هاني حوراني: معرضي ‘وجوه مدينتي’ يجمع ما بين الجماليات العشوائية ومحاولات اللحاق اللاهث بحياة مدينة لا تكف عن النمو

حجم الخط
0

عمان ‘القدس العربي’ـ من سميرة عوض:قدم الفنان التشكيلي والفوتوغرافي هاني حوراني قصة عمان، في معرضه ‘وجوه مدينتي’الذي أقيم مؤخرا في العاصمة الأردنية، مستعيدا وجوه مدينته/ مدينتنا في الثلاثينات والأربعينات، وكما يقول في برشور المعرض ‘عندما كانت أقرب إلى البلدة الصغيرة، حيث طوبوغرافيتها وتضاريسها الطبيعية هي السمة الأبرز لصورتها ، وفي المقابل تظهر لوحات عمان اليوم كيف طغى النسيج العمراني على تضاريس عمان، وجعل من كل سفح جبلي من سفوحها لوحة فسيفسائية مزدحمة بالتفاصيل والألوان’.
المعرض الذي أقيم في إطار مشاركته في أسبوع الفن في عمان سبق وأن تأجل افتتاحه بسبب من إجراء طبي لقلب حوراني العاشق لمدينته/ مدينتنا عمان، يقام برعاية السيدة ليلى شرف، ليوجه من خلال أعماله (25) والتي تجمع ما بين الفوتوغراف والرسم ‘رسالة حب إلى عمان’.
والحوراني الذي يعد من تشكيلي الستينيات، يولي في أعماله الفوتوغرافية والتشكيلية أهمية كبرى للملمس والتفاصيل التي لا تلفت انتباه العيون العابرة في العادة ويحتفي بأثر الزمن على الأشياء المحيطة بنا، مثل جدران الشوارع وسطوح المواد المتقادمة مثل الخشب والمعادن والبيوت المهجورة وأجسام السفن والسيارات القديمة وغيرها.
الحوراني المولود في الزرقاء، الأردن، عام 1945. تناوب على اهتمامات عديدة خلال حياته، مارس الرسم في شبابه المبكر، وكان أحد مؤسسي ‘ندوة الرسم والنحت’ عام 1962 وأقام خلال الستينيات ثلاثة معارض شخصية، قبل أن تجرفه حرب 1967 إلى الاحتراف السياسي. تلقى عدة دورات على التصوير الفوتوغرافي في بيروت وموسكو في منتصف السبعينات. ومارس خلال السبعينات والثمانينات العمل الصحافي والكتابة النقدية في الصحف اللبنانية والعربية.
له مشاركات في معارض جماعية داخل الأردن وخارجه، آخرها مشاركته في بينالي القاهرة الدولي للفنون التشكيلية، دورة 2009/2010 القاهرة، وفي متحف المنامة للفنون التشكيلية، البحرين،2011. وقد حصل مؤخرا على شهادة لجنة الحكام التقديرية من رابطة التشكيليين الأردنيين.
قراءة وتأمل لجماليات عمان
لماذا عمان بالذات، وهل يوثق المعرض لتحولات المدينة التاريخية؟!
*إن أعمالي عن عمان ليست سوى قراءة في بعض وجوه عمان، وهي لا تسعى إلى ‘توثيق’ تحولات المدينة. إنها بالأحرى محاولة فهم كيف أصبحت عمان على ما هي عليه اليوم. يجب القول هنا بأن المشهد العماني لم يأخذ الاهتمام الكافي من الحركة التشكيلية، الأردنية. فهنالك ما يمكن وصفه بسوء اتصال ما بين عمان وفنانيها، وقلما لفتت جماليات المدينة انتباه التشكيليين الأردنيين إلا ما ندر، ولذلك فإن المشهد الطبيعي لعمان نادراً ما كان موضوعاً لأعمالهم. ربما لوجود غربة سياسية أو اجتماعية أو نفسية للفنانين عن المدينة كفضاء عام. وربما لاستغراق فنانينا في الحداثة الفنية التي جعلت من المشهد الطبيعي أو المكان خارج اهتماماتهم. وربما كان التوسع المفرط لمدينة عمان سبباً في صعوبة تحديد المقصود بمدينة عمان. فهل هي ‘وسط المدينة’، أم الهضاب السبعة المحيطة بها، أم هي امتداداتها المفرطة خارج نطاقها التاريخي المعروف في الخمسينات والستينات وحتى السبعينات من القرن الماضي.
حقاً، لا تقع عمان على شاطئ بحر أو حتى بحيرة، ولا يشقها نهر كبير، بل أن اللون الأخضر ليس من ملامح عمان المميزة. لكن هذا لا يمنع من رؤية جماليات خاصة بالمدينة، تميزها عن بقية المدن. إن أعمالي عن عمان اليوم هي قراءة وتأمل في هذه الجماليات. إنها تطالع هذا التشكيل العضوي والعفوي لسفوح المدينة، نتيجة زحف المساكن الإسمنتية من قاع المدينة وتسلقها للتلال المحيطة بها في تواتر تاريخي يحمل إيقاعات وأصداء الحروب والهجرات الداخلية والخارجية التي تركت بصمتها القوية على ملامح عمان.
‘إنها ما صنعناه، نحن، بها’..
*هل تدخلت لتجميل صورة عمان، (أو لتخيل ما يمكن أن تكون عليه مستقبلاً؟!).
*لم أسع في أعمالي إلى تجميل عمان، وإنما حاولت الـتأمل في وجوه عمان المختلفة، بجمالها وقبحها، فعمان ليست مجرد مكان مستقل عنا، إنها ما صنعناه نحن بها على مدار عقود عديدة. إنها الابنة الشرعية لمجتمعنا الأردني ولثقافة العيش لدينا. ليست عمان ما نوده لها، ولا الحلم الذي نتخيله عنها. إنها ما صنعناه، نحن، بها. وقد يكون معرضي حافزاً لتخيل ما يمكن أن تصبحه يوماً ما.
إن جماليات عمان مستمدة من التلال والهضاب المعمورة بسلاسل لا حد لها من الأبنية التي تتسلقها من القاع حتى القمة بإيقاعات مختلفة، جاعلة من هذه المباني مرايا ضخمة للضوء والظل، عاكسة في كل لحظة، وفي كل يوم، وفي كل فصل، تبدلات الألوان وتعدد احتمالات الرؤية.
سجادة محاكة بمئات الخطوط والألوان
*الأمر الملفت في معرضك ( وفي أعمال أخرى سابقة) هو أسلوبك في تنفيذ الأعمال، فهي تمزج ما بين الفوتوغراف والرسم. هلا حدثتنا قليلاً عن الجانب التقني في أعمالك عن عمان؟
*كان الفنانون يقومون عند رسمهم للمشهد الطبيعي بإعداد تخطيطات مسبقة للوحة، عن طريق رسم اسكتشات بالقلم أو الأحبار أو بالألوان المائية. والفارق الذي أحدثته هو أنه بدلاً من هذا النوع من التحضيرات التقليدية للوحة فإني أصنع من صوري الفوتوغرافية للمكان ما يشبه التخطيطات التي كنا نقوم بها عادة بأقلام الرصاص على الورق للمكان الذي نرسمه. وبعبارة أخرى فإني أضع تخطيطاتي للوحة عن طريق التصوير الفوتوغرافي. وبهذا المعنى فإني أجمع ما بين جماليات وامكانات التصوير الفوتوغرافي مع تقنيات الرسم لأحصل على نتيجة لا يمكن تحقيقها بأي منهما على حدة. من ناحية أخرى فإن الفنان التشكيلي كان يختار موضوع لوحته عن طريق التركيز على مركز المكان ويهمل التفاصيل المحيطة به. إن العين البشرية لا يمكن أن ترى كل تفاصيل المكان. إنها تختار وتختزل آلاف التفاصيل الواقعة في بضعة خطوط رئيسية تكون بمثابة مركز العمل الفني، وعادة ما يلجأ الفنان إلى التركيز على ما يعتبره أساسياً، ويملأ المساحة المتبقية بمساحات لونية وخطوط ترمز إلى بيئة المكان وألوانه العامة. خلافاً لذلك فإن أعمالي تنطلق من فلسفة وتقاليد مختلفة. إنها لا تهتم فقط بما يسمى مركز العمل أو المشهد، وإنما تهتم بكل المشهد، الذي يشتمل عادة على آلاف التفاصيل التي أراها، جميعها، مهمة في تشكيل جمالية العمل. ولا يمكن الوصول إلى ذلك بدون الاستعانة بالصورة الفوتوغرافية التي التقطها مسبقاً، واعتبرها بمثابة المرجع البصري أو التخطيط المسبق للعمل (الإسكتش). إن لوحتي تصف شبكة واسعة من الخطوط والألوان والأجسام، إنها أقرب إلى النسيج أو السجادة المحاكة بمئات الخطوط والألوان. إن جماليات المشهد العماني لا تنبع فقط من جمالية كل مبنى من المباني، وإنما أساساً من هذا المزيج الهائل لهذه المباني عندما تتجاور وتتزاحم أفقيا وعموديا للوصول إلى ذلك كان لا بد من المزج والجمع ما بين الامكانات والجماليات التي تتمتع بها الصورة الفوتوغرافية و بين الحساسيات والإضافات التي تنشأ عن تدخلي بالفرشاة والألوان.
التركيز على ‘الفن الحضري’
*ما هي مشاريعك المستقبلية بعد ‘وجوه مدينتي’؟
*لدي حلم بأن أساهم في إنجاز المهمة غير المكتملة للحركة التشكيلية الأردنية. وهي التركيز على جماليات المكان في الأردن. فالمشهد الطبيعي في الأردن لم يحظ بالاهتمام الكافي من خلال المراحل السابقة. إني لست معنياً، أكون فناناً معاصراً، أن اتبع الموجات الحديثة في الفن. إني اهتم أكثر بملء الفراغات أو المساحات التي لم نقم بإكمالها على الصعيد الفني في العقود الأخيرة. أريد إعادة الاهتمام بالمشهد الطبيعي للمناطق والمدن الأردنية المختلفة. إن من حق الفنانين الآخرين أن يجاروا الاتجاهات العالمية السائدة في الرسم. لكن أجد (ربما لخلفيتي السياسية) إن واجبي هو أن أتفاعل أولاً مع بيئتي وجماليات المكان في بلدي والوطن العربي. في هذا السياق فإني أهتم بالموضوعات التي تشكل محور تركيز الفن الحضري، أي حياة الناس وبيئاتهم اليومية.
بورتريه جماعي للعمانيين…
*ماذا يقول الفنان هاني الحوراني عن معرضه الجديد ‘وجوه مدينتي’؟
*لطالما اعتبرت نفسي شخصاً متعدد الهويات، لكني نظرت إلى نفسي باعتباري عمانيا في المقام الأول. لقد طور هذا الإحساس بهويتي رؤيتي لجماليات عمان. فعمان ليست مجرد مدينة للعيش، وإنما هي، بالنسبة لي، مكان للتأمل والتمتع بجمالياتها، والتي هي مزيج مدهش من هبه الطبيعة وفعل الإنسان. كيف بدأت في قاع الوادي لتكون أقرب إلى صورة القرية الوادعة، ثم كيف تحولت، بفعل تفاعل الناس مع الأحداث والتطورات الإقليمية إلى مدينة مليونية، تتسلق السفوح حتى قمم الجبال، وكيف تتراصف عمائرها فوق بعضها البعض في نسق يجمع ما بين الجماليات العشوائية ومحاولات اللحاق اللاهث لتنظيم حياة مدينة لا تكف عن النمو. فجماليات المدينة لا تنبع من تنظيم أو تخطيط حضري مسبق، أو من نمطها المعماري أو المواد المستخدمة في بنائها، وإنما قبل ذلك كله من هذا التراصف المدهش للأبنية التي تتسلق سفوح الجبال لتغطيها حد الاكتظاظ.
إن جماليات عمان نابعة من مسعى أجيال من الأسر لتأمين موائل لها، ومن محاولاتها المستمرة لتحسينها وتوسيعها رأسياً.لا تستطيع أن تنظر في سفوح عمان دون أن تفكر في الناس الذين يقبعون وراء مئات الآلاف من المباني التي تغطيها. وهكذا فان هذه الحشود المتراصفة والمتراكبة من المباني تبدو وكأنها صور شخصية لقاطنيها. إنها ليست مجرد أبنية إسمنتية (حجرية أحيانا) تعلوها اللواقط وخزانات مياه الشرب والسخانات الشمسية، وإنما هي بورتريه جماعي للعمانيين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية