رِحْلَةُ البَحْثِ عَنِ السِّيَادَةِ: مَنْ يَحْكُمْ مَن؟

حجم الخط
0

في الحقيقة مذ تعرّفت إلى عبد الرّزاق بوكبّة في كتابه ‘من دسّ خفّ سيبويه في الرّمل؟’، وأنا أحرص على تتبّع ومحاورة إنتاجه الأدبيّ الغزير؛ فمن ‘أجنحة لمزاج الذّئب الأبيض’، ‘جلدة الظّل’، ‘من قال للشّمعة: أف؟’، ‘عطش السّاقية’، ‘تأملاّت عابر للقارّة’، ‘نيوتن يصعد إلى التّفاحة’، إلى ‘ندبة الهلالي: من قال للشّمعة: أح؟’، أجدني أمام تجربة راقية جدّا للمبدع بوكبة، صاحب الحضور المتميّز في المشهد الثّقافي الجزائري، وصاحب النّصوص العابرة للزّمن، والمفتوحة على قراءات واسعة لما تحتمله من عمق وفكر.
الكاتب القادم من الهامش إلى المركز، من قرية أولاد جحيش ببرج بوعريريج إلى
الجزائر العاصمة يبدو مقتدرا على اقتناص اللّحظة، وإحالتها إلى نصوص قادرة على
إثارة الدّهشة والتّساؤل لدى القارئ. ربّما هي روحه الشّعرية التّي أبانت عن قدرة هائلة لدى بوكبة في التكثيف والتّحريك، أم هي بيئته الأولى التي نشأ فيها تفجّر رغبته، وانبعاثها إلى سطح الوعي.

شيفرة عنوان الكتاب: لماذا نيوتن، فعل الصّعود والتّفاحة؟..

إنّ تفكير بوكبة في عنونة كتابه قد احتاج إلى تفكير عميق وتدبير دون شكّ، ذلك لأنّ تسمية المُؤَلّف هي عتبة الدّخول الأولى، وهي عتبة فهم النّص وتحليله بالنّسبة للمتلقّي، كما أنّها ذات دلالة هامّة على العوالم المعرفيّة والثقافية التّي قدِم منها المؤلّف.
نجد عبد الرزّاق بوكبة قد أشار في عنوان كتابه إلى تجربة نيوتن مع التّفاحة، وهي إحالة ذكيّة إلى ضرورة إعمال المنهج الاستقرائي لفهم المشهد الثّقافي الجزائري، وهي دعوة المثقّفين الجزائريّين إلى التّساؤل عن المصير، والبحث عن أجوبة لكلّ الأسئلة التّقليدية المتعلّقة بالفعل الثّقافي: ماذا، كيف، من، أين، وأيّ…
وقد شفع المُؤلّف كتابه بعنوان فرعي ليشرح ويفسّر ما قصده في العنوان الأصلي، وبذلك يكون بوكبة قد أزال الغموض والتّكثيف، ووجّه في آن القارئ بخصوص كيفيّة القراءة.
بقي أن نشير إلى أمر مهمّ تعلّق بفعل الصّعود إلى التّفاحة، وهو فعل قصد من خلاله الكاتب تحفيز المثّقف الجزائري على النّهوض بالعبء الثّقافي، والارتقاء بدوره إلى فضاءات أرحب، ومستويات تليق بصنّاع الحضّارة وموجّهيها؛ وبهذا يكون بوكبّة قد وجّه رسالة ضمنيّة إلى جميع المثقّفين الجزائريّين مفادها أنّه على المثقّف ألاّ يكتفي بدور المتفرّج، حيث ينبغي عليه أن يكون ملاحظا جيّدا لسيرورة الأشياء والتّجارب الاجتماعية، وناقدا موجّها للإنسان، ومفكّرا باحثا عن المعنى وسرّ الوجود. فعلى المثقّف الصّعود إلى الثّقافة كفعل مستمر في الواقع، وليس انتظار جَلْبَبَتِهَا لهُ كمفهوم، فلا تعدو إذ ذاك سوى أن تكون سجلا تجاريا، أو صفة لموصوف.

‘ ‘بأيّ لغة يكتب بوكبة؟..

هذا هو السّؤال الذّي يتبادر إلى ذهنك أوّل ما تقرأ لعبد الرزّاق بوكبة، وهو سؤال يتكرّر معك كلّما تناولت نصّا من نصوصه، أو مؤلّفا من مؤلّفاته. هذا الكاتب المبدع يتحرّك بسهولة على رمل اللّغة، فهو ينتقل من اليومي إلى الميتا لغوي بأريحية كبيرة، بل قد تصيبك الدّهشة وأنت تقف أمام لغة قريبة من اللّغة الصّوفية العرفانية، حيث التّلاقي مع أسلوب الكتابة عند الشّيخ الأكبر ابن عربي، والتّقاطع معه في الزّمن (زمن السّلاطين)، وكأنّه التّناص هنا بين سلاطين بوكبّة وفصوص الحكم لابن عربي؛ إنّها اللّغة المنطلقة من ساحات اللاّوعي، المُحلّقة في سماء الوعي بكلّ حريّة، وجرأة. والفصوص كما نعلم هي كلمات إلاهيّة في كلمات محمّدية، أمّا السّلاطين في كتاب بوكبة فهي عبارة عن كلمات ثقافية في مشهد ثقافي.
كتب بوكبة عن ستّ وستين سلطانا في مؤلّفه، بدء بسلطان الفنّ وانتهاء عند سلطان الانتقائية. هذه السّلاطين كانت بمثابة نزوات سطوة(Des pulsions demprise) تبحث عن الإشباع، والإفلات من الرّقابة انطلاقا من اللاّوعي، وهي بذلك تقترب من مفهوم التحكّم/الامتلاك، فالسّلطان يحكم ويتحكّم ويمتلك في نفس الوقت، وهذا كلّه يبدو كاستهياء لحالة نفسيّة ما. إذن، يبدو بوكبة كالقائم بالتّشريفات في ديوان سلطان بل سلاطين تحكم مشهدنا الثّقافي اليومي، حيث يقوم بوكبة بمساعدتنا في المرور إلى السّلطان عبر الإجراءات البروتوكولية المتمثّلة في عبور عتبة الدّخول والخروج، كما يقوم بدور الشّاهد المُدوّن، الكاتب في ديوان السّلطان، وهو يعود بذلك لإحدى الوظائف المهمّة في حياة المثقّف، ألا وهي وظيفة التّدوين والشّهادة على الأحداث كما هي في الواقع.
نجد عبد الرّزاق بوكبة في مؤلّفه يكتب عن سلطان ما ثمّ يعود للكتابة مرّة أخرى، وكأنّه يشخّص الحالة ثمّ ما يلبث أن يلاحظ شيئا ما على تطوّرها، فيصف تشخيصا جديدا أو يقدّم ملاحظة من زاوية مختلفة، وهو بذلك يدعونا للتّساؤل حول طرق الشّفاء، والتنبّؤ بتطوّر الحالات، كما يجعلنا نتأمّل مثله هذا الذّي يحدث عندنا؛ إنّه الواقع بكلّ تفاصيله التّي نتجاهلها على الرّغم من أهميّة هذه الأخيرة في حياتنا.

مَنْ يَحْكُمْ، مَنْ؟..

هذا هو التّساؤل الأهمّ في كتاب بوكبة، هل نحن الذّين نحكم سلاطين الفن، الكتابة، الارتجال، التخريب، المهارة، الكوابيس، العنف، وغيرها، ونستعملها لنكون سادة الحياة؟، أم أنّ هذه السّلاطين هي التي تحكمنا، وتستحوذ على لغتنا، وفنّنا ومعارفنا، ومعتقداتنا سواء كانت دينية أو فكريّة، وتنظيماتنا الاقتصادية والاجتماعية والسّياسية؟.
الحقيقة أنّ مختلف السّلاطين سيطرت على أفعالنا، وقست في بعض الأحيان على أحوالنا حتّى ضيّعنا بوصلة اتجّاهنا ومسار تقدّمنا؛ لذلك يدعو عبد الرزّاق بوكبة في كتابه المثقّفين الجزائريّين إلى ضرورة التأمّل والاشتغال على بناء تصوّر أو عدّة تصوّرات بهدف الخروج من الأزمة الثقّافية التّي نتخبّط فيها، والتّي صارت شبيهة لحالة الشّقاء والبؤس الثّقافي الذّي يقود إلى الإحباط، ومن بعده اليأس، والنّزوع نحو الانتحار الجماعي لأمّة لها تاريخها القديم والمعاصر.
بوكبة أهدى كتابه ‘إلى المثقّفين الجزائريّين الرّاحلين في طريق الحقيقة منذ الحركة الوطنيّة إلى يوم الاستقلال هذا’، وهو إهداء مُلغّم بالسّياسي، ويحتاج إلى قراءة لوحده. وأنا بدوري أدعو قرّاء هذا المقال إلى الاقتراب من أسس المشروع الفكري للكاتب المبدع عبد الرّزاق بوكبة، من خلال كتاب ‘نيوتن يصعد إلى التّفاحة-تأمّلات في المشهد الثقافي الجزائري’.

‘ كاتب جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية