عصام كرباج: الفـنّ طريقتي لإعادة صياغة الحياة !

حجم الخط
0

الكويت ‘القدس العربي’ ـ المغيرة الهويدي: خمسة وعشرون عاماً منذ آخر لقاء جمع الفنانين التشكيليين السوريين عصام كرباج ونزار صابور. كانّ من المفترض أن يلتقيا بعد سنواتٍ طويلةٍ من الشتات، لكنّ الظروف الراهنة في سوريا حالت دون قدوم نزار صابور إلى الكويت، فشكّل المعرض فسحة تلتقي فيها أعمالهما الفنيّة على الرغم من لعنة الشتات، وفرصة لزائري المعرض ليبحثوا فيها عن تقاطعات ممكنة مع تلك الخطوط والألوان التي ّتجسّد تجربتهما الفنيّة، ورؤيتهما للأشياء في قدرتها الدائمة على الحياة.
هذا اللقاء الذي ضمته قاعة ‘كاب’ للفنون المعاصرة في الكويت، في معرض تحت عنوانSCATERD,GATHERD.Artistbooks يعود ريعه لمصلحة مؤسسة المدد وتحديداً لمشروع تعليم الأطفال النازحين في حلب كما أخبرنا الفنان التشكيلي عبد القادري منظّم المعرض ومدير القاعة.
على هامش المعرض كان لنا هذا اللقاء مع الفنان التشكيلي السوري المقيم في بريطانيا عصام كرباج :
* ‘كتبٌ في الشتات’، ما الفكرة من تسمية المعرض بهذا الاسم؟
*للتسمية بعدان، البعد الأول ينطلق من علاقتي بالفنان نزار صابور كوننا أصدقاء منذ أيام الدراسة في الوطن سوريا، وفي الغربة في الاتحاد السوفييتي، قبل أن نفترق فيعود نزار إلى سوريا وأغادر أنا إلى بريطانيا ولم نلتقِ منذ عام 1989، والآن تلتقي أعمالنا بعد خمس وعشرين سنة حيث تتلمذنا على أساتذة كبار مثل الفنان فاتح المدرس، وأردنا أن يكون هذا اللقاء تحية له أيضاً. أمّا البعد الثاني، فيشير إلى إمكان الالتقاء بعد التشظّي مثل أوراق الشجر أو أوراق الكتاب، وتحديدًا في وطننا الأمّ سوريا، رغم كل ما فيها من دمار وخراب.
* مسببات التشظي كثيرة، هل مهمة الفن إعادة جمع ما تناثر؟
*قد لا تكون مهمته، ولكنّها تبقى وجهة نظر. أفكر بطريقة مغايرة منطلقاً من البحث ‘الأركيولوجي’، الذي يعني في جوهره التنقيب والبحث عن تلك الشظايا وإعطاءها قيمتها الحقيقية، بكل ما تحمل من تاريخ وقصص، وهذا التصوّر يتلاقى وتصوّر نزار الذي استطاع أن يصنع لأعماله هذا التاريخ من خلال العودةِ إليها مرارًا.
* مشاركتك الرئيسة في المعرض تتلخص بعرضِ اثني عشر مجلّداً، وعلى كلّ صفحة لوحة، تحت عنوان يبدو صادماً بمخالفته للمنطق(1+11=2)، ما سبب هذه التسمية؟
هذا منطق شاذ، أو بالأحرى هو منطق آخر مخالف للمنطق السائد، لكنّه منطقٌ ثانٍ، أنا لا أقول بشكلٍ حرفي 1+11= 2، بل أصف طريقة العمل، حيث بدأت من الصفحة الأولى ثم انتقلت إلى المجلد الثاني حتى انتهيت من المجموعة، ثمّ عدت إلى الصفحة الثانية من الكتاب، وهكذا فإنّ كلّ لوحة هي جزء من إحدى عشرة لوحة مخفية في المجلدات الأخرى. بصيغة أخرى، هنالك إحدى عشرة لوحة ناقصة لكلّ لوحة في كلّ كتاب.
* هل في تقنية العمل هذه دعوة للبحث عن الأجزاء الناقصة لكلّ لوحة؟
*لا، الفكرة من هذا العمل هي صناعة مشهد خاص يعكس ذاتي بتجاربها وعوالمها الداخلية، ويشكل صدًى لطريقة تفكيري أيضاً، أنا لا أعمل وفق المنطق الذي تفرضه الموسوعة بانضباطها الحرفي في ترتيب المادة العلمية الّتي تتضمنها، ولا أرغب بذلك؛ لذا ارتأيت استخدام المجموعة الّتي كان من المقرر تنسيقها وإلقاؤها في سلة المهملات .
– 10332 لوحة على صفحات هذه الموسوعة ،عملٌ ضخمٌ لا بدّ أنّ إنجازه استغرق وقتاً طويلاً، ما الظروف التي أحاطت بإنجاز هذه المجموعة؟
*استغرق إنجاز هذه المجموعة سبعة أشهرٍ فقط، كنت متفرّغاً خلالها لهذا العمل، بعد أن توّقف مشروعي الفنّي الذي كنت أشتغل عليه لمدة ثلاث سنوات في مدينة كامبريدج، في الحقيقة توّقف لأسبابٍ خارجةٍ على إرادتي، وهذا ما ولّد لديّ شعوراً بالكآبة قادني إلى العزلة والانقطاع عن الناس والتدريس والتفرّغ الكامل للرسم. كانت الموسوعة هي الطريقة الوحيدة لإعادة صياغة الحياة بشكلٍ آخر.
* هل هنالك مخطط لبحثك البصري، خصوصا أنّ هناك جدارية أخرى في المعرض تضم أكثر من 500 بطاقةٍ صغيرة ؟
*لا يوجد مخطط مسبق أضعه للعمل الفنّي الذي أشتغل عليه، أو تصوّر للنهاية الّتي سأصل إليها. لهذه البطاقات قصة، حيث كان يوجد تحت مكان إقامتي محل لبيع المفروشات، وهو محل عريق ومهمٌ يعود إلى أربعينيات القرن الماضي، وقد بيع هذا المحل مما استدعى إلقاء تلك البطاقات الّتي كانت مخصصة لتسجيل الطلبات وأوامر الصرف والبيع والشراء. حدثٌ جميل أن تجد هذه البطاقات المكتوبة بخط اليد في زمن الديجيتال؛ لذا قررت أن أعطيها تصوراً آخر، أحببت أن أعبر عن احترامي لتاريخ هذه البطاقات، وأسبغ عليها تجربتي وتاريخي أيضا، وفي هذا الأمر مساحة للالتقاء أيضاً بين الذاتيّ والموضوعي تحت فكرة اليوميات البصريّة ‘Visual Diaries’.
* ما الغاية من استخدام هذه المساحات المستعملة وإعادة تشكيلها؟ هل ينضوي هذا تحت فن إعادة التدوير؟
*العملية بتصوري هي إعادة إحياء وتركيب. حدثٌ عظيم أن تجدَ شيئاً له تاريخ، لا يوجد ماهو أصعب من الورقة البيضاء. البياض مساحة لا محدودة، أعطني شيئاً له تاريخ، وسأعيد إنتاجه حسب رؤيتي. هذه الأشياء هي مدخل لا أكثر، فقد يثيرني المكتوب أو لون الحبر أو طباعة الآلة الكاتبة، لكل ورقة خصوصيتها. وفي النهاية هي ليست عملية ميكانيكية ولا تخضع لمقاييس محدّدة، هو أمرٌ أشبه بالتقمص الّذي يعيد الحياة بشكلٍ آخر، شكلٌ تنبثق منه طاقة كامنة كما في الموسوعة أو البطاقات.
* بعيداً عن المعرض قليلاً، هل من الممكن أن تحدّثنا عن عملك بوصفك مدرساً للفن من أصلٍ عربي في جامعة بريطانية عريقة مثل كامبريدج؟
*أنا أعمل بوصفي مدرساً للفن ولست أكاديمياً، أدرس طلاباً أجانب من مختلف الجنسيات، من الصين واليابان وكمبوديا وأوروبا، وأرى عملي ينحصر في حثّ الطالب على إظهار ما في داخله والتعبير عن تجربته. لا أسعى إلى تلقين تجربتي الخاصة بقدر ما أسوقها لهم كمثال لا أكثر، فأنا فنان سوري وحياتي وتجاربي وتنقلاتي ورحلاتي الّتي قمت بها هي جزء من تاريخي وتعبير عن عوالمي الداخلية. والجميل في بريطانيا وفي أوروبا عامة هو شغفهم برصد تلاقح الثقافات واختلاطها، وسيرة حياتي كانت خير مثال لطلابي. في البداية لم أكن مطلوباً كفنان سوري، ولكنّ ما شجع الطلاب للانضمام إلى صفّي فيما بعد هو أنني لم أكن أعرف اللغة الانكليزية ؛ لذلك كانت الدروس صامتة، ومع ذلك فقد شعرت بطريقة غير متوقعة أنّ الطلاب يسمعونني بشكلٍ جيّد. شعرت أيضاً أنّ الإنسان بحاجة إلى لغة غير اللغة المحكية ليعبّر عن عالمه الدّاخلي.
* ما الفرق بين أن تكون مدرساً أكاديمياً وأن تكون مدرساً للفن؟
*الفرق كبير، فالمدرس الأكاديمي يدرس بشكل حرفي ولديه برنامج يحتاج لتغطيته وفقاً للساعات المحدّدة. أمّا في حصصي، فالطالب هو من يقرّر برنامجه. ومهمّتي مساعدته ليعبّر عن تجربته الذاتيّة، لا أملك ختماً لأطبع فيه كل طالب، بل على العكس هي محاولة تبادلية لتناقل الخبرات والاستفادة منها.
* كفنّان عربي مقيمٍ في بريطانيا، كيف تقيّم المشهد الفني العربي؟
*لا جواب دقيقا لدي، في الحقيقة أنا لا أعرف تماماً. مؤخّراً أذهلتني تجارب فنيّة عربية من لبنان والسودان – على سبيل المثال – تصل إلى العالمية، تجاربُ لم أسمع بها عندما كنت في سوريا. للأسف، الفنُّ ليس من أولويات الواقع العربي، وهذا لا يعني أنّنا لا نمتلك قضيّة فنيّة، بل على العكس، هنالك تجارب جميلة. قد تكون الشحنة الفنية في بلادنا غير قادرةٍ على الوصول حالياً، ولكنّني مؤمنٌ بأنّها ستصل في المستقبل. لدينا كلّ شيء كما في كلّ ثقافةٍ في هذا العالم، وهذا كامن وسينطلق في مكان وزمان مقبلين.
* في المشهد العربي هنالك تياران، أحدهما منحاز لتجسيد الواقع العربي بكلّ ما فيه ومتّهم بتصدير أيديولوجيات معينة، وتيار آخر منحاز للفن بعيداً عمّا يحدث، ما رأيك في كلا التيارين؟
*جمالية الحياة في تعدديتها، وهذا رأيي، لو كنا متشابهين جميعاً لما تحاورنا ولما استطعنا اكتشاف الأشياء،لا يمكنني أن أحاكم أحداً على توجهه بالصواب أو الخطأ.
* يبدو التجريد مهيمناً على تجربتك الفنيّة، ألا ترى أنّ في هذه الهيمنة هروباً من تجسيد الواقع؟
*على العكس التجريدهو تصوير الواقع بطريقة ثانية، ليست سهلة كما نعتقد، إنّه السهل الممتنع!
* تبدو تجربة نزار متشبثة بالواقع والتراث العربي، ألا يمكن أن يكون هذا التشبّثُ سبباً في محدودية الفنان في ظل انفتاح العالم والتفاته نحو مناطق فنية أكثر اتساعاً؟
* هي تجربة جميلة جداً، وتعبر عن واقعه الذي يعيش فيه وهذا أمر طبيعي. لكلّ فنان مطلق الحريّة في اختيار الاتجاه الذي يريد. على العكس، أنا أحترم تجربة نزار لأنّها مرتبطة بالتاريخ والحاضر، وفي الترميم إعادة خلق لكتاب جديد من خلال قضايا يلمسها، وهذا أمر يستحق الاحترام، أن يعمل بهذا الكم الهائل من الروحانية في ظل هذا الواقع ومصاعب الحياة اليومية، برأيي كل كتاب هو تأريخ لصراعه اليومي !
* المعرض يوجّه تحيةً للفنان التشكيلي السوري فاتح المدرس، كيف تقيّم تجربته الفنية؟ ثمّ، هل تجد أيّة نقاط تلاقٍ بينكما؟
*علاقتي بالفنان فاتح المدرس جميلة منذ أن كنت طالباً عنده، وحتى بعد تخرجي، نظّمت له معارض عديدة داخل سوريا، كما أقمنا معرضاً مشتركاً في لندن. كان قليل الكلام، يتحدث في الوقت المناسب. اكتشفت فيما بعد مواهب متعددة لديه، فقد كان عازفاً وكاتباً أيضاً. بالطبع، هنالك نقاط التقاء، وإنْ كانت غير واضحة، فالفنان هو من يستقي من تجارب الآخرين ويتعلّم منها ويعيد هضمها وتشكيلها وفقاً لتجربته ورؤيته إلى العالم، وهذه جمالية فاتح المدرس الذي استطاع أن يشكّل بصمته الخاصّة، والجميل أنه استطاع أن يجمعني بنزار مرّة ثانية في هذا المعرض الذي يوجّه تحية له، اعترافاً بقيمة تجربته الفنية التي تستحق كلّ تقدير وثناء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية