بصرف النظر عن فرانكفورت

لمن يؤمن بالعلامات، كان هدم مباني أرض المعارض بالقاهرة عام 2010 فألاً بنهاية حقبة مبارك، وبالقدر نفسه كان تبشيرًا بدورات من معرض الكتاب تعيش فيها الكتب داخل خيام إيواء، تناغمًا مع ما آل إليه مصير الإنسان العربي بعد عسكرة ربيع حريته.
أرض المعارض لم تكن مكرسة لمعرض الكتب فحسب، لكن معرض الكتاب كان أشهر وأفقر مناسباتها. وقد صار قرار الهدم واحدة من قضايا الفساد، متهم فيها مبارك وعدد من مسؤولي نظامه بإهدار ستة مليارات جنيه من المال العام. وسواء أدين مبارك أو تمت تبرئته فالمحاكم والمحاكمات لا تعرف سوى المال بلغة الأرقام، والأرقام هي أقل الخسارات شأنًا.
لن تدين المحكمة، المتهمين على القيمة المعمارية للمباني المهدومة، ولا على الجهل بالمعنى الحضاري للمدينة التي جرى تجريدها من كل وظائفها الجمالية بتحزيمها وشق قلبها بالجسور العلوية القبيحة وتجريدها من منشآتها الثقافية التي ينبغي أن تظل في القلب منها مثل المتاحف وساحات العرض والإحتفال.
تحت الولع الجهول بكلمة ‘العالمية’ تم إنشاء المتحف الكبير خارج القاهرة بزعم أن المتحف المصري بالتحرير ضائق بالمقتنيات والقاهرة ضائقة بالبشر، ولم يكن من الصعب توسعة المتحف في مكانه على حساب المباني المجاورة كما تفعل الدول التي تحترم المكون الثقافي لمدنها، ليبقى المتحف مركزًا للقاهرة، قريبًا بذات القدر من كل سكانها وقريبًا من حركة السياحة، لكن جنون البناء وعمولاته والجهل بوظائف المتحف أصمت آذان النظام، الذي استدار يفتش عن مقاولة كبيرة أخرى؛ فكانت الضحية سرايات العرض في أرض المعارض.
ومثل شعار عالمية المتحف في منفاه الجديد، كان الشعار ‘مدينة عالمية للمعارض’ وبتغريب في التسمية ‘إكسبو سيتي’ يليق بألسن فريق النهب المكون من غرباء بلا تاريخ هبطوا على الحكم والثروة الحرام تسللاً خلف غلام مبارك الحالم بعرش مصر.
وتم تكليف المعمارية الفذة زها حديد لعمل تصميمات المشروع الذي سيقام خارج القاهرة كذلك طبقًا لفلسفة الضواحي المعزولة. وفجأة تم التراجع عن تغيير المكان وخططوا لاستزراع مشروع زها حديد في مكانه الأضيق من تصورها، ثم تراجع التاريخ عن دعم خطة التوريث، لكن إزالة المباني كانت قد تمت، قبل إزالة مبارك وابنه.
خسرت العاصمة مجموعة معمارية تمثل الحقبة الناصرية، مدرجة ضمن سجل المباني المتميزة، إذ تمثل القاعات بفراغاتها الضخمة ومساقط هوائها إنجازًا في التصميم، وتشكل مع ما يجاورها من مباني الستاد الرياضي وبانوراما 6 أكتوبر وهيئة المؤتمرات مربعًا معماريًا متناغمًا، كما تمثل فراغاتها ومساحاتها الخضراء رئة للهواء الطلق بين كتلتين سكنيتين كبيرتين هما مصر الجديدة شمال أرض المعارض ومدينة نصر جنوبها.
ومثلما تعثر بناء نظام جديد بعد أن أطاحت ثورة 25 يناير بالطابق الأخير من البناء السياسي، لم يتقرر بعد موعدًا لإعادة بناء ما تم هدمه من سرايات العرض، لكن الكتب جاءت للعام الثاني على التوالي بعد الثورة.
وأن تأتي الكتب خيرًا من ألا تأتي، وقد بدأت اعتياد حياة اللجوء في الدورة 45 من المعرض العريق، حيث يتدبر الناشرون أمورهم. وحيث لم تزل هناك بقية من كلام يمكن قوله على منصات الندوات في خيام الإيواء.
لا طموحات كبيرة من المعرض، ولا تطلبًا لمستوى معقول من النظافة ولا شكوى من الباعة الجائلين، حيث لم يلجأ أحمد مجاهد رئيس هيئة الكتاب إلى الإدعاءات الكبيرة التي اعتادها رواد المعرض مع الدورات المتعددة التي أشرف عليها سمير سرحان الذي كان رمزًا للفساد والفهلوة الثقافية والطيبة، رحمه الله.
وقد كان مصرًا على أن معرض القاهرة هو أول أو ثاني معرض، بعد أو قبل فرانكفورت، حسب مزاجه في لحظة التصريح للصحافة، وكان كل عام يعد بحضور أكبر عدد ممكن من حملة نوبل في الأدب يتكرر بينهم دائمًا اسم ماركيز وماريو فارجاس يوسا، وتنشر الصحافة تلك الوعود، ثم يكتشف الصحافيون أن دعوة واحدة لم توجه لأي من الكتاب المذكورين، ولا تبلغ الصحافة العام التالي إلا ناسية فتنشر تصريحات سمير سرحان الجديدة المرحة.
لم ينتظر رواد المعرض هذا العام ماركيز أو يوسا أو أليس مونرو. ومهما حدث أو لم يحدث في الدورة الخامسة والأربعين؛ فقد تبقى من المعرض العريق معلمان مهمان هما سور الكتب القديمة والمقهى الثقافي.
باعة الكتب القديمة يتجمعون تحت مسمى ‘سور الأزبكية’ أشهر أسوار بيع الكتب القديمة في مصر. وكانوا يعرضون في الهواء الطلق قبل 25 يناير فصارت لهم خيام مثل تلك التي تؤوي كبريات دور النشر. لم تتغير كتب السور ولم يتغير زبائنها الباحثون عن القيمة أو السعر الرخيص للمعرفة والمولعون باقتناء الأرشيفات النادرة لمجلات قديمة والباحثون عن النمائم من خلال إهداءات كبار الأدباء في سالف الزمان!
والمقهى، مكان راحة والتقاء رواد المعرض من الكتاب العرب والمصريين، وقد بدأ حياته في خيمة واستمر على وضعه، أكثر الأماكن حميمية. لم تتغير مشروباته ولم تتغير نكهات تبغه ووجباته الخفيفة، لكن البشر تغيروا.
باستثناء أدباء الكويت ‘ضيف شرف المعرض’ لا يوجد الكثير من الضيوف العرب الذين اعتادوا زيارة مصر خصيصًا من أجل معرض الكتاب سواء كانوا مدعوين أو على نفقتهم الخاصة، والسوريون ليسوا ضيوفًا بل مقيمين.
الفرح بكتب الآخرين الجديدة أكبر، والغرور والشرور أقل، إذ يسود حس التضامن الحزين، والكلام ليس عن الكتب غالبًا، بل عن المصير.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية