فيلا 69..الخروج من شرنقة الذات المقموعة إلى شوارع الحرية

حجم الخط
0

القاهرة- من محب جميل: الأمل والتوق للحرية لا شيء غير ذلك. في تجربة سينمائية فريدة يطرحها فيلم ‘فيلا 69’ للمخرجة أيتن أمين، تبدو تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة باعتبارها كيانا له خصوصيته يبدأ في التكشف والظهور على طول الأحداث من خلال شخصية ‘حسين’ والتي يؤديها الممثل ‘خالد أبو النجا’. منذ البداية تبدأ الكاميرا التقاط التفاصيل والسمات التي تحيط بتلك الشخصية المتشرنقة في حيزها حيث العزلة والانعزال عن العالم الخارجي.
حسين مهندس معماري عاد إلى مصر بعد فترة عمل بباريس، ليستقر في النهاية بفيلا رقم 69 التي يمتلكها والده. وبمرور الوقت نكتشف حياته الرتيبة التي يشكل المرض بطلها الأول. في هذه الفيلا لا شيء سوى الروتين اليومي، العامل الذي يقرر ترك حسين عندما يكتشف حقيقة مرضه، والممرضة التي تأتي بشكل منتظم لتتابع حالته الصحية وتعطيه الأدوية المطلوبة. بمرور الوقت نكتشف أن الممرضة أحدى الشخصيات المقهورة أيضا نتيجة تعرضها لعنف وضرب مبرح من أخيها نتيجة خلافات حول الميراث وقطعة الأرض التي تشكل مفتاحا من أجل زواجها بشاب يعاني ضغوط الحياة.
الحياة في الفيلا شديدة الصرامة والنظام، لا جديد سوى الجرائد اليومية وبعض الأسطوانات الموسيقية لموسيقار الأجيال ‘محمد عبد الوهاب’. إلى أن تطل على سطح الأحداث شخصية ‘نادرة’ أخت حسين التي تؤديها الفنانة ‘لبلبة’ وابنها ‘سيف’، حيث تطلب منه المكوث عدة أيام ريثما ينتهي العمال من صيانة شقتها. بالرغم من الأوامر والقواعد الصارمة التي يضعها حسين أمام سيف طوال الوقت، إلا أنها تبدأ في التلاشي تدريجيا لوجود بعض العوامل المشتركة فيما بينهم. حسين الذي يصبح النوم ملاذه الوحيد للأحلام والجلوس مع حبيبة وصديقين ينتمون إلى الماضي. فشخصية حسين، الصارم، المتشرنق، صاحب المزاج الخاص، والذي يسدد الشتائم إلى كل من حوله، تكشف في العديد من المشاهد عن قلب يميل إلى الحرية والجمال بمفاهيمه الزمكانية. حسين لا يحب من الشعر سوى ‘أمل دنقل’ والذي يشير إليه في أحد المشاهد بعدما يقرأ جزءا من قصيدةٍ له، ثم ‘فؤاد حدَّاد’ الذي ينصح الشاب سيف بأن يقرأ له. كما أنه لا يحب من الغناء سوى ‘أم كلثوم’ و’محمد عبد الوهاب’.
لحظات المرض والضعف التي يمر بها حسين تعدّ من أكثر مشاهد الفيلم واقعية وخصوبة، شريط ممتد تلتف حوله الذكريات واللقطات العابرة. وبالرغم من تلك الحياة القاسية التي يعيشها حسين، تنجح شخصية أنثوية من التسلل إلى عالمه، نعرف فيما بعد أنها ابنة أحد أصدقائه وهو فنان تشكيلي يقيم أحد المعارض الفنية بالخارج. إلا أن هذه الشخصية بالرغم من التفاوت العمري بينهما، تبدأ في الولوج إلى عالم حسين والتشبث به، وربما تقع في غرامه أيضا. تظن نادرة أن هناك حالة انجذاب من ابنها سيف تجاه سميرة المصورة، فتحاول أن تبعدها عنه وتخرجها من المنزل إلا أن حسين يتصدى لها ويخبرها أن هذه الفتاة من معدنٍ آخر.
حسين نواةٌ مصغرةٌ تشبه وردة تحمل المتناقضات بداخلها قد تفرحك وتجرحك في الوقت ذاته، من جيل ينتمي إلى فترة السبعينات، والتي عاش خلالها يحلم بثورة حقيقية من أجل الحرية والتقدم وفرصة العيش الأفضل لكن يبدو أن هذه الثورة المجتمعية قابلت مظاهر شتى من القمع والإفشال، فإنتهى بهم الحال إلى العزلة والتشرنق في المنزل. بالرغم من ذلك ما زال هذا الجيل المتمثل في حسين يحتفظ بالعادات والتقاليد والذوق والرقي إلا أنه يتصف بالحدّة في بعض الحالات. ويتقاطع هذا الجيل في مناورة ومعالجة شديدة الذكاء مع الجيل الحالي الذي خرج في 25 يناير في التوق للحرية وتخطي الحواجز لكنه قوبل أيضا بالقمع والعنف ومحاولات الإفشال. حرفيّة عالية شديدة الخصوصية والإنسانية نسجتها كاميرا ‘أيتن عامر’ من خلال جمل يغلب عليها التفكك والصمت كتعبير عن القمع المجتمعي والعزلة التي نعيشها نتيجة عوامل عدة.
التفاتة شديدة الذكاء ربما في الرقم (69) الذي يشير إلى نهاية عقد الستينات بكل ما فيها من صعوبات ومشاكل والانتقال إلى مرحلة جديدة أراد جيل بأكمله أن تتسم بالحرية والثورة على الثوابت والأفكار المتحجرة. إنها سيمفونية الحياة اليومية للتغلب على القمع والمرض والعزلة عن طريق الإحتفاء بالمفردات الرقيقة التي ما زالت خضراء بداخلنا. في أحد المشاهد تظهر ‘آية’ الفتاة الجميلة الجريئة التي تشكل أحد الفرق الموسيقية مع سيف. لكن هذه الشخصية تعاني أيضا من التشتت والتفكك في حياتها اليومية، بالرغم من قربها من سيف إلا أنها حائرة بشأن الإختيار بينه وبين طارق صديقه بالفرقة. في واحدة من أجمل مشاهد الفيلم يجلس حسين في أحد غرف الفيلا ليستمع إلى فرقة الروك الصغيرة بقيادة سيف بعد أن تطلب آية منه ذلك. لا يستطيع حسين أن يتمالك أعصابه ليبدي سخطه من الكلمات المفككة وغير المترابطة التي يغنيها هذا الجيل، ثم يقوم بسحب عوده ويبدأ في العزف ليشاركوه في إيقاعٍ شديد التناغم والرهافة. هذا الذكاء الفطري من المخرجة جعلها تنسج علاقة تكاملية بين جيلين ظل كل منهما يحلم بثورة من أجل الحرية الشاملة واقتلاع العزلة من جذورها.
عندما يشعر حسين بقرب نهايته وسطوة المرض، يبدأ البعض في الانسحاب من عالمه بهدء دون صخب، لكن قسوته التي يصوبها في وجه من لا يتفق معهم تزول في النهاية عندما نجده يحضر ‘حيدر’ المهندس الذي يعمل معه ليبيع له حقه في المكتب الهندسي، وكذلك يشتري قطعة الأرض من خطيب الممرضة ليتسنى لهما الزواج. هذه الممرضة هي من أكثر الشخصيات حبا في حسين وتواصلا معه لأنها تعلم معدنه ومعرفته ببواطن الأمور بالرغم من أنه سليط اللسان وهجومي في أحكامه. الفيلم الذي يسلط الضوء على جوهر الإنسان وأصالته لا يقف عند هذا الحدّ بل يمتد نحو مفهوم الحرية الشامل ونقيضه في الانعزال عن العالم المحيط.
السيناريو الذي وضعه المؤلف الشاب ‘محمد الحاج’ استطاع أن يؤسس لشخصية حسين المغزلية والتي تلتف حولها باقي الشخصيات بالإضافة إلى عنصر المكان الذي يتسم بخصوصيته وتفاصيله المتنوعة. تمكنت الكاميرا من تسريب بعض المشاهد القصدية في رشاقة عالية حيث تظهر أصص الزرع والنباتات الخضراء المتسلقة والشرفة التي تطل على المسطح المائي في محاولة لترسيخ فكرة تجدد الأمل بالرغم من شقوق الزمن ومرض الأحداث. الصمت والحوار المتقطع طوال الفيلم يوفران حالة من التساؤل حول ماهية الحياة والحرية والعزلة والعدل الذي يمكن أن يتحقق في أحد الأيام.
طوال الفيلم يظل سؤال وحيد يتردد: كيف ستكون النهاية بعد أن إقتربت نهاية حسين مع اشتداد أعراض المرض عليه؟ بالرغم من خشونة الحياة التي لا يظهر منها في الخارج سوى شخص كبير السن يعمل بالمؤسسة الأمنية ويتعاطى الفيتامينات اليومية في التفاتة من النصّ حول تجدد العصا الأمنية وتحورها بشكلٍ يميل إلى الترميز والاستنباط. أخيرا بعد هذه العزلة الطويلة يقرر حسين بإرادته الخروج من شرنقته ومواجهة العالم الخارجي بعدما يصطحب معه سيف وآية. في حركة أشبه بخطوات المشي تصل الكاميرا الرائعة إلى كراج الفيلا، ويأمر حسين الشاب سيف (18 عاما) بالسيطرة على مقوّد السيارة بعض النصائح والتوجيهات البسيطة حتى يتفادى التخبط وتجريح جسد السيارة. فالنهاية ينجح سيف في المشي بالسيارة حيث يرافق حسين وآية في رحلة تمتد من موقع الفيلا إلى كوبري قصر النيل، ميدان التحرير والشوارع الجانبية لمنطقة وسط البلد التي تتشح جدرانها بغرافيتي الثورة والشهداء، إلى أن ينتهي الفيلم وتستمر السيارة في رحلتها. إنها رحلة الأمل والحرية بدرجة عالية من البساطة والانسيابية بعيدا عن التكلف وتعقيد الأمور.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية