حين لم يجد الشعب المصري الجاتوه!

ما من يومٍ يمر إلا ويتبين بطريقةٍ لا تقبل الجدال أن حراك 30 يونيو الثوري لم يكن مجرد تعبيرٍ عن تحالفٍ عريض ضم كل رافضي حكم الإخوان، وعلى رأسهم حزب مصر الأكبر، حزب الكنبة، وإنما مثل بصورةٍ أساسية حصان طروادة الذي لم يتسلل عبره الفلول وكل أعداء الثورة ورافضيها فحسب، وإنما ـ وهو الأهم والأخطر في نظري ـ مقولاتهم في بخس قيمة حراك 25 يناير الثوري المهيب بكل ما يمثله، ودحض مشروعية الثورة كوسيلة تغيير اجتماعي أمام انغلاق كافة السبل الأخرى.
وإنه لأمرٌ جد محزن ولافت أن نجد أنفسنا مطالبين في هذا الوقت المبكر للغاية، ليس فقط بالدفاع عن ثورة الشعب المصري، وسائر شعوب المنطقة، وإنما عن حقه في الثورة من الأساس، خاصةً أن ما تحقق على صعيد إعادة هيكلة الدولة وتمثيل الثورة سياسياً يكاد يكون منعدماً، لأن النظام بما تحمل الكلمة من معاني الانحياز الاجتماعي والاقتصادي لم يسقط، وبالتالي فهو الذي يتحمل مسؤولية وجريرة كل أخطاء ما اصطلح على تسميتها بـ’المرحلة الانتقالية’، الأمر الذي سأعرض له في ما يلي.
يزايد علينا أعداء الثورة هذه الأيام في حملةٍ مسعورة تجمع بين منهجية مَحاور الهجوم وفوضى المقولات، مما يدفعني إلى التذكير بنقاطٍ فاصلة رداً على حرب الردة تلك.
أما عن الهجوم الممنهج فإنه مما لا يخفى على أحدٍ أن النظام والإعلام في مجمله يشنان حملةً ذات وتيرةٍ منتظمة على مجموعة من الناشطين، ويقومان بتسريب ما سمياها ‘وثائق’ يدللان بها على ضلوع عناصر أجنبية في مجريات أحداث الثورة عن طريق فتح السجون، ومن ناحيةٍ أخرى تجد فوضى المقولات من قبل الإعلام ذاته الذي بات يزخر بما لا يحصى من تلك الظاهرة الجديدة، برامج الـ’توك شو’ التي تردمنا بكمٍ مخيفٍ من ‘الخبراء’ الذين لا نعرف تماماً من ‘خبَّرهم’ يصدعون رؤوسنا هم ومضيفوهم بغث التنظيرات ومشتت الأفكار والانطباعات، حيث تختلط الخرافة بالحقيقة، ويتم تسويق التدليس في ثوب الخبر، وكل ذلك يصب في رسالةٍ بسيطة مفادها، أن ما حدث في مصر، وسائر المنطقة، كان مؤامرةً منذ البداية، وأن كل ما تبع ذلك من فوضى أمنية وانقطاعٍ في الأرزاق هو نتيجة ذلك، وكأن ذلك لا يكفي فيسوقون لنا أمثلةً سلبية متناثرة، من دون أي اتساق، تخدم أغراضهم من مسار الثورة الفرنسية كطول مدتها وصعود نابليون وعدد القتلى والعنف، ناسين أو جاهلين قيمتها التحررية في ما يتعلق بحقوق الإنسان والمواطن، ناهيك عن الضرورات التاريخية التي حتمت اندلاعها، وهو الأهم في نظري، ثم يختمون أحاديثهم بإغاظتنا ورفع ضغطنا بدعوة الناس للاقتداء بمن سبقونا، أي الغرب الذي يدعون تآمره على مبارك، لأننا ‘لن نخترع الدولاب’، وهي في ما يبدو الاستعارة المفضلة لدى الكثير من هؤلاء الجهابذة.
وأود بدايةً أن أذكر نفسي قبل القارئ بأن من يقولون هذا الكلام لم يأتوا من المريخ ولم يهبطوا من السويد، ولا أعتقد أنهم يعيشون في برجٍ عاجي حيث نعلم عن الكثيرين منهم أن طبيعة أشغالهم ومصالحهم اقتضت احتكاكهم بالحياة اليومية قبل 25 يناير، بضيقها وقرفها ورثاثتها.. لكنهم يتجاهلون كل ذلك ويغفلون مسؤولية مبارك ونظامه عن حال التردي والركود التاريخي الشنيع الذي انحطت مصر إليه طيلة عهده الميمون، كما يغفلون التفاوتات الاجتماعية البشعة التي خسفت ما يزيد على نصف الشعب إلى ما دون خط الفقر، نتيجة انحيازات النظام الاجتماعية وسياساته الاقتصادية وتنصله الصريح أو المقنع من كل التزاماته تجاه المواطنين، مما تسبب في ظهور العشوائيات المليونية التي يساوي عدد بعضها مجمل سكان بعض دول الجوار.. يتجاهلون عن عمدٍ أو غباء، أو كليهما، البطالة المستشرية كالطاعون، وأن ظاهرة انتشار الجريمة والتحرش الجنسي وتعاطي المخدرات كانت قد ظهرت في عهد المخلوع نتيجةً للأسباب الاجتماعية التي أسلفت، وأن السينما المصرية، خاصةً في مرحلة المقاولات، قد أشبعتنا وأمرضتنا تناولاً لها! وكأن كل ذلك لا يكفي حتى خرجوا علينا بمزحة، بل أضحوكة المؤامرة.. ما شاء الله كأن مصر مبارك كانت تحتاج إلى من يتآمر عليها حسداً على منجزاته، وكأنه قال ‘لا’ لأمريكا ولم يسلم كل شيء في سبيل الاستمرار والتوريث، فهي تتآمر عليه وتنتقم منه! وكأن كل التردي الذي أسلفت لا يكفي لاندلاع ثوراتٍ، لا ثورة واحدة.
بعيداً عن التهكم المغيظ لا بد من التذكير وتقرير بضع حقائق عن هذا التاريخ الذي لم يتقادم بعد، بحيث تنطمس معالمه، فنحن ما زلنا نعيشها.
لقد شهدت مصر في عهد مبارك تردياً منتظماً لم تعرفه ربما منذ نشأة الدولة الحديثة، حتى وصلنا إلى 2010 وتزوير الانتخابات الذي لا أعتقد أن أحداً نسيه بعد، حين أطلق مبارك كلمته الشهيرة أمام السخط المتنامي ‘خليهم يتسلوا’. ولا أبالغ حين أقول ان هذه الكلمة بما تحمله من عندٍ وتعالٍ وجهلٍ حددت مصيره وآذنت بالثورة. رجالات نظامه شيوخٌ طاعنون ويعتمد قبضةً أمنيةً خانقة ويرفض أية إصلاحاتٍ أو تغيير.. هو الذي خلق ذلك المزيج القابل للاشتعال من القش والبنزين، وليس الناشطين الذين يخونون الآن، وبغض النظر عمن الذي قدح شرارة الحراك فقد كان شعبياً ثورياً بامتياز، إذ ليس في مقدور حفنةٍ من الناشطين إسقاط نظام.
أما عن تسلل بعض العناصر من خارج البلاد فإن ذلك يشكل إدانةً قاطعةً له، إذن بما نصف عجز ما يزيد على المليوني جندي من الأمن المركزي والجيش عن حماية شريطٍ حدودي هو بضعة كيلومترات، إن لم يكن الفشل بعينه؟…لكن أعداء الثورة سيردون بكلمة واحدة: الثورة.. لقد كانت القوات مشغولة بالثورة في الشارع.. هو ذلك إذن! إن الحدث الأساسي والمحوري هو ثورة هذا الشعب في شوارع هذا البلد، ليردوا عليك بأنهم دهماء ورعاع، وتلك إدانةٌ أخرى للنظام الذي انحدر بشعبه لهذا المستوى، حارماً إياه من أية حقوق، وأحياناً أعِد من أشتبك معه في النقاش بأنني سأحاول في المرة القادمة أن أجلب شعباً ارستقراطيا و’شيك’ ليقوم بالثورة!
إن ما جعل الثلاث سنوات الماضية مؤلمة من حيث وقف الحال والصراع السياسي، هو مماطلة النظام في التنازل عن أية مكتسبات وحقوق للشعب، ومحاولته كسب الوقت لدرس الأرض وإعادة ترميم نفسه، بالإضافة إلى المنحى العقابي الذي لم يغب أبداً من قبل أجهزة الأمن، متجسداً في الفوضى المتعمدة؛ إن كل تحركات النظام تفهم على هذا الضوء، بدءاً من التحالف مع الإخوان واستفتاء مارس إلى ما وصلنا إليه اليوم.. هذا هو ما يتجاهله أو يتعامى عنه أعداء الثورة.
هم يتصورن أنه كانت ثمة بدائل لمن لا يجدون الخبز، كأن يأكلوا ‘البريوش’ أو’الجاتوه’ مثلاً، كما اشتهر عن ماري أنطوانيت (وهي مقولة بالمناسبة مشكوكٌ في صحتها).
لم تثر جموع الشعب المصري من باب الملل، وإنما لأنه فاض بها وتأكد في وعيها أن مبارك لن يقدم أي تنازلات.. لقد ثارت لأن سياسات النظام النيوليبرالية تسببت في إفقار الملايين وحرمتهم من أبسط صور الدعم والضمانات الاجتماعية ثارت لأنه لم تعد هناك بدائل بعد صبر ومحاولات ما يزيد على الثلاثين عاماً.. ثارت لأنها لم تُحصِل الخبز ولم تستطِع شراء الجاتوه.

‘ كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول متابع ..غزة:

    ان تستفيق من حلمك اليوم خير من ان تبقى مسترخيا فيه الى مالا نهاية….من الثالث من يونيو وانت تكتب عن الثورة والموجة الثورية واليوم……انت تعت ف بعمالتها وبانها فوتوشوب ومطية للسيسي ليركببدباباته الموجة وينفذ اجندات البترودولار الامريكية الاسرائيلية……وعقبال ااكاتب عرد الحليم قنديل……

  2. يقول جزائري حر:

    الكاتب ما زال يعاند و يضع الاخوان و الدولة العميقة في نفس القفة و نسي أن النخبة التي تدعي أنها مدنية هي التي سلمت الاخوان لقمة سائغة للجيش و الشرطة بسبب عدم قدرتها على كسب الانتخابات نكاية بهم. و لا أظن أنهم كانوا مغفلين بل كانوا يعلمون جيدا ان الجيش لن يسلم السلطة, و لكنها عقلية اذا لم اتحصل على الكعكة فسوف احرم منها خصومي الاخوان و ليذهب الشعب الى الجحيم.

إشترك في قائمتنا البريدية