‘أوراق مستنيرة’ .. الكرد وحدائقهم الجميلة

حجم الخط
0

الكاتب والنصّ الذي يكتبه، كلاهما مرآة الآخر، فإذا كان الأول هشا وصاحب نظرة كليلة لا تنفذ إلى الأعماق البعيدة، وهن النصّ الذي يكتبه، وضاقت ذائقته، وتلعثم فيه اللسان، فإذا هو كمنتجه، هش سريع الانكسار، لا ينيرأو يستنير.
ومن الضروري لفت الانتباه هنا، إلى أن أيا من فعلي : الإنارة – إعطاء النور لما حوله، والاستنارة – اقتباس أوأخذ النور مما حوله، لا يتحقق بدون الآخر. فالنصّ الذي يستنير صاحبه مما حوله في الواقع، سوف يكون في مقدوره إنارة أفق المتلقي.
وانطلاقا من هذا التصوّر، فقد احسن الكاتب دانا أحمد مصطفى بوصف الأوراق من الأدب الكردي التي اختارها من بين غيرها لشرحها والتفصيل فيها بـ’ المستنيرة’ وذلك للجزم بأنها وأصحابها الذين كتبوا ما فيها، قد استنارت بالواقع الكردي، فأصبح في مقدور أصحابها إنارة الفضاء أمام المتلقي، لكي لا تكون رحلته معها مضنية أو بلا جدوى، وفي عتمة لا تسمح له برؤية ما في داخل كل واحدة منها من الجوهر النفيس .
يقع كتاب ‘أوراق مستنيرة’ من الأدب الكردي’ الصادر مؤخرا عن دار سردم للطباعة والنشر في ستة فصول . ومن بين ما يلفت انتباهنا عدا الجاذبية التي في لغة دانا ومتانة وجمال الأبنية التي يسكبها فيها، المنهج التاريخي التحليلي الذي يستخدمه، وهو ما نعتقده الأفضل من سواه مناهج البحث الأخرى، لاستيعاب الموضوعات التي يتناولها، ولأنه بهذا الاستخدام يكون قد وضع الأوراق، فكرا كانت ثيمة الورقة أم شخصا، في وسط اللحظة التاريخية التي يتمّ الانبجاس إبانها وعلى النحو الذي يبيّنه، وهو ما سيجعله يناقش الأثر ليس على وفق ما تمليه اللحظة التي يعاصرها ككاتب القرن الحادي والعشرون، وإنما تلك التي يرتبط وجود الورقة بها، وهو الفعل الذي تقوّم فيه الأوراق الكردية التي نتوقف معه أمامها لاستجلاء مختلف جوانب شأنها، من داخلها، وليس من الخارج وحده، كما يفعل كثيرمن الباحثين، الذين اعتادوا إسٍقاط أحكامهم الجاهزة بدون تمحيص، وبسبب الانحياز الأعمى غالبا. إنه على سبيل المثال في مناقشته لثيمة الكرد وأزمة الهوية، في الوقت الذي يبيّن فيه حدود فعل الأسلمة لمجتمع من المجتمعات، وبضمن ذلك المجتمع الكردي، فيكشف عما في المجتمعات من الحصانات التي تدعو للمحافظة على الذات لغة وملامح وخصوصيات..إلخ، يشير إلى أن الاسلام في اختلافه عن دين المهاجرين الأوروبيين الذين أبادوا الهنود الحمرعن بكرة أبيهم من أجل الاستيلاءعلى أراضيهم كما يقول، يؤمن بالتعدّد والتنوّع القومي والعرقي والمذهبي. وليس معنى هذا قبول المؤلف بالعيش في كنف الآخر، فهو إنما يبحث عما يقود إلى انبجاس دولة الكرد القومية . لذا فهو يتوقف أمام شرفخان البتليسي وكتابه الشهير ‘شرفخانة’ الذي هو أحد أهمّ هذه الأوراق المستنيرة، ويسهب في البحث عن موقع الدولة في الذهنية الكردية، ليس منذ عقود قليلة من الزمن، وإنما منذ قرون. وهنا تلفت الانتباه الأسئلة الجوهرية التي من الاجابات عليها يرسم دانا الطريق إلى الدولة: لماذا لم يوظف العامل الديني في إنهاض واستنهاض الحسّ القومي والحركة التحررية الكردية؟ لماذا لم يستثمر الكرد العامل الديني في توجيه مساراتهم القومية، تماما كما فعل أعداؤهم في الأنظمة السياسية المجاورة، كما فعل الفرس بالتشيّع، والترك بالتسنن، حيث وطدوا وأسسوا أركان دولتيهم بناء على الاستثمارات والتوظيفات الجيدة للعامل الديني والمذهبي؟ وهكذا ستظهر أهمية شرفنامة السياسية والتاريخية، وهي الأهمية التي صاحبها منذ نشأتها في القرن السادس عشر، والمؤثرات بسببها ذروة سنام الكتب المؤلفة عن تاريخ الشعب الكردي. ودانا أحمد مصطفى من خلال التوقف أمام هذا الكتاب، وما صاحبه منذ ظهوره من المعارك التي سعى أصحابها إما لإيقاف النور الذي يصدر منه، أو لنفي وجوده تماما يقول ‘وهو لأهميته وضع في أشهر المكتبات والمتاحف العالمية، في روسيا وبريطانيا والنمسا وتركيا وإيران، حيث اعتبر صيدا ثمينا نفيسا لا يقدّر بثمن من قبل المستشرقين’ . وأما لماذا .. فذلك لأن البتليسي الأمير والمثقف والمؤرخ الكردي، استطاع بالتقصّي الكشف عن أحوال الكرد الذهنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، في واحدة من مراحل حياتهم، وهو الكشف الذي يضعهم فيه في المنزلة التي يستحقون وضعهم فيها بين سواهم من مجتمعات هذه المنطقة، وهي منزلة مرتفعة.
وهكذا سوى هذه الورقة، يناقش دانا في الأوراق اللاحقة ما أنجزه مولانا خالد النقشبندي، ليس في ميدان الصوفية وحدها على الرغم من أهمية هذا الجانب، وإنما في الميدان الذي يرتبط بالكرد والسلطة كذلك. وسوف نتبين علاقته بإمارة بابان وأمرائها، وظهور الحركات الصوفية الأخرى، وما استطاع مولانا إنجازه خلال فترة قصيرة . لقد شكل مولانا مدرسة دينية جديدة، كادت تزلزل الأرض تحت أقدام الحركات الدينية التي سبقت حركته، وتحت أقدام السياسيين آنذاك، ومن هنا فإنه بسبب حداثته آنذاك، كثرأعداؤه الذين سيطاردونه، من سياسيين ورجال دين كذلك. ولن تقل الانارة المنبعثة من ورقة مولوي، الشاعر والصوفي والفيلسوف الكردي الشهير. والتحدث حول مولوي كما يشير المؤلف ليس بالأمر اليسير، وإنما تكتنفه صعوبات كثيرة وتحديات كبيرة، على الرغم من أن البحوث والدراسات التي كتبت عنه، أكثر مما هي عن غيره، على اعتبار أنها جميعها لا ترقى إلى قامته وطوله الفارع المتفرّع. ومثل هذه الأوراق التي حول كل من : الحاج قادر كويي، والشاعر كوران، والشاعر شيركو بيكه س.
وفي كلمة أخيرة : فإننا أمام كتاب مثير وممتع يفتح لنا آفاقا رحبة للالتقاء بشخصيات اشتركت في صياغة تاريخ الكرد، وكان لها تأثيرها الكبير في زمانها، وما يزال لهذا التأثير وهجه، فتحية للباحث دانا أحمد مصطفى، وهو يلوّن أمامنا هذه الحديقة من حدائق الكرد الجميلة والخصبة .

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية