لماذا أحرق إسرائيليون أنفسهم؟

أثناء التظاهرات الاحتجاجية في شوارع المدن الإسرائيلية، خصوصا في مدينة تل أبيب في صيفي العامين الماضيين، ضد سياسات الحكومة الإسرائيلية الاجتماعية والاقتصادية، من بينها غلاء المعيشة، وأزمات ومشاكل أخرى عديدة تتعلق بالبطالة والأجور والسكن، وطرد آلاف الموظفين والموظفات من وظائفهم، وغيرها من مشاكل، قام اثنان من المتظاهرين بإحراق نفسيهما، أحدهما من الجنود المسرحين المقعدين، بعد أن كان أصيب في معارك سابقة. هذه الظاهرة الحرق – من الظواهر المستجدة لدى الجمهور الإسرائيلي الغاضب على سياسات حكوماته الاقتصادية والاجتماعية. ولم تترك حادثة الحرق ذلك الصدى الكبير في أوساط الحكومة، إذ أن رئيسها بنيامين نتانياهو علق على الحدث قائلا: ‘إن إقدام مواطن على إحراق نفسه يشكل مأساة شخصية’، أي ان الحكومة ورئيسها لا يعتبران ما حدث من ‘المآسي’ العامة التي تستوجب البحث عن أسبابها ودواعيها، ومعالجة ما يمكن معالجته قبل أن تصل إلى درجة المآسي.
وككل حكومة يمينية من الحكومات التي لا تُعنى كثيرا بالرعاية الاجتماعية، والتخفيف من مشاكل مواطنيها الحياتية والمعيشية، فإن الحكومة الإسرائيلية الحالية، لجأت إلى إقرار تقليصات واسعة وغير مسبوقة في الموازنة العامة لعام 2013، ما أدى إلى الاختلاف على بعض بنودها بين مكوناتها.
وكانت صحيفة ‘يديعوت أحرونوت’ (22/8/2012) قد تطرقت إلى تفاصيل تتعلق بالأزمة المعيشية، من بينها ‘إن نسب البطالة في إسرائيل ارتفعت، ونسبت إلى بيان صادر عن مصلحة التشغيل الإسرائيلية في 21 أغسطس/ آب، أن عدد المفصولين من العمل خلال يوليو/ تموز الفائت بلغ 16084، وأشار إلى أن هذا العدد يشكل ذروة غير مسبوقة في عدد المفصولين من العمل خلال شهر واحد، لم تشهد إسرائيل مثيلا لها منذ ثلاثة أعوام.
اللافت للانتباه ان من بين المفصولين كفاءات علمية عالية المستوى، وهذا يؤشر إلى أن ظاهرة البطالة، آخذة بالتفاقم، وأنها لم توفر حتى المستويات العلمية العليا، حيث تفصّل صحيفة ‘يديعوت أحرونوت’ مستويات من تم الاستغناء عنهم، فذكرت إنه برزت بين المفصولين مجموعة كبيرة من حملة الشهادات الأكاديمية بلغ عددهم 2995 أكاديميا وأكاديمية، كما ان أغلبية المفصولين من النساء. واحتلت مدينة تل أبيب المرتبة الأولى من حيث عدد المفصولين من العمل فيها، تليها مدينة القدس. وبهذا العدد ارتفع عدد العاطلين عن العمل في إسرائيل حتى نهاية يوليو الفائت إلى 187180 عاطلا، وارتفعت نسبة البطالة في المناطق الجنوبية إلى 10’، بينما ارتفعت في المناطق الشمالية إلى 9.2′.
وفي معطيات أحدث، في ما يتعلق بالاقتصاد الإسرائيلي، ذكرت صحيفة ‘السفير’ اللبنانية (4/12/2012) أن المخاوف من ركود في القطاعات الاقتصادية بدأت في التزايد في أعقاب نشر معطيات دائرة الاحصاء المركزية الإسرائيلية، وتحليل المعطيات الاقتصادية وتكهنات المصارف. وقد أظهرت هذه المعطيات أن الاقتصاد الإسرائيلي في انكماش، ويعيش حالة ركود. وأبرز هذه المعطيات تزايد نسبة البطالة وزيادة الإقالات في الوظائف. وكذلك أشارت معطيات دائرة الإحصاء إلى أن نسبة الفقر للعام 2011 كانت 19.9′ مقارنة بـ19.8′ للعام الذي سبقه.
وكان تقرير ‘يديعوت أحرونوت’ السابق ذكره، قد أشار إلى أن تمييزا واضحا في المعطيات التشغيلية لدى عرب فلسطين المحتلة منذ عام 1948 وارتفاع مستواه، إلى ما يفوق نحو ثلاث مرات؛ على ما هو الوضع عليه لدى الأيدي العاملة من أصل يهودي، فذكرت إنه ارتفعت نسبة البطالة في شتى القرى والبلدات العربية في فلسطين المحتلة وكانت الذروة في بلدة أم الفحم (المثلث) التي وصلت نسبة البطالة فيها إلى 30.’
هذا ويمكن الإشارة إلى أن منظمات المجتمع المدني، هي التي لعبت دورا بارزا في حشد المتظاهرين في ساحات وشوارع المدن الإسرائيلية، للمطالبة بحقوق ومتطلبات الشرائح المغبونة في المجتمع الإسرائيلي، خصوصا أن شرائح جديدة من الطبقة الوسطى، أخذت أعدادها تتزايد في صفوف المحتجين المشاركين في التظاهرات، بعد أن فقدوا وظائفهم وبعض مكتسباتهم الاجتماعية. كذلك يمكن الإشارة إلى أن ظاهرة الحشد الجماهيري للمشاركة في التظاهرات عن طريق الوسائل التقنية الحديثة الفيسبوك على سبيل المثال ـ تم استعمالها للحشد والتوجيه بشكل ملحوظ في التظاهرات الأخيرة؛ إلا أن صحيفة ‘هآرتس’ (7/8/2012) قالت عن هذه الظاهرة بالذات، إن الاحتجاجات الافتراضية على شبكة ‘الفيسبوك’ والمواقع الإلكترونية أثبتت جدواها في توفير منبر جاهز وسريع الانتشار، غير أنها ليست كافية لدفع تغييرات اجتماعية وسياسية جذرية قدما، لأن التغييرات المطلوبة بحاجة إلى نشاطات جماهيرية فعلية، وفق عمل يومي دؤوب.
وتكتسب الإشارة الأخيرة أهميتها، من ملاحظة أن تلك الاحتجاجات والتظاهرات تنكمش وتتراجع إن لم تتوقف، إذا ما لجأت الحكومة الإسرائيلية إلى سياسة التمويه وتفريغ زخمها الاحتجاجي وتوجيهه نحو مسارب أخرى ضد الفلسطينيين، وتجييش إعلامها وقوات الجيش والأمن لديها للاعتداء والاشتباك معهم، وشن اعتقالات ومطاردات ضدهم، والإعلان أو تنفيذ بناء مستعمرات في أراضيهم، ومصادرة المزيد من تلك الأراضي، وتخريب زراعتهم، إن كان في مواسم جني الزيتون، أو في منطقة الأغوار وتخريب مواسم جني النخيل وغيرها، أو ضد المحتجين ضد بناء الجدار العازل والطرق الالتفافية، التي تصادر مئات الدونمات من أراضيهم ومزارعهم والتواصل في ما بينهم، كما إنها تشن أحيانا مطاردات ضد العمال الفلسطينيين المخالفين للإقامة، وتلاحق وتنسف من خالف في البناء على أرضه نتيجة الحاجة الإنسانية المعروفة عالميا، بل ربما تفرض على ‘مرتكب’ البناء أو الذي زاد بعض الغرف على عقاره أن يقوم بنفسه بنسف وتدمير ما زاده، وإلا فإنه سيدفع أضعافا مضاعفة من الغرامات إن قامت أجهزة الحكومة بنسف ما تمت زيادته، أو تشن حملات عنصرية ضد المهاجرين الأفارقة في المدن والأسواق والحقول والمصانع وغيرها من معارك التسريبات والتمويهات الأخرى العديدة، لينساق وراءها جمهور واسع، حيث تتولى هي، أي السلطات الحكومية توجيهه وتسريب غضبه نحوها، عوضا عن خوض معاركه معها، والاستمرار بها والارتقاء بمستوياتها ضد سياسات الإفقار والتهميش التي سارت عليها حكومات التطرف اليميني المتتابعة.
وفي استطلاع للرأي أجري على عينة من جمهور إسرائيلي قبل الهجوم على غزة، نشرته صحيفة ‘هآرتس’ في 14/12/2012 أفاد فيه نحو 37′ من المستطلعين بأنهم يفكرون في الهجرة إلى أي بلد يوفر لهم ملجأ مناسبا، وذلك لأسباب اقتصادية بحتة، أما الشحن الأيديولوجي عن الصهيونية و’أرض الميعاد’ وغيرها من أسلحة الإعلام الموجه، فإن تلك النسبة من المستطلعين لم تلتفت إليها، ولم تأخذها على محمل الجد. واللافت في الاستطلاع عدة أمور من بينها: إن نسبة غالبة من المستطلعين تراوحت أعمارهم بين 30 و39 سنة، وهذا العمر هو عمر التكوين والتمكين التعليمي والنضج إلى حد ما في الحكم على الأشياء والأمور.
كذلك إن غالبية من المستطلعين هم من المهنيين ذوي المهارات والشهادات العالية، وأن الرابط بين الفكرة الصهيونية والتعلق بأرض الميعاد أصبحت واهية، ما دام إنها لم توفر لهم عيشا كريما، ووظائف تمكنهم من إبراز كفاءاتهم وقدراتهم، وبالتالي ترقيتها وتطويرها. وقد تمت الإشارة إلى أن مستوى المعيشة وفرص العمل أمام الشبان من الجنسين قد تراجعت في السنوات الخمس الأخيرة، فهل يمثل إنتاج الغاز والنفط المستجدين حلولا لتلك المشاكل؟
لقد بيّن بحث أجراه البروفسور سرجيو ديلي بيرجولا من الجامعة العبرية في تل ابيب أن 14 ألف إسرائيلي غادروا إسرائيل عام 2012 ولم يعودوا إليها.
هذه الأوضاع المشار إليها بمجملها، تبيّن أن مشاكل ضخمة ومعقدة وعميقة تفاعلت وتتفاعل داخل المجتمع الإسرائيلي، ويصل بعضها إلى التصادم، عدا عن مشاكل أخرى مشابهة أو مختلفة في قطاعات أخرى، إن لم تكن أكثر تعقيدا وأعمق؛ وهذه المشاكل والأزمات هي من سمات هذا المجتمع الذي تكون من بيئات ومجتمعات وأوطان وطبقات وأعراق ومستويات تعليمية وحضارية مختلفة منذ عام 1948 وما قبله. مع ذلك فإنه استطاع ومن خلال المساعدات الهائلة والحماية الدائمة من قبل دول الغرب الأوروبي والولايات المتحدة، معالجة وتفكيك الكثير منها، وشن حروب عديدة ضد الداخل العربي الفلسطيني، وضد الخارج العربي، لينتصر في الكثير من الأحيان، ويصاب بعثرات ونكسات في بعض الأحيان، وإذا ما ذكرنا وتذكرنا المساعدات الهائلة والحماية الغربية المستمرة لهذا الكيان، فإن علينا ذكر الحشد المتفوق لكفاءات وقدرات علمية كبيرة ومتطورة وحيوية وشابة تجمعت لديه من جميع بلدان الدنيا، ما وفر بيئة علمية وتقنية متطورة، دأبها التطور ومتابعة أحدث الإنجازات باستمرار. مع ذلك.. فإن علينا التذكير بأن الأزمة المالية العالمية كانت وما زالت تفعل فعلها السلبي في بنية الاقتصاد الإسرائيلي.
الجدير ذكره أن الصحافة الإسرائيلية أوردت في الفترة الأخيرة، مجموعة من الإشارات والوقائع التي تفيد بأن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، آخذة بالتوسع والانتشار، بحسب ما نقلت صحيفة السفير اللبنانية (23/10/ 2013)، حيث ذكرت ‘شعر ساسة واقتصاديون بالخطر بعد تعثر شركات كبرى، مثل ‘كيل’ العاملة في إطار المناجم، و’يتفع’ للصناعات الدوائية، واضطرارهما إما للدخول في مشاريع تقليص نشاطات، أو زيادة نجاعة، وكلها تضمنت طرد مستخدمين، كما إن التقليص الإسمي الذي أقر في ميزانية الدفاع والإشكالات التي تواجه الصناعات العسكرية، دفعا إلى الحديث عن مشروع لتسريح حوالي عشرة آلاف مستخدم في المؤسسة العسكرية والصناعية العسكرية خلال وقت قصير’.
هذا وقد دفع الوضع الاقتصادي المقلق نحو مئة من رجال الأعمال والسياسة لتكوين كتلة ضاغطة، حاورت رئيس الوزراء، طالبة منه ضرورة تحقيق الشروط من أجل إقامة دولة فلسطينية، وتحقيق تسوية، خصوصا أن دولا أوروبية عدة ومكونات اقتصادية وعلمية، أخذت تقاطع إنتاج المستعمرات في الأراضي المحتلة عام 1967. كما أخذت تقاطع مؤسسات علمية وأكاديمية أخرى. وكان لافتا أن كتلة المئة من رجال الأعمال والسياسيين، ذهبت إلى منتدى دافوس الاقتصادي العالمي الذي عُقد منذ أيام خلت، في محاولة منها للبحث عن آفاق لمعالجة الأزمة الاقتصادية في إسرائيل، ومحاولة إقناع رئيس الوزراء نتنياهو بضرورة تحقيق تسوية مع الفلسطينيين، كذلك كان لافتا أن رئيس الدولة شمعون بيريز، كان مؤيدا لبعض طروحات كتلة المئة.

‘ كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية