تحدَ تثقيفي تاريخي أمام الجميع

حجم الخط
4

الذين آمنوا ويؤمنون بأن مطالب الديمقراطية، التي إنطلقت منها ثورات وحراكات الربيع العربي، لن يوهنها الزمن ولن تطفئ جذوتها عثرات المراحل الإنتقالية، يحتاجون أن يمعنوا النظر فيما يمكن أن يكون أصعب وأعقد تحدً يقف في وجه الإنتقال العربي نحو الديمقراطية. هذا التحدًّي يتمثَّل في نوع العقلية التي يتعامل بها الإنسان العربي مع محيطه الإجتماعي.
ذلك أن بناء وترسيخ وتطوُّر النظام الديمقراطي في أيًّ مجتمع يتطلُّب وجود عقلية مجتمعية عامة تتعامل مع الحياة السياسية والإجتماعية والثقافية من خلال الآتي:
القدرة على التحليل الموضوعي الناقد تمهيداً للتجاوز نحو الأفضل والأكثر قبولاً، ممارسة المرونة والتسامح والإحتواء في التعامل مع القضايا ومع الآخرين، ممانعة الإنزلاق نحو الخضوع للغرائز والإنفعالات البدائية، العيش في الحاضر والبناء للمستقبل، الرفض التام لممارسة الإقصاء والتهميش لأي جماعة.
السؤال المفصلي الذي يجب أن يطرح وأن يجاب عليه دون الإلتفات لما قاله ذلك المستشرق المتحامل أو ذاك المستغرب المسحوق هو الآتي :
هل أن العقلية العربية، التي كوَّنتها معتقدات وأفكار وعادات وسلوكيات وتصورات وممارسات المجتمعات العربية عبر القرون، ستكون قادرة على أن تختزن داخلها متطلبات العقلية التي بدونها تفسد الديمقراطية في المجتمعات ؟
الذين كتبوا عن خصائص العقلية العربية، وهم كثيرون، أبرزوا الخصائص التالية لهذه العقلية: إنها عقلية تبالغ في تمجيد الماضي ورموزه لتقع في النهاية أسيرة فكر وممارسات ذلك الماضي الذي يؤدٍّي عدم دراسته بصورة موضوعية ناقدة إلى هيمنة الماضي وشلل الحاضر، إنها عقلية لم تستطع غربلة تراثها لتتجاوز قاعدته المبنيَّة على تصور رأسي للعالم كما يصفه المفكًّر الإسلامي د. حسن حنفي على أنه وضع ‘أولوية الله على العالم في الخلق والفيض، وأولوية النَّص على الواقع، وأولوية النقل على العقل، وأولوية الحاكم على المحكوم، وأولوية الرجل على المرأة’، وما يهمنا بالنسبة للديمقراطية هو أولوية الحاكم على المحكوم وأولوية الرجل على المرأة، إذ أنهما يتناقضان تماماً مع أسس ممارسة الديمقراطية.
لا أعتقد أنه قد وجدت مجتمعات تشابك فيها إلى أقصى الحدود هيمنة التاريخ مع هيمنة التراث، فأوجد حالة من الإرباك في عقلية المجتمع، مثلما حدث في المجتمعات العربية.
إشكالية اختلاط التاريخ بالتراث، كما يؤكًّد كاتب الفلسفة البريطاني أ. س. جريلنغ، أنه في حين أن دراسة التاريخ يمكن أن تكون مفتوحة وشاملة وتهدف لمعرفة الحقيقة فان التعامل مع التراث ينطلق من اعتقادات إيمانية شبه مقدَسة لا تتردَّد في أن تتلاعب بمادة التاريخ حذفاًّ ومبالغة واختراعاً وتشويهاً لتبني اساطير حول هوية الأمة أو أصولها أو ولادتها. ولذلك يلحُ هذا الكاتب على وضع حاجز بين التاريخ والتراث ليسهل التعامل مع كل منهما.
موضوع دور التاريخ والتراث في تكوين العقلية العربية ليس موضوعاً أكاديمياً، إذا أننا نعيش تأثيرهما في كل مناحي حياتنا اليومية وفي كل نظراتنا للأمور، بما فيها السياسة وبالتالي بما فيها محاولة الانتقال لنظام ديمقراطي.
هنا نواجه مشكلتنا الحقيقية. ذلك أن تاريخنا وتراثنا قد ارتبطا عبر القرون بفكر وممارسات القبلية والعشائرية والاستبداد السياسي والفقهي والاجتماعي، بتقديم الحاكم على المحكوم، باطاعة شبه عمياء لولي الأمر، بخوف مريض من مساءلة السلطة، بهيمنة ذكورية على المرأة وتشكيك في قدراتها العقلية والنفسية والحياتية، في الفهم الخاطئ الإنتهازي لموضوع الفرقة الناجية الوحيدة التي تملك الحقيقة المطلقة وبالتالي في حقَّها أو واجبها في الاستئصال المعنوي للآخر المختلف، في أشياء كثيرة لا يسمح المجال لتفصيلها.
والنتيجة لكل ذلك هو بناء عقلية لا ترى مشكلة في الظلم ولا في الاستبداد ولا في الفروق المعيشية المعيبة بين الناس ولا حتى في شتَّى أنواع العبودية لشتًّى أنواع السلطات والرموز، وعلى الأخص في حقول السياسة والدين والإجتماع. لنستذكر قول المهاتما غاندي الشهير بأن ‘الحرية والعبودية هما حالات عقلية ذهنية’، لنرى ما فعل التاريخ والتراث بناوهَّيأنا للتعايش مع عار العبودية.
والحل؟ هل نستسلم لذلك القدر، قدرإملاءات العقلية المليئة بالعلل التي كونها ذلك التاريخ وذلك التراث؟ الجواب القاطع هو كلاًّ. أولاً، لأن هناك الكثيرين ممًّن عملوا منذ القرن التاسع عشر لإخراج العقلية العربية من المنزلق الذي عاشت في قاعه عبر القرون. لكن تلك المحاولات ستحتاج لسنين إن لم يكن لقرون.
وثانياً، هناك حاجة ملحًّة في اللحظة الراهنة، لحظة الربيع العربي في صعودها وهبوطها، لإقناع أكبر عدد من جماهير الأمة العربية باختزان على الأقل الحدًّ الأدنى من متطلبات الإنتقال الديمقراطي في عقليتها الجمعية، بمحاولة القبول، إبًّان الفترة الإنتقالية التي تعيشها الأمة حالياً، بتعايش تلك المتطلبات الديمقراطية مع ما ترسَّب في الذَّهنية العربية عبر العصور من متطلبات القبلية والمذهبية من جهة ومن مقولات التراث والتاريخ المليئة بالأخطاء والعلل من جهة أخرى. نؤكُّد مرة أخرى بالإكتفاء حالياً بتعايش متطلبات الديمقراطية مع المتطلبات الأخرى التي بناها التاريخ والتراث، وليس الحديث عن الاصطدام والتضادد والاجتثاث بين تلك المتطلبات.
عملية الإقناع تلك هي التحدٍّي الأكبر أمام عقلاء المساجد والحسينيات والأحزاب والإعلام ومستعملي شبكات التواصل الإجتماعي. إنه تحدُّ تثقيفي تاريخي عسير، يتطلب الكثير من الحكمة والصًّبر، ولكنًّ مواجهته أصبحت ضرورة حياتية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ضو الصغير_تونس:

    فعلا مقال مهم يختزل المهمة الأساسية والاستراتيجية ليس لإنجاح الانتقال الديمقراطي فقط إنما للخروج مما يسميه هاشم صالح “الانسداد التاريخي” الطويل الذي كبل هذه الأمة وتركها تتخبط في غيبياتها ومعتقداتها ورؤيتها التقليدية الدغمائية للعالم ولتراثها الذي لم يخضع للمساءلة والتمحيص ولم يُوضع على ميزان العقل ومناهج الواقع.. هذه الاشكالية تفطن إليها بعض المفكرين العرب اللامعين في النصف الثاني من القرن العشرين مواصلين الإجابة عن سؤال النهضة المركزي وفك أسباب تخلف العرب والمسلمين وأرى من الضروري العودة إلى هذه المشاريع وإعادة تفعيل طروحاتها وخلاصاتها والاستفادة منها لإضاءة الحاضر، فإلى جانب حسن حنفي الذي استشهد به الدكتور فخرو يتميز كذلك مشروع الدكتور محمد أركون في نقد العقل الإسلامي الذي أعتبره شخصيا الأكثر جذرية وصلابة منهجية إلى جانب محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي وخاصة العقل السياسي العربي الذي يعتبره مرتهنا بثلاثة محددات أساسية هي العشيرة والغنيمة والعقيدة..
    فالعودة إلى هذه المشاريع وغيرها لمحاولة فهمها وتعميم خلاصاتها والاشتغال عليها وإذكائها مهم جدا في الخطاب التربوي والإعلامي وهو مقدمة الثورة الثقافية الحقيقية التي بدونها لا يمكن أن تنهض السياسة.

  2. يقول محمد طاهات / عضو في رابطة الكتاب الأردنيين:

    بسم الله الرحمان الرحيم , وبالله نستعين ,وبعد .
    هذه مشكلتنا الأساسية والأصعب يدكتور , وهي تقديس التراث الى درجة الهيمنة على حياتنا كلها ؛ اجتماعيا وثقافيا وسياسيا , مماجعلنا نقع في هذا الفخ الذي يكاد يدمر حياتنا ويبقينا في سجن الماضي , الذي تركته الشعوب كلها وراءها وعاشت الحاضر بكل تجلياته ومتطلباته الا نحن العرب , ولذلك أقول كما قلت : كلا يجب الآنستسلم ونبقى في دائرة الماضي والتراث , وفي ذات الوقت لاننكر التراث ونسيء اليه , لقد كان له دوره المهم في زمنه , ولنتمسك به أخلاقيا ودينيا , ولكن سياسا لا وألف لا , يجب أن نخرج من سياسة الحكم المطلق وتقديس الحاحم الى جو الديمقراطية الحقيقية في دولة ديمقاطية تعطي كل ذي حق حقه , لااقصاء لأحد مهما كان مذهبه أو حزبه ا, طائفته , هذا هو مايهدف اليه الربيع العربية : انتقال الدولة من الحكم الشمولي المطلق , ومشاركة الشعب بالسلطة عن طريق تأليف البرلمانات التي تنتخب بطريقة الانتخاب الحر وبقانون عصري يتلاءم مع متطلبات المرحلة , بحيث تنهض الدولة اقتصديا وساسيا وثقافيا , وبذلك يكون الربيع العربي قد حقق غايته وأهدافه
    كلما قلته في مقالك صحيح .

  3. يقول أبو غريب العربي:

    ضربت المسمار على رأسه، والطريق الوحيد كما تفضلت هو العمل الدؤوب الصبور في كل المجالات وعلى كافة المستويات، كل في بيئته المحدودة، لاحداث التغيير.

    أحد المجالات المهمة في هذا الاطار هو البحث العلمي، فلم يكن لينجح تغيير العقلية الاوروبية في العصور الوسطى بدون النجاحات التي حققها علماء النهضة في مقاومة ودحض الافكار “الظلامية” التي كانت سائدة في حينه. يجب أن ينهض علماؤنا وفلاسفتنا من اقبيتهم المحمية في الجامعات والمعاهد للقيام بدورهم التاريخي في تحرير العقل وارساء قواعد حرية التفكير والاختيار التي سطرها القرءان في ديننا ولكن ليس في حياتنا.

  4. يقول خليل ابورزق/ الاردن:

    مع الاحترام للدكتور فخرو و الاعتراف بوجاهة الفكرة الا ان العرب ليسوا اقل من غيرهم من الامم التي اتبعت النظام الديموقراطي شرقا و غربا و شمالا و جنوبا. من الهند الى كوريا الجنوبية الى سيريلانكا الى تايلاند و ماليزيا وغيرها في اسيا ناهيك عن افريقيا و امريكا اللاتينية و اليونان و اسبانيا. الفرق الرئيسي ياسيدي متعمد ومرتبط بوجود اسرائيل.
    تخيل للحظة عدم وجود اسرائيل في المنطقة فهل ستكون لدينا 13 دويلة في المشرق العربي؟. اذن المسألة مرتبطة بعضها بعض و كل منها مدين للآخر بوجوده و بهذا الشكل.
    المثير للدهشة فعلا ان الامة العربية التي ظلت موحدة طيلة قرون تفككت بدعوى القومية في وقت صعود القوميات و توحد الامم الكبرى مثل الالمان و الطليان و اليابان و الصين الخ..الوضع الحالي ضد الطبيعة و لن تستقر المنطقة الا بزوال اسرائيل و قد يكون زوال الدويلات قبلها

إشترك في قائمتنا البريدية