سياسات ‘التدافع’ بين الكيد والنرجس

إن كانت حقيقة اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي ستعرف في تونس، فلن تعرف قريبا. بل ربما لن تعرف البتة. إذ إن الحقيقة لم تكشف كاملة في لبنان حتى الآن حول اغتيال رفيق الحريري وإيلي حبيقة وجورج حاوي وكمال جنبلاط. بل إن الولايات المتحدة، بإمكانياتها الاستثنائية، لا تزال تجهل حتى اليوم حقيقة اغتيال الرئيس كندي. هنالك طبعا ترجيحات حول الأطراف الموعزة أو التي لديها مصلحة، ولكنها تظل مجرد تحليلات. ولهذا سوف تبقى قضية الشهيدين عزيزة على القلوب، ولكن جهود الصادقين لن تكلل بالنجاح قريبا.
الآن، ما هو المأمول لتونس في الفترة القادمة؟ أن تتمكن حكومة الكفاءات غير الحزبية من إعادة الاستقرار الأمني وتنقية الوضع الاقتصادي والمالي، بحيث تستعاد ثقة المستثمرين الوطنيين والأجانب وتخف حدة البطالة تدريجيا. وأثناء ذلك كله يتوقع من الحكومة أن لا يشغلها تصريف الأعمال عن الإعداد الجيد لانتخابات عامة يأمل التونسيون أن تمثل انطلاقة جديدة للبلاد.
هكذا، يعتقد الجميع تقريبا أن حكومة الكفاءات لا بد أن تكون مؤقتة وأن الانتخابات القادمة سوف تكون فاتحة عهد جديد. فهل لهذا التفاؤل ما يسوغه؟ لا أعتقد ذلك. لأنه إذا عقدت الانتخابات أواخر العام، مثلما هو مقرر، فإن المرجح أننا سوف نتورط مجددا في المأزق ذاته: مأزق الانسداد السياسي الذي أفرزته انتخابات 23 تشرين الأول/اكتوبر 2011. ذلك أن عناصر الانسداد لا تزال على حالها: أحزاب بالعشرات لا تنطبق صفة الحزب إلا على ثلاثة أو أربعة منها. وساسة هواة يفتقر معظمهم للحنكة والمرونة. أما النخبة السياسية المحترفة، وهي تكاد تعد على الأصابع، فهي تشاطر هواة السياسة تغليبهم للمنفعة الحزبية على المصلحة الوطنية.
ليس هناك اليوم ما يبشر بأننا قادرون، في غضون عام، على الإقلاع عن منكر عاداتنا الحزبية والسياسية: عادات ‘التدافع’ بين ‘شرعية’ نرجسية لا قبل لها بأن تفهم لماذا لا يهيم الأنام بها حبا وبين معارضة كيدية آخذة، صبيانيا، بخيار شمشون. ولهذا فليس من المستبعد أن تؤدي الانتخابات إلى إعادة إنتاج أزمة الانسداد السياسي الذي سبق أن قاسيناه، بحيث ينتهي الأمر بالتونسيين إلى الترحم على سنة 2014 وعلى حكومتها غير المنتخبة.
وقد قرأت بانتباه اقتراح الناشطة أميرة اليحياوي خفض عدد نواب البرلمان في الانتخابات القادمة إلى النصف، حيث قالت إن عدد سكان مدن مثل طوكيو وسيول وساو باولو ونيويورك يساوي، إن لم يتجاوز، عدد كامل سكان البلاد التونسية، ومع ذلك فإنه يتولى إدارة شؤون هذه المدن عمدة ومجلس بلدي يقارب عدد نوابه ربع نواب البرلمان التونسي. وأعربت عن الخوف، لو ظل عدد النواب مرتفعا، من أن نتورط طوال خمسة أعوام كاملة في ما كنا فيه أثناء العامين الماضيين: أي الشلل البرلماني.
اقتراح وجيه. ولكن عدد النواب مسألة فرعية، على أهميتها. أما القضية الأساس فهي الانتخابات بحد ذاتها. السؤال بسيط: لماذا الانتخابات أصلا إن كانت لن تفرز نخبة سياسية محترفة من رجال الدولة، ونسائها، القادرين على الحسم والبناء وبث الأمل؟

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية