جمهورية ثانية بادئة من الصفر التنموي

‘منغص الأفراح’ شخصية ثابتة في جميع الثقافات. يسميه الانكليز killjoy والفرنسيون rabat-joie، ولا شك أن اللغات الأخرى ‘تسميه زيّ ما تسميه’، حسب عبارة محببة للمفكر الراحل أنور عبد الملك. ولأن التونسيين لا يريدون لأحد أن ينغص عليهم فرحتهم بالدستور الجديد والحكومة الجديدة، ولأن الانطباع الشائع عندهم هو أن المناضل حمّه الهمامي ‘لا يعجبه العجب’، فقد سارع الفايسبوكيون منهم إلى إطلاق نكتة استباقية تزعم أن الهمامي قال فور إعلان الحكومة الجديدة: لقد مضى على تشكيل الحكومة ستون دقيقة كاملة، ولكنها لم تنجز حتى الآن شيئا!
انطباع مجحف طبعا، فالهمامي من أشد المناضلين ثباتا على المبدأ منذ عقود. ولكن هكذا حكمت النكتة. على أن السلبية الاجتماعية والسياسية، التي سبق أن حذرنا من مغبتها هنا مرارا، يجب أن لا تبلغ ببعضهم حد العجز عن إدراك أهمية اللحظة التاريخية التي استبشر بها الشعب التونسي يوم 27 كانون الثاني/يناير. ذلك أن إتمام الدستور هو إنجاز حاسم واعد بإمكان بلورة نظام ديمقراطي يناسب خصائص المجتمع التونسي ويتسم بدرجة معقولة من النضج السياسي والمدني.
فالنص الدستوري الحاصل هو أفضل صيغة توافقية ممكنة بين أطراف سياسية يكاد لا يجمعها أدنى قاسم مشترك، بل إن بينها من البغضاء والشحناء ما بلغ حد العداوة والتخوين والتكفير. فما الأفضل: أن تتفاقم العداوة فتصل إلى حد الحرب الأهلية (التي اتضحت نذرها باغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي)؟ أم أن يتم تجاوز الأحقاد والتوافق الإيجابي على نص يؤسس لاحتمال نجاح جمهورية ثانية ذات أخلاقية تحررية وإرادة تقدمية؟
أما تشكيل حكومة كفاءات غير حزبية، لا هم لها إلا خدمة المصلحة الوطنية، فهو بلا مراء خطوة كبرى على طريق الخروج من مأزق سياسي ظل قائما طيلة أكثر من عامين، وكان ينطوي على احتمالات تعفن سياسي وانهيار اقتصادي ينذران بإفلاس البلاد. على أنه كان يمكن لحكومة الكفاءات أن تشكل منذ بداية 2013، أي منذ إعلان رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي اقتراحه بشأنها باعتبارها المخرج الوحيد من المأزق. ولكننا أبينا وبددنا عاما كاملا من عمرنا الوطني. وذلك هو دأبنا لا نحيد عنه: يتوصل بعضنا بعد جهد وعناء إلى الحل الأنسب، فنعاند ونكابر دهرا، ثم نرجع إلى الحق ضرورة لا فضيلة.
ثانيا، ما ينبغي للدستور هو ‘ما قلّ ودلّ’: أن يكون قليل البنود وجيز العبارة، وأن يبسط المبادىء العامة دون خوض في التفاصيل. ولكن الدستور الجديد لا يفي بهذا الغرض. ثالثا، كان يمكن للدستور أن ينجز في غضون ستة أشهر، بل في غضون شهرين لو تمت المحافظة على دستور 1959 وتنقيحه بما يشيع ثقافة الحرية وسلمية التداول على السلطة. أي أنه كان يمكن اختزال عامين في شهرين، وكفى الله التونسيين شر القتال البرلماني الفضائحي! ولكننا بددنا عامين آخرين في مماحكات بلغت حد الصبيانيات.
الآن: أزفت ساعة الجهاد الأكبر. الجهاد بالعلم والعمل ضد الفقر والتخلف. إذ لا نزال في قلب معركة التنمية. بل كأننا اليوم بادئون، مجددا، من الصفر التنموي الذي خلفه لنا الاستعمار عام 1956.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الهادي المزوغي:

    تحليل جيد كالعهادة رؤية ثاقبة للوضع تخترق المظهر و تنفذ للجوهر ..أن نبدأ من الصفر في التنمية لا بد أن يفهم بطريقة واضحة لا تعني أن البلاء في حالة مترية من المجاعات و الأمراض والجهالة ..سنوات الاستبداد بعد الاستعمار احتكر ت قيادتها الثروات وحرمت عموم الشعب من ثمار التنمية العادلة

إشترك في قائمتنا البريدية