سر تسامح الغالبية مع عنف الدولة وإدانتها لإرهاب المتطرفين!

ينتقي المرء ما يوافق هواه في تعريف وتوصيف الحراك الشعبي في مصر، فإذا ما خلع مبارك عُرف بالثورة، أما إذا قام نفس الحراك؛ بأعداد أكبر وفي مدة أقصر بعزل مرسي وُصف بالانقلاب، والتعريف أو التوصيف ليس مشكلة من وجهة نظري، وسبق وأشرت إليه على هذه الصفحة بعد 30 حزيران/يونيو 2013، فالتاريخ هو الذي يقرر ويحسم في النهاية، وكان الدليل هو استمرار الخلاف حول ما حدث في 23تموز/ يوليو 1952، فرغم التحولات الكبرى في مصر وفي الوطن العربي وآسيا وافريقيا والعالم بسبب دور مصر بفعل ذلك الحدث استمر الخلاف وما زال موصوفا من قبل البعض بالانقلاب؛ ليس هذا فقط، فالثورة الفرنسية، بما أحدثت من تحولات كبرى في النظام العالمي القديم، وصمود هذه التحولات وبقاء نظمها السياسية والاقتصادية والقانونية وقيمها الثقافية وتطورها المستمر، ومع ذلك بقيت محل خلاف وجدل وهناك من يحن لعودة أسرة ‘البوربون’ التي ثارت فرنسا على حكمها الجائر في القرن الثامن عشر.
لا ضير في الخلاف إذا ما كان سياسيا، دون التورط في ممارسة العنف وسفك الدماء، ويبدو أن الشوط ما زال بعيدا وأن التطور الديمقراطي عاد إلى بداياته الأولى. ومن المعروف أن رياحه هبت علينا مع قدوم جحافل الغزو الاستعماري الحديث، وكانت الحملة الفرنسية أول عواصفه، وهبت محملة بويلات الفتن وروائح البارود وإراقة الدماء، وحملت معها علماء وأفكار وتيارات حاولت ‘توطين’ ذلك التطور في بداياته، وبعدها جاء ساعون لتوطينه وتمصيره، وكان الرواد على يقين بأن التطور الديمقراطي ليس كفاحا بلا ثمن، وهو باهظ التكلفة، إلى أن حلت ظروف تغذيه وتمده بعوامل ‘التدمير الذاتي’، التي تخدم السياسة الاستعمارية، وهي سياسة تمكنت من استقطاب الغالبية العظمى من الطبقة العربية الحاكمة، وهذا هو الذي مكن من زراعة الكيان الصهيوني، وتوظيفه في استنزاف الطاقة والدماء والثروات الوطنية والقومية بشكل مستمر.
ومجتمعات العرب، ومنها مصر، تعاني أمراضا اجتماعية وسياسية وثقافية ونفسية مزمنة؛ تجهض وتعطل جهود ‘توطين’ التطور الديمقراطي بعيدا عن الأطماع الاستعمارية، التي لها السبق في ذلك التعطيل، وهذا حدث مع دولة محمد علي، في القرن التاسع عشر، ومع دولة جمال عبد الناصر في القرن العشرين، وسيستمر هذا ما دامت موازين القوى الداخلية والإقليمية والخارجية في غير صالح هذا التطور.
ولقد أحدث خلع رئيس أسبق وعزل آخر سابق في ثلاثين شهرا وتقديمهما للمحاكمة؛ لقد أحدث ذلك زلزالا لا يتحمله غير مصر، التي تعاني من توابعه، ومن المتوقع أن تستمر إلى مدى زمني منظور، حيث ترتفع وتيرة العنف، ويبدو السير نحو الدولة الحديثة بطيئا لضعف التوجه نحو التمدين والاستسلام لزحف الترييف، وبسبب الرفض الكامل من تيارات الإسلام السياسي، مع أن الدولة الإسلامية في بداية عهدها استفادت كثيرا من حضارات معاصرة لها، فأخذت نظام الدواوين عن الفرس، ونقلت نظما وطرق أخرى من حضارات الشرق والغرب.
وما يُنقل ويُشترى من منتجات الغرب الاستعماري؛ المادية والتقنية، تأتي مشروطة بمنع أي محاولة جادة للإنتاج والتصنيع، وهدف الغزوات المتواصلة والحصارات المستمرة، وإشعال الفتن والحروب الأهلية هو شل القدرة على ‘توطين’ التطور الديمقراطي، وقصر الجهود على استهلاكه فقط في مجالات الحرية السياسية بدون تنمية أو عدالة اجتماعية؛ تكفل حياة أكثر عدلا وكفاية واستقرارا للوطن والمواطن.
وليس في مقدور أحد أن يبدأ من حيث بدأ الغرب منذ الكشوف الجغرافية وبداية الثورة الصناعية من قرون مضت، والغرب بدوره لا يقبل بأن يبدأ المتخلفون من حيث انتهى، والتراث الوطني المصري والثقافة العربية يسمحان بالأخذ بمبادئ ‘العقد الاجتماعي’ في علاقة الدولة برعاياها ومواطنيها، ويقبلان بحكم القانون، وباستقلال سلطات الدولة، وبالمشاركة السياسية، ولا يمانعان من ترسيخ قيم المواطنة، بلا تفرقة بين مواطن وآخر، وهذه آليات ديمقراطية إيجابية وفاعلة إذا ما طبقتها أحزاب وطنية قوية، تأخذ بالاقتراع السري المباشر، وبدولة القانون، وحكم يقوم على تداول السلطة، وهذا يتناقض مع الوجه الآخر للتطور الديمقراطي، ويتمثل في الرأسمالية، التي إن صلحت في الغرب لا تصلح في بلد كمصر، فهي ليست بلدا مُستعمِرا، وتراكم ثروته لا يكون بنهب ثروات الشعوب الأخرى وهذا ما يواجه مصر إذا ما عملت على ‘توطين’ التطور الديمقراطي، وهو اذا ما دخل إليها دخل على أنقاض إنجازاتها الاقتصادية والصناعية والزراعية، وعلى حساب الفقراء ومحدودي الدخل ومتوسطي الحال، ولحساب رجال المال ووكلاء الاحتكارات الغربية، وهو تمييز لقوى غير ديمقراطية، وفي خصومة مستمرة مع السواد الأعظم من المواطنين.
الدولة الحديثة تدرجت واكتملت وانضبطت بالقانون، وبحقها في احتكار العنف، وتسقط الدولة التي لا تضبط قوة العنف والإكراه؛ الممنوحة لها بحكم الدستور والقانون الوطني والأعراف الدولية، إذا ما تغاضت عن ملكية السلاح خارج حدود مسؤوليتها.
وهذا أمر قد يساعد في فهم ما يحدث في مصر؛ حين تتسامح الغالبية العظمى من المواطنين مع عنف الدولة، وعدم قبوله من غيرها، وهذا يعيد للأذهان حرب ‘تنظيم الجهاد’ و’الجماعة الإسلامية’ لكسر الدولة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي؛ لمدد طالت لسنوات، ولم تكن الحرب الحالية هي الأولى ضد الدولة، وقال بذلك القاضي محمد العقالي في مجلة ‘روز اليوسف’ بأن موجة العنف الحالية ليست الأولى، لكنها ألفت بين قلوب المصريين وجيشهم وشرطتهم، ولو أنفقنا مال الأرض ما وصلنا لحالة التكاتف بيننا كما نعيشها اليوم، ‘وبعد ان كان كثير من المصريين يتعاطفون مع الجماعة، يصوتون لها في انتخابات البرلمان ثم الرئاسة، اتسعت الهوة بين مصر والجماعة بصورة لا يمكن ان تُجبر’.
وهذا في وقت ينتشر فيه وهم اسمه ‘الدولة العميقة’؛ فمتى كانت الدولة المصرية ضحلة أو رخوة، وحتى لو استبدت تجد من يتحملها أملا في إصلاحها واستئناف دورها الاجتماعي والسياسي والأمني، وقد اعتادت أن تكون غطاء الأمان لمواطنيها، وهي منذ طورها الأول حتى مرحلتها الأخيرة محكومة بأعراف وقواعد وقوانين لم تحِد عنها، وهناك من قال بأن الحكم الجائر تقوم به مؤسسات ‘الدولة العميقة’، وتتمثل من وجهة النظر هذه في الجيش والشرطة والقضاء وأجهزة الدولة والمؤسسة الدينية (الإسلامية ممثلة في الأزهر والمسيحية في الكنيسة) ووصل الأمر إلى وصف الدستور بأنه انتصار لـ’الدولة العميقة’؛ أي أن الشعب لو تخلص من سلطاتها ومؤسساتها ووظيفتها لحلت مشاكله!!
هل من الممكن تصور دولة؛ عميقة أو ضحلة، بلا قانون ينظم حياتها، وبلا جيش يحمي حدودها، وبلا شرطة تدافع عن شعبها، وبلا قانون ينظم العلاقة بين مكوناتها أو قضاء يفصل بين مواطنيها. إن ‘الدولة العميقة’ للأسف مصكوك (كلاشيه) تتعامل معه الطبقة السياسية في الحكم والمعارضة وكأنه نص مقدس، دون تفكير في سلامته واتساق معناه ودقته، وتبعا لذلك تتردد أقوال بأن ‘الدولة العميقة’ عادت بالثورة إلى نقطة البداية، وهذا من الناحية العلمية غير دقيق، فالثورة تواجه تحديات وصعوبات جمة، إلا أن عقارب الساعة لا ترجع للوراء، ومن يحلمون برجوعها فهذا ‘عشم إبليس في الجنة’.
و’الدولة العميقة’ بذلك المعنى المشوه تقبل ما أسموه ‘حكم العسكر’ والقائمة جاهزة تبدأ بجمال عبد الناصر وانور السادات ولا تنتهي بحسني مبارك، وأن المؤسسة العسكرية لن تترك الحكم للمدنيين، وضربوا المثل بحكم جماعة الاخوان؛ وكأن حكما طائفيا ومذهبيا يعادي الدولة وسلطاتها ومؤسساتها؛ كأنه حكم مدني، وهو ما زال يقوم بتقويض مؤسسات الدولة على مدار الساعة!.
وفي الحقيقة أن الدولة تدافع عن وجودها، وتتصدى لمخطط تفكيكها وتقسيمها، والحرب ليس كما يقولون بين الجيش وجماعات العنف المسلح، بل بين الدولة وأعدائها، وإلا ما كسبت ظهيرا جماهيريا واسعا يؤيدها.
والأولى بهذه الجماعات أن تعيد حساباتها، وتراجع دفاترها، وتؤهل كياناتها وأعضاءها على الاندماج في الحياة، وتربيهم على خطاب سياسي مبرأ من العنف والتهديد والوعيد؛ وتعود بهم إلى أحضان الشعب، ويصبحون جزءا من مكوناته الوطنية، ويحق لهم أن يشاركوا في العملية السياسية، وإن بدا هذا من المستحيلات.
وبخصوص استمرار الإلحاح الشعبي على المشير عبد الفتاح السيسي للتقدم لانتخابات الرئاسة، وقبوله بذلك مرجح لكنه غير مؤكد؛ مع إعلان الفريق سامي عنان عن نيته في منافسته، وما قد يتركه على بنية القوات المسلحة إذا وقعت تحت ضغط الاستقطاب السياسي للمتنافسين، وصحيح أن شعبية السيسي كاسحة، ولنأخذ في الاعتبار ما يتسرب من لقاءات واجتماعات الغرف المغلقة عن وعد الإدارة الأمريكية بتأييد عنان، واستعدادها لحشد جماعات الإسلام السياسي خلفه، خاصة جماعة الإخوان؛ بدوائرها وإمكانياتها المادية والإعلامية وعلاقتها بتركيا والسودان وقطر والولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وجنوب افريقيا واستراليا ونيوزيلندا.
أما القلق الحقيقي هو في عودة فلول حكم مبارك، في ظروف لم يبرأ فيها الوطن منهم بعد، ففي ظل الثورة عاد الاعتبار لعمرو موسى وينتشر ‘دراويش البرادعي’، وكثير من وزراء الببلاوي ‘برادعاوية’، وحين تم التفكير في تغيير الوزارة بعد إقرار الدستور لم يوجد غير كمال الجنزوري وعمرو موسى مرشحين لرئاستها، وكأن مصر قد عقمت واستأصلت أرحام نسائها فتوقفن عن الإنجاب!!
ومن ناحية أخرى جاء خطاب المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى الشعب لتفويض المشير السيسي في اتخاذ ما يراه مناسبا بشأن ترشحه لانتخابات الرئاسة، وتلبية مطلب الشعب بخوضها؛ جاء ذلك الخطاب لنجد الناشط السياسي وأستاذ الجيولوجيا بجامعة حلوان يحيى القزاز يعلن تحفظه عليه في قناة ‘النيل’ للأخبار، الاثنين الماضي، وهو بالمناسبة من أشد المتحمسين لترشح السيسي، وكذلك فعل الباحث عمرو هاشم ربيع بمركز الدراسات الاستراتيجية بـ’الأهرام ‘ ورأى أنه أدخل المجلس الأعلى للقوات المسلحة طرفا فى اللعبة السياسية، حسب ما جاء في صحيفة ‘اليوم السابع’ ليوم 28/ 1/ 2014.
ونصح ربيع حمدين صباحي وأحمد شفيق وسامي عنان وعمرو موسى بالترشح ودخول السباق، وأشار إلى أن أي مرشح يفكر في دخول السباق أصبح في ورطة بسبب ما أحدثه بيان المجلس العسكري من رعب لدى المرشحين، على حد قوله.
وعلينا أن نترقب وننتظر!!

‘ كاتب من مصر يقيم في لندن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول متابع ..غزة:

    الشعوب لاتسكت على قاتليها وستنتفض على من سلبوا صوتها ……طال الوقت ام قصر…..الشعوب ماضية في ثورتها مهما حاول الانقلابيون تكميم الافواه وسنوا من قوانين…..ونفذوا من مذابح….هذه امنيات القتلة ان يسامحهم الناس ولكن ما ضاع حق وراءه مطالب…..ماذا تقول للضحايا الذين خطفت احلامهم في وطن جميل…… ااجرحى والسجناء……ماذا تقول للطبيبة التي جرجروها امام الكاميرات وامام مرضاها من المستشفى فقط لانها تضع شعار رابعة…

  2. يقول يحي:

    الي متابع ،….
    لماذا لا يحترم حق الشعب في خلع و عزل رئيسه ؟!!!!
    هل الرءيس اله و رب يعبد ؟

إشترك في قائمتنا البريدية