العرى الوثقى في براميل حلب: من مجزرة حماة إلى اغتيال الحريري

حجم الخط
2

نوبات انفلات فاشية النظام السوري من كلّ عقال، كما حدث خلال الأيام الماضية في حرب البراميل المتفجرة ضدّ مدينة حلب وبعض بلدات الغوطة (وهي التي سيكتشف وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، مؤخراً فقط، أنها أعمال ‘بربرية’!)؛ لا تحتاج إلى توقيتات خاصة، حتى إذا كانت تعبّر عن حال من السعار العنفي الاستقتالي، الذي يصيب النظام بين فينة وأخرى، لأسباب لا تكون بواعثها اعتبارات عسكرية أو سياسية أو معنوية بالضرورة. ولكن، في المقابل المشروع تماماً لأنه منطقي، كيف يمكن للمرء أن يهمل الترابط بين هياج الحقد الوحشي الهمجي هذا، في هذه الأيام تحديداً؛ وذكرى مناسبة سابقة لانفلات فاشية النظام، تظلّ قياسية من حيث الوحشية المعممة، ومعيارية في الحقد الجَمْعي: مجزرة حماة، في مثل هذه الأيام من شباط (فبراير) 1982؟
ثمة عروة وثقى، مع الاعتذار من الشيخَين، جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده؛ تربط بين هذا الانفلات الراهن للفاشية العارية، وذلك الانعتاق من كلّ محظور في تدمير مدينة عن بكرة أبيها؛ وكما أُريد لمدينة حماة 1982 أن تنقلب إلى أمثولة في الأمدية القصوى التي لن يتردد حافظ الأسد في الذهاب إليها لإنقاذ نظامه، وتلقين السوريين درساً في القمع والقتل وإبادة البشر أسوة بالحجر؛ كذلك يسير الأسد الابن، في حلب 2014، على خطى أبيه؛ ومثله يفعل ضابط مجرم حرب مثل سهيل الحسن، حين يقتدي بضباط مجرمي حرب من أمثال رفعت الأسد ومعين ناصيف وعلي حيدر وهاشم معلا… وهذه واقعة جديدة لتأكيد مقولة الابن، التي ردّدها على مسمع أهل النظام منذ الساعات الأولى التي أعقبت توريثه: ‘الأسد يحكمنا من قبره’!
وكما أنّ صحافة ‘العالم الحرّ’، في أمريكا وبريطانيا وفرنسا، منشغلة بأخبار ‘داعش’ و’الجهاديين’، أكثر بكثير من اكتراثها بأخبار المجازر المفتوحة التي يرتكبها النظام في حرب البراميل المتفجرة؛ كذلك كانت الحال، جدّ متشابهة، في تغطية مجازر حماة، وسورية عموماً، خلال أعوام 1979 ـ 1983. وهكذا، كان جون كيفنر، مراسل صحيفة ‘نيويورك تايمز’ الأمريكية الذي نقل خبراً غامضاً حول ‘أحداث في حماة’، قد أضاف ـ من باب ‘الموضوعية المهنية’، أغلب الظنّ! ـ تصريحاً لوزير إعلام النظام آنذاك، أحمد اسكندر أحمد، يفيد بأنّ المدينة تشهد ‘حملة تفتيش’ ينفذها بعثيون وبعض عناصر الأمن ‘بحثاً عن أسلحة وعصابات إرهابية’. من جانبه، كان السفير الأمريكي في دمشق، روبرت باغانيللي، قد أدّى واجب الحدّ الأدنى الذي أتاحته سياسة رونالد ريغان، الرئيس الأمريكي يومذاك، في الموقف من أنظمة الاستبداد العربية عموماً، ونظام الأسد خصوصاً؛ فأصدر تصريحاً مقتضباً يقول إنّ ‘السلطات السورية عزلت مدينة حماة عن العالم الخارجي’، بسبب ‘وقوع اضطرابات خطيرة’.
أسبوعية الـ’إيكونوميست’ البريطانية، التي لا تقلّ عراقة عن زميلتها اليومية الأمريكية، كتبت (ولكن بعد قرابة شهرين على المجزرة!) أنّ ‘الرواية الحقيقية’ لما جرى في مدينة حماة ‘لم تُعرف بعد، ولعلها لن تُعرف أبداً’. وإذْ اعترفت بأنّ المدينة صارت ‘خرائب’ بعد أن قُصفت بالدبابات والمدفعية والطيران طيلة ثلاثة أسابيع، وأنّ ‘جزءاً كبيراً من المدينة القديمة قد هُدم تماماً، وسُوّي بالجرافات’؛ فإنّ المجلة لم تتحدث البتة عن مجزرة، وأسهبت في توصيف الصراع على النحو الأكثر غموضاً وركاكة في آن: متمردون، ضدّ قوّات حكومية! ولم تكن الـ’إيكونوميست’ أفضل حالاً من موقف الحكومة البريطانية، وتحديداً مارغريت ثاتشر رئيسة الوزراء آنذاك، رغم الجفاء الظاهر الذي كان يهيمن على العلاقات البريطانية ـ السورية في تلك الحقبة.
صحيفة ‘ليبيراسيون’ الفرنسية شذّت عن القاعدة، للإنصاف، وذلك بفضيلة الروح الفدائية التي تحلّى بها أحد كبار مراسليها، سورج شالاندون، الذي خاطر بحياته وتسلل إلى حماة باسم مستعار (شارل بوبت)، وصفة كاذبة (باحث في الآثار)؛ فكان أوّل صحافي أجنبي يدخل المدينة الشهيدة، ويسجّل بأمّ العين الكثير مما حاق بأهلها وبعمرانها، القديم قبل الحديث، من قتل وتخريب وتدمير. ‘الأموات أخذوا يُعدّون بالآلاف أوّلاً، ثمّ بالمئات، ثمّ بالآلاف خلال الساعات الأولى فقط. لقد رافقني أحد وجهاء المدينة، فتنقلنا من بيت إلى بيت، ورأينا العائلات الثكلى، والجثث التي تُجرّ من الأقدام، أو تُحمل على الأكتاف’؛ كتب شالاندون، متقصداً أن يخنق في داخله روح الروائي، هو المتمرّس في السرد القصصي والحائز على جوائز مرموقة في هذا المضمار، لكي ينتصر لواجب الإخبار الحقيقي الصرف، الأشدّ وقعاً في النفس الإنسانية من أي أفانين تخييلية.
وكما يعمد الأسد الابن اليوم في حلب، تقصد الأسد الأب إنزال العقاب بمدينة حماة في صفاتها كافة، البشرية والاجتماعية والعمرانية والتراثية، على مستوى الأفراد والعائلات، والشوارع والأحياء، الأطفال والنساء والشيوخ قبل اليافعة والشبان والرجال… على سبيل الأمثلة، انطوت مجزرة حيّ ‘حماة الجديدة’ على تجميع الأهالي في الملعب البلدي، ونهب بيوتهم، ثمّ العودة إليهم وقتل قرابة 1500، بنيران الرشاشات؛ في مجزرة حيّ ‘سوق الشجرة’، قُتل 160 مواطناً، رمياً بالرصاص أو دفناً تحت الأنقاض، وحُشر 70 آخرون في متجر لبيع الحبوب، جرى بعدئذ إشعال النار فيه؛ مجزرة ‘حي البياض’ شهدت قتل 50 من المواطنين، وإلقاء جثثهم في حفرة مخصصة لمخلفات معمل بلاط؛ في مجزرة ‘سوق الطويل’، تمّ إعدام 30 شاباً على سطح السوق، و35 آخرين حُشروا في متجر للأدوات المنزلية؛ مجزرة ‘حي الدباغة’: حشر 35 مواطناً في منشرة للأخشاب، وإشعال النار فيها؛ مجزرة ‘حي الباشورة’: إعدام عائلات بأكملها، من آل الكيلاني والدباغ والأمين وموسى والقاسية والعظم والصمام وتركماني؛ وهكذا تكرّرت، أو تنوّعت، التفاصيل الرهيبة في مجازر أحياء العصيدة والشرقية والبارودية ومقبرة سريحين والمستشفى الوطني…
كذلك تقصّد الأب، يومها، في حماة، كما يحذو حذوه الابن اليوم، في حلب؛ تنفيذ مجزرة صريحة واضحة، صاخبة ومعلَنة، بالدم البارد، عن سابق تصميم وتصوّر؛ لكي تبدو، من حيث الشكل، بمثابة الخطّ الأخير الفاصل في المعركة بين النظام والفصائل الإسلامية المسلحة. ولهذا فقد وافق على إعطاء القادة العسكريين نوعاً من التفويض المطلق، وترخيصاً صريحاً بأن تُستخدم كلّ الأسلحة، وكلّ طرائق القمع والردع والعقاب، حتى إذا اقتضى الأمر تهديم أحياء بأكملها، أو إلحاق أضرار جسيمة بالمساجد والكنائس. أمّا من حيث المضمون، فقد كانت المعركة أعمق، وأوسع نطاقاً؛ لأنها، بحسب البريطاني باتريك سيل، كانت ‘الفصل الأخير في صراع طويل مفتوح’، وهذا يفسّر الوحشية الرهيبة للعقاب الذي فُرض على المدينة. فوراء النزاع المباشر كانت تكمن العداءات القديمة متعددة المستويات بين الإسلام والبعث، والسنّة والعلويين، والريف والمدينة’. وبالطبع تغاضى سيل، صديق النظام، عن طبائع أخرى كامنة في بنية الاستبداد والفساد والتجنيد الطائفي والحكم العائلي التوريثي.
بيد أنّ عروة وثقى ثانية تحيل حرب البراميل الراهنة إلى سياقات سابقة، إذْ كيف لا يذهب المرء إلى الذكرى التاسعة لاغتيال رئيس الوزراء اللبناني، رفيق الحريري؛ تلك العملية التي نُفّذت في حينها على خلفية متماثلة تخصّ ضائقة النظام، وإنْ كانت أقلّ مسّاً بمصائره الوجودية. القتيل، للتذكير، كان قد تحوّل إلى الشخصية الأهمّ في المعارضة اللبنانية لهيمنة النظام، الأمنية والعسكرية والسياسية، على معادلات لبنان؛ وباتت أوراق القوّة العديدة، المحلية والإقليمية والدولية، التي استجمعها تدريجياً، بمثابة عـوامل ضغـط شـديد علـى الأسد وحلفائه اللبنانيين.
والأرجح أنّ ‘الدماغ’، الذي خطّط لعملية الاغتيال، زانَ كفّتَيْ الربح والخسارة على النحو التالي: إذا كان وجود النظام السوري في لبنان سوف يتقلّص أو يضعف،أو ينتهي بانسحاب تامّ ذات يوم؛ فإنّ الوجود السياسي ينبغي أن لا ينحطّ إلى درجة تضع سورية على هامش المسألة اللبنانية، فتخسر دمشق آخر ما تملك من أوراق قوّة. المطلوب، إذاً، إزاحة هذا الرجل عن المشهد، ومن الخير أن تتمّ الإزاحة بطريقة توجّه الرسالة القوية التي تقول ببساطة رهيبة: نحن استقرار لبنان، ولا استقرار في لبنان دون هيمنتنا!
اليأس، دافع الظهر إلى الجدار، والباعث على السلوك الانتحاري، كان خيط ارتباط النظام السوري باغتيال الحريري؛ خاصة وأنّ الأسد الوريث، المريض بعُصاب ‘المقاومة’ و’الممانعة’، وجد نظامه في خطّ الدفاع الأخير، ولم يتبقّ لديه ما يخسره أكثر، أو لم يعد لديه ما يكسبه إلا عن طريق المقامرة القصوى. ساعة اغتيال الحريري كان مطلوباً من الأسد أن يضبط الحدود مع العراق، ويجمّد نشاطات قيادات ‘حماس’ والمنظمات الفلسطينية المقيمة في سورية، ويهدىء ‘حزب الله’ اللبناني على الجبهة مع إسرائيل ويضبط صلاته بإيران وشيعة العراق أيضاً، ويضغط على الفصائل الفلسطينية الموالية كي تقبل ما يقترحه الرئيس الفلسطيني محمود عباس من هدنة مع الإسرائيليين… كلّ هذا كان كثيراً على نظام ظلّ يلبّي هنا وينحني هناك ويخدم ذات اليمين وذات الشمال، فلا يلقى من واشنطن جزاءً وفاقاً أو مثوبة أو حتى ترضية بسيطة!
مهدي دخل الله، وزير إعلام الأسد آنذاك، قدّم خدمة ثمينة لكلّ حائر في أمر العروة الوثقى التي تربط النظام باغتيال الحريري: ‘هذه الفوضى الأمنية في لبنان سببها انسحاب الجيش السوري من أكثر من منطقة في لبنان وكذلك الانسحاب الأمني السوري’؛ وأيضاً: ‘استقرار لبنان الأمني مهدد فعلاً حالياً’، و’من يريد انسحاب الجيش السوري بشكل كامل من لبنان عليه أن يعزز استقرار لبنان ككل’. في شرح أبسط لهذه التصريحات الميلودرامية، ثمة رسالة مفضوحة: تريدون منّا الالتزام بقرار مجلس الأمن الدولي 1559، بحيث ينتهي إلى انسحاب قوّاتنا من لبنان؟ سنفعل… ولكن بعد أن نعيد لبنان إلى حال أسوأ ممّا كانت عليه حين دخلناه سنة 1976، وبعد أن نشعل فتنة تردّ البلد إلى أسوأ سنوات الحرب الأهلية!
هي، في تنويعات سورية، أشدّ وحشية وهمجية ـ و’بربرية’، لكي يرضى جون كيري! ـ مضامين الشعار الأشهر الذي اعتنقه النظام منذ تظاهرة الحريقة، في مثل هذه الأيام قبل ثلاث سنوات، وحتى اليوم: ‘الأسد، أو نحرق البلد!’. هذا بافتراض أنّ التاريخ سوف يتسامح مع هذا العصاب، القاصر أنّى ذهبت أقاصيه الهمجية الوحشية، الآيل حتماً إلى سقوط واندحار واندثار.

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حسين المغربي:

    هو نظام والله ساقط ساقط ساقط حتى وان تسلح بالحديد والنارواباد نصف السوريين وارسل الباقين الى السجون والمنافي,هو نظام ساقط بعد ان اوغل في دماء الابرياء الى الركب وهو نظام بني على الطائفية والعنصرية فمصيره الى زوال ,اربعون سنة مع نظام ديموقراطي تفرظ التغييرمن اجل ضخ دماء وافكار جديدة فكيف بنظام بهذه الوحشية والعنجهية بني على القتل والتشريد ,نظام توافرت فيه كل اركان المافيوزيةالقتل النهب المنظم والصمت الرهيب, نظام سينتهي كما انتهت انظمة قبله سلكت مسلكه وعلى راسها نظام مقبور ليبيا وسياتي يوم نقول فيه نظام مقبور سوريا انشاء الله والسلام

  2. يقول عقيل:

    تسلم يا سيد صبحي الحديدي وأدام الله لنا صفاء حلمك وتفكيرك. نعم الذاكرة السورية واللبنانية تعج بآلاف الصور لهؤلاء القتلة ال الاسد وأعوانهم المجرمين. حبذا لو ذكرت كذلك السيد كمال جنبلاط وكيف قتله السفاح حافظ. هذه عصابة من الضباع لا تمت للإنسانية بصلة لا من قريب ولا من بعيد ومصيرها محتوم محتوم ، الفناء والاندثار في مزابل التاريخ. برجاله ونساءه ونصرة أحرار العالم سينتصر الشعب السوري البطل وسيقتص من القتلة المجرمين لا محالة.

إشترك في قائمتنا البريدية