سينما الرماديات: معالجات شائكة لتفاصيل انسانية

حجم الخط
0

‘إن الأمر ليس أبيض وأسود، إنه دوما رمادي’
جملة جاءت على لسان احدى شخصيات فيلم ‘ august: osaga county’، لتكون عنوان الخانة الأكبر التي يتمركز عندها الفيلم بأكمله، في جل عناصره، فالحبكة ذاتها تحمل من الرشاقة ما يؤهلها لكي تدعو إلى البسمة وتثير الشجن، والشخصيات تنغلق على نفوس من فرط شقائها أضمرت نوعا من القسوة، وكذلت أتت أيضا العلاقات التي ينغمسون فيها معا، وسط هذا المحيط المتوهج حرارة الذي يغمرهم ولكنه لا يفلح في اذابة الثلجيات التي باتت تعوّق تواصلهم، وانما تبقى لتوخز جنبات أي خيط باق على جمعهم معا.
إنها تلك المعالجات الشائكة، التي تتحد وتطلق عنان النفس الإنسانية، فتتكفل بأقل تفاصيلها شأنا وتسلط الأضواء حوله، ليتجلى موضع الداء الخبيث الذي يكمن دوما في البساطة، فماض عقيم لا قيمة له، بات يحكم عائلة بأكملها، يقودها إلى الجنون على طريق ممهد لا يبدو في مظهره موحشا لا يرغب أحدهم في أن يمنحه خطواته طواعية، لا تسوده الظُلمة كليا ولا يحتفظ بنهاريته إلى النهاية، بينما يتبدى رماديا شاحب اللون، تماما كوميض الستائر الكئيب التي علقها رب الأسرة على جدران المنزل ليحجب الضوء، ليتماهى الليل مع الصباح في توقيت واحد شبيه لعل الزمن يتوقف لبرهة ويدعه في سلام .
الشخصيات
فيوليت ‘ميريل ستريب’هي قطعا الشخصية الأهم، هي موطن الداء الذي أودى بهذه الأسرة إلى شفا حفرة الجحيم دون أن يدعها حتى أن تصل إليه في سلام، هي المرأة التي انغلقت على تشوهات ما في ماضيها، وتحديدا طفولتها، مما أدى لاختزالها الكثير من الأسى على الرغم من كونها شخصا طيبا قادرا على الحب، ومعادلة كهذه هي الأصعب والأكثر مدعاة للقلق، فهي في أصعب مراحل تطور هذيانها ـ توقيت أحداث الفيلم ـ تظل محتفظة بلمسة رصانة وحنان وحب، فما بالك وقتما كانت الأسرة مجتمعة في شيء من النقاء القديم، بالتأكيد كانت تمثل ملاذا ما لأطفالها وزوجها تزيد غوايته حينما تلتمع سماته الإيجابية، بينما يستفحل أثره وتُبَث سمومه بعناية في قلب الصغار ووالدهم عن غير وعي، بالتدريج فسدت علاقة الزوجين وقبلها شيء في نفوسهما بينما حرصا على أن يُكملا معا، ونمت الفتيات الثلاث كل منهن بوجع ما.
المشهد الأول كفيل بأن يٌعرفك إلى فيوليت، طلتها المقبضة والارتباك الذي تُخلفه وراء حضورها، التوتر الذي أكل علاقة الزوجين وأدماها. وفيه يمكن مراقبة الزوج أيضا، والشعور بما قد غلف ذاته من لامبالاة لم تصل إلى ذورتها في العدمية، فهو التجسيد الأجمل للشخصية الذي يدفعك إلى الاقتناع بأن هذا الرجل بالفعل لابد له أن يُقدم على الإنتحار، كيف تمت المواجهة بينهما في لحظات تبدو تافهة، راكم من احساس غامض ومؤذ بات متأصلا في تعاملهما. إنه مشهد من المشاهد الكُثر التي أجادت في هذا الفيلم واستطاعت أن تجمع تاريخ سنواتي صاخبا في نظرات وايماءات وجُمل بسيطة .
بربرا ‘جوليا روبرتس’ هي أكبر أختيها نصيبا من المعاناة، ولذلك هي أول من أقدم بينهن على محاولة الهرب، ولكن بعد فوات الأوان، فشيء من طباع والدتها انصبغت عليه، وأفسدت حياتها العاطفية والزوجية، فبربرا مع مرور الوقت باتت تُشبه فيوليت بشكل أو بآخر، وهذا ما قد يبرر الكراهية المتبدية بوضوح في عينيها كلما نظرت إلى أمها، وقد أعربت عنها روبرتس بإحساس أكبر مما احتمله أي توصيف جاء في السيناريو، فهي أكثر من تورط مع فيوليت بعد الأب، والجميل أن السيناريو ظل محتفظا بالمنطقة الغيبية التي لم تستطرد في تفصيل الحدث بعينه، فهو ليس ماديا ملموسا، بقدر ما كان تراكمات مشاعرية، أجاد صياغة حجم صعوبتها مثلا في جملة قالتها بربرا لإبنتها عندما كانت تحدثها عن مواعدتها قديما للشرطي الذي جاء يخبرهم بمقتل أبيها، سردت لها مغامرتهن المراهقية ومن ثم قالت في جملة ‘ لو كنا نعلم المستقبل لما كنا غاردنا الفراش’ وتبعتها بجملة قاصدة بها إبنتها ‘ حاولي ألا تموتى قبلي، لا أبالي بكم الحماقات التي ترتكبينها في حياتك، او كيف تعمدين إلى افسادها، فقط عيشي’، إن هذه الكلمات يكمن فيها الوجه النقي الحقيقي لبربرا، حقيقة الشخص الذي كانت تملكه قديما ومازالت تستبقي على جزء منه في داخلها، بينما يستحوذ أثر شبح أمها على الباقي منها، وتراها في حُلة أخرى ومنهاج مغاير تماما، عندما توبخ ابنتها طوال الوقت بسبب أشياء تافهة، فيها نزعة سيطرة وميل إلى التدخل في أدق تفاصيل حياتها. وعلى نفس الوتيرة تخلخلت علاقتها بزوجها على رغم الحب بينهما، إلا إنها ستظل بالنسبة له في آخر المطاف تلك المرأة المزعجة كما أخبرها في أحد المشاهد.
أما الابنة الثانية كارين ‘جوليت لويس’، فالأضرار التي ألّمت بها شكلية أكثر، فتجدها على اختيار بالتمسك بطفولتها أملا في أن تمدها نوعا ما بالأمان، تدعو للنفور عندما تبدو خارج الزمن، تؤمن بما قد لا يحدث، وترى في نفسها ماهو غير حقيقي، وتظل قابضة على ابتسامتها ومرحها على الدوام، حتى بعد أشد أوقات ذعرها على العشاء بينما كانت تنهرهم فيوليت جميعا لأسباب غير مفهومة، كارين أكثر من أصابه الهلع، وأكثر من غالبه وتملص منه في وقت قليل، فهي بالغت في ابقاء نفسها دوما على مسافة من كل ما يحدث حولها لدرجة أظهرتها كمختلة في بعض الأحيان، بينما في حقيقة الأمر، هي أكثر من نطق بالحقيقة، في المشهد الذي واجهت فيه بربرا قبل رحيلها، فهي على درجة وعي تسبق بها الآخرين ولكنها لا تجنح إلى استخدامها، وتفضل أن تكون تلك السيدة الخرقاء التي تظن نفسها جميلة وتأمل في الزواج من رجل يناسبها على الإطلاق.
بينما تظل ايف، هي الأبعد عن تأثير والدتها، اللهم بعض الإنعزالية والإرتباط بهذه الحياة العقيمة على اعتبار أنها أكثر الفتيات قربا في السكن، ولكن قربها بهذا الشكل مع قدرتها في الحفاظ على ذاتها معافاة، منحها قوة داخلية لم تتبد عليها شكلا بقدر ما اختُزنتها في نفسها، فتراها قادرة على اتخاذ القرار بجرأة في نهاية الفيلم، بداية من اللهجة التي كانت تتحدث بها إلى بربرا في مشهد مصارحة أختيها بأنها ذاهبة، وحتى المشهد الأخير قبل رحيلها، فهي على الرغم من سكونها واذعانها إلا أنها في حقيقة الأمر لم تتورط في هذا العالم كما المتوقع وانما هي قادرة على طرحه أرضا في أي وقت.
شخصية العمة فاي وزوجها، حملا مسحة من الارتباك أكثر من الغموض، والعمة فاي تحديدا وهي أخت فيوليت أتت دوما في سياق مكمل لها، لم تحمل سمات خاصة تجعلها على الأقل مسخ فيوليت المشوه، وانما تبدت كشخصية درامية مبتورة، توهج وجودها أحيانا وفي أحيان أخرى بدا غير ضروري على الإطلاق، وبالتالي كان الزوج كذلك .
السيناريو
التحدي الأكبر في هذا السيناريو، أنه من المفترض في زمن شديد القياسية أن يعبر بالمُشاهد في بحر تلك العلاقات المعقدة، مُضّمِنا كل شخصية القدر الكافي من العمق الذي يمكن استشفافه أثناء طرح هذه العلاقات التي تنطوي في مظهرها الحالي على بعض من قسمات زمن فات، يقرر المُشاهد تفاصيله كما يحلو له، ولكنه يظل مغلفا بانطباع شعوري ما، وهذا بالضبط ما أجاد فيه السيناريو، ففي أول المشاهد التي تجمع بربرا بوالدتها، تجد الكثير من أساسات علاقتهما قد انتصب يعلن عن نفسه، على الرغم من أن فيوليت تبدو الأقوى، إلا أنها الطرف الأضعف أمام بربرا، لا تقوى إلا على التحرش بها من على مبعدة، وبينما تكشر الثانية عن أنيابها، تعود فيوليت إلى حالة الاستكانة من جديد، بينما يظل حاجز آلام السنوات بينهما جليا رغم الحب الذي مازال يجمعهما.
على نفس الوتيرة جاء مشهد العشاء وهو المشهد الملحمي الأقوى، الذي جمع في ايفاء الكثير عن الشخصيات والعلاقات فيما بينهما، وساهم في تعرية ذورة التأزم الذي وصل إليه اجتماعهم والذي من شأنه أن يفسد اية خطط مستقبلية قد يطمحون فيها، بينما يمنحك بصيرة بعيدة لترى بها هذا المنزل مهجورا بالشكل الذي تبدي عليه في نهاية الفيلم. فقد تم الإعداد لهذه البنية الدرامية الدقيقة، فاستُخدمت كل شخصية لكي تكون محركا لحدث يجر آخر معجلا بالنهاية، ومفسحا المجال لرؤية الشخصيات وظروف الماضي من منظور أوضح.
مشهد مشاجرة بربرا وزوجها جاء مثاليا لتجسيد صدع علاقتهما، على عكس مشهدين آخرين لا سياق لهما، المشهد الأول عندما أراد أن يضع يده على يدها في السيارة، والمشهد الأخير بينمها والذي تسأله فيه إن كان سيعود إليها من جديد، حيث يضطرب في مخيلة المشاهد شكل الانفصال الذي قد اتفقا عليه، ولا يعبر عن مشاعر متناقضة بقدر ما يشي بخطأ ما لا يتناسب مع طبيعة الشخصيتين واحساسهما، تماما كما جاءت العلاقة بين العمة فاي وزوج فيوليت والتي يتم الإعلان عنها قبالة انتهاء الفيلم، فبدت مفتعلة، أثقلت على الدراما البسيطة في تعقيدها، ومنحتها نكهة حريفة لم تليق بحُلتها الهادئة منذ بداية الفيلم.
آخر كلمتين:
ـ وقد لبثت فيوليت، تتساءل قبل معرفتها بإنتحار زوجها وبعدها، ‘لماذا وظف هذه الفتاة؟ لماذا وظف طاهية ونحن لم نأكل كثيرا’.. لتأتي في نهاية الفيلم وترتمي في أحضانها بعدما يهجرها الجميع، فالبتأكيد تعرف في قرارة نفسها، وفي تلك اللحظة بالذات لماذا وظف زوجها هذه الفتاة.
ـ جوليا روبرتس، خُلقت دوما لتكون ساحرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية