‘نوستالجيا’ اللبنانيين الى الأماكن التائهة

حجم الخط
0

بعد عاصفة الصقيع الإعلامي حول أتهامات بالفساد والتقصير، بين وزيري المالية والأشغال العامة والنقل في لبنان. وبعد مرورعاصفة ‘اليكسا’ التي حذرت منها الأرصاد الجوية اللبنانية التي تعود اليها قاعدة ‘ناسا’ دائما قبل إطلاق مركباتها الفضائية. وبعد مرور موجة الصقيع العادية مع بداية كل فصل شتاء ‘كانوني’، صحوت صباح يوم مشرق، تضاهي سماؤه النقية صباحات فصل الربيع الزاهر. عقدت العزم على الذهاب الى شارع الحمرا، في بيروت، لاسترجاع أيام خوالي، يقضني اليها الحنين والشوق. شاءت ‘نوستالجيا’ الجلوس في مقهى على رصيف شارع الذكريات، أن أمضي أكثر من ساعتين للوصول اليه في زحمات سير خانقة متتالية، لقطع مسافة لا تتعدى العشرة كيلومترات ‘لبنانية’. ركنت السيارة في شارع ‘جاندرك’ المتفرع من شارع ‘بلس’، المحاذي للجامعة الأمريكية، ثم دسست يدي في جيبي وأخرجت منها نقودا معدنية من فئة الخمسمئة ليرة لبنانية، وأدخلتها في آلة تحصيل النقود التابعة لبلدية بيروت – التي تنتهك وتنتهب، كما كان يقول الفنان الخالد عمر الزعني – وهي كناية عن نصف ساعة توقف مقابل كل خمسمئة ليرة. بقي في يدي بعض النقود التي كانت ترقبها عيون طفلة متسولة، لم تتجاوز السنوات الست، شقراء البشرة، مثل الملاك، شعرها أشقر طويل تدلى حتى خاصرتها النحيلة، فدعت لي بطول العمر، بصوت طفولي ملائكي يجرح القلب ويدمع ألأبصار. اتجهت صعودا نحو شارع الحمرا، على رصيف غفل عمال النظافة عنه منذ وقت طويل. تناولت صحن فول في مطعم
متواضع، ‘بعد أن حشرت نفسي الى طاولة صغيرة في إحدى زواياه الضيقة. إنه مطعم ورثه الصهر مؤخرا عن والد زوجته، وأبقى على فرادة السعر والطعم والإستقبال الأليف. غادرت مطعم الفول مودعا صاحبه السيد ‘علي’ الذي آثر مهنة تحضير الفول على هواية بطولات رفع الأثقال التي لا تغني عن جوع، في
بلد لا يقتات فيه أبطاله سوى على فتات موائد أمراء الحروب، وعرابي مافيات تهريب المخدرات والسلاح وتبييض الأموال. قطعت شارع الحمرا مرتين، جيئة وذهابا، أرقب المارة على الرصيف والجالسين في المقاهي الشعبية. افتقدت مقاهي
‘ستراند’ و ‘ويمبي’ و ‘هورس شو’، وسواها كثيرين، وحل محلها محلات ملابس، أو مقاه لا يمكن مقارنة روادها مع رواد الأيام الخوالي، إذ تغلب على رواد اليوم صفات البطالة والقلة والعوز، ومعهم كتبة الإعلام الضحل المبتذل لتغطية صفقات سماسرة السفارات الضامنة لإنتشار الفقر والفوضى والبطالة، في بلد الطائفية السياسية المتزمتة ‘والمالية المتوحشة. كتبة يحتسون القهوة، ويترقبون الفراغ في عيون العابرين الى المستقبل المجهول، من سوريين نازحين، ومتسولين
يملأون الزوايا وتقاطع الشوارع. وقد سها هؤلاء الكتبة عن أخبار أثرياء سوريا الذين رفعوا أسعار العقارات في بيروت وضواحيها الى سقوف خيالية لا يصدقها علماء الإقتصاد. أدركت بعد حين أنني تائه عن استرجاع الحنين الى المكان، وغارق في هذا الفراغ العارم ‘الذي يلف هذا الشارع من أوله الى آخره. لم أجد بدا من الركون في كرسي أحتسي فيه فنجان قهوة، وأنفث دخان الغليون الفريد ‘في صناعته وشكله، لأستعيد من خلال دخان التبغ المحشو فيه، صور وأطياف الحسناوات الحور اللواتي كن يسحرنني في قوامهن الجميل، ولباسهن الأنيق، وخطوهن الرشيق وخطرهن العاطر. أرهقت ذهني في استحضارهن، وعدت الى القبول بواقع أفول زهو الشارع، ومشاهدة عبور فلول ‘الربيع العربي’، الذين فقدوا الأناقة والرشاقة على اعتاب القادة الخالدين، ولاذوا في أزقة النزوح القاتل، وغفلوا عن القابعين أبدا على صدورهم الخانعة.
آلمتني فكرة الحنين الى شارع كان يختصر الحلم العربي، من الأطلنطي الى ‘القرنة’ في العراق حيث مناجم اليورانيوم الطبيعي وليس فقط اليورانيوم المنضب الذي صبه جورج بوش، الإبن الضال، على مئات الآلاف من أطفال جنوب العراق الأبرياء وأمسى هذا الحلم ملاذا للمدخنين الفقراء، بعد قرار منع التدخين في الأماكن المقفلة. عدت الى السيارة بخطى متثائبة، وكانت الطفلة المتسولة لا تزال جالسة على الرصيف، وعلى محياها الملائكي ملامح التعب والإرهاق والجوع. مرت سيدة – آية في الجمال – ‘تسير الى جانبها طفلتها الصغيرة، التي بدت كأنها تؤأمة الطفلة المتسولة، ولا تقل عنها سحرا وجمال خلق. استوقف الطفلة مشهد المتسولة، وأصرت على والدتها التوقف، وفتح كيس بلاستيكي شفاف كانت تحمله لها.
تطلعت الطفلة الى داخل الكيس وأخرجت قطعة من البسكويت المحلى، وأعطتها الى المتسولة مع إبتسامة قل أن نشاهدها عند البالغين، ‘نعم، أعطتها ما كانت هي تشتهيه لنفسها. أذهلني وأفرحني هذا المشهد الإنساني الحق والسامي في براءته المطلقة، الذي تجسد مع هاتين الطفلتين. مباركة جذوة الروح الطاهرة التي تحبو في ضمير هذه الطفلة العابرة، وملعونة روح الشر الكامنة في دواخل المخلوقات الجهنمية التي أودت بالطفلة المتسولة الى هذا المصير المحزن والجارح. وفي طريق عودتي، دخلت من جديد في نفق زحمات سير متتالية، أتأمل هذا التكاثر العمراني – من أبراج وناطحات سحاب في طول بيروت وعرضها، فيما العوز والجوع والبطالة تقض بطون ومضاجع الأكثرية المطلقة من اللبنانيين والنازحين! لا تفوتك، وأنت متجمد في زحمة السير، تلك الحركة التسويقية والأقتصادية الناشطة، التي يشكلها هؤلاء الفتية المنتشرون على امتداد جسر فؤاد شهاب، من باعة ومتسولين، دون حسيب أو رقيب، أو وازع من حصول حادث مروري
أو أمني، في أية لحظة. تتعجب حول كيفية وصول هؤلاء وبقائهم في هذا المكان وهم يسوقون بضاعة مهربة ومزيفة، و’على عينك يا تاجر’، كما يقول المثل
الشعبي، في بلد لا فرص عمل فيه سوى في المؤسسات الرقابية الأمنية. تشعر حينها أنك وجود هلامي عابر، لا أمان فيه لأخيار الناس، بل لأوباش وحثالة وسوقة القوم..
لا يسعني القول سوى الإقرار أن ‘نوستالجيا’ اللبنانيين الأخيار لا يمكنها أن تتعدى القهر الذاتي، والإحباط الكامل. هذا هو ديدن كل خيال ونفس سامية ومتفلتة من براثن الفساد المستشري، والإستغلال البغيض والرخيص، والقتل المجاني على الهوية الدينية المختطفة من أئمة الكفر والتكفير، وبئس المصير .

سعد نسيب عطاالله
لبنان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية