراجيديا مأساوية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
لقد كنت أقرا الحديث الشريف ‘… وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها). وأستغرب وأقول كيف ذلك – ومن دون التألي على الله فهو أعلم بخلقه- ولكن قل لي بربك: هل تأييد القاتل الخائن الغادر عمل من عمل اهل الجنة، أم عمل من عمل اهل النار؟ هل التشفي بإخوانك والتلهي بعذاباتهم والهجوم المستمر عليهم والفجور في الخصومة معهم – وهم في أعظم محنة – عمل من عمل اهل الجنة أم عمل من عمل اهل النار؟ هل الوقوف في الخندق المعادي لمشروع الأمة في الحرية والعزة والكرامة مع أمثال جمعة والطيب وتواضروس، ورجال الأعمال الفاسدين، وقتلة الجيش والأمن، وتمرد، والإعلام المضلل، وناعقي الفتنة عمل من عمل أهل الجنة أم عمل من عمل اهل النار؟ وهل تأييد ما جرى ويجري من مجازر بحق الأبرياء من طلاب وطالبات مصر والزج بهم في السجون والقضاء على مستقبلهم من خلال قضاء أصبح اداة من ادوات الفرعون عمل من عمل اهل الجنة أم عمل من عمل اهل النار؟ وهل يكفي القول انك ما زالت على المنهج الوسطي، والوفاء لقضية فلسطين والمقاومة، وغير ذلك من الادعاءات دليلا يصلح الاعتماد عليه، أم ان العمل يصدق ذلك أو يكذبه؟

‘ المسؤول الإعلامي لهيئة علماء فلسطين في الخارج

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية